آية كريمة، وخبر مستفِز
بداية، إليكم الآية، وفي الرد التالي سنقرأ معا الخبر المستفز، ونبدي آراءنا:
يقول الله عز وجل: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).
فالإرادة والأمر في هذه الآية هما: الإرادة القدرية الكونية، والأمر القدري الكوني، لا الإرادة والأمر الشرعيان، فالله، عز وجل، لا يريد الشر شرعا، فقد نهى عنه، ووعد تاركه، وتوعد فاعله، وإن أراده كونا، فهو خالق الخير والشر، بخلاف ما ذهب إليه نفاة القدر من نفي خلق الله، عز وجل، لخلق أفعال العباد، ومن توسط منهم نفى خلق الله، عز وجل، للشر، فوصفه بالعجز، تعالى عما يصفه الظالمون به علوا كبيرا، عن خلق أفعال عباده لينزهه عن الظلم، بزعمه، والتحقيق أن الله، عز وجل، يخلق الشر، لأنه مراد لغيره، لا لذاته، ففي خلقه من الحكم ما لا تدركه عقول البشر القاصرة، فيكون الأمر في باطنه: منحة، وإن كان ظاهره: محنة.
ونظير هذا الأمر في القرآن الكريم:قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا).
وقوله تعالى: (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ).
وقوله تعالى: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).
وقوله تعالى: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ).
وقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وقوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا).
وقوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)، فالأمر الأول واحد: الأمور المقضية، والأمر الثاني: واحد الأوامر الكونية التي تقضى بها الأمور.
وقوله تعالى: (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ).
وقوله تعالى: (قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فأراد، عز وجل، خلق المسيح، عليه الصلاة والسلام، من أم بلا أب، فخلقه بالكلمة القدرية الكونية: "كن"، فكان عليه الصلاة والسلام.
واختار بعض أهل العلم، ومنهم الشيخ الشنقيطي، رحمه الله، أن الأمر هنا هو:
الأمر الشرعي، فيكون في الآية محذوف دل عليه السياق، فتقدير الكلام: أمرنا مترفيها بالطاعة، فعصوا الأمر الشرعي، ففسقوا فيها، فاستحقوا العقوبة، وهذا ما يعرف عند الأصوليين بدلالة: "الاقتضاء"، وهي تقدير محذوف دل عليه السياق يتم به المعنى، وحذف ما دل عليه السياق، وجه من أوجه الإيجاز البليغ، وهو أمر مطرد في آيات الكتاب المبين.
فيكون الأمر في هذه الآية من قبيل الأمر في:
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).
وقوله تعالى: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)، الشرعي: بعدم إيذائها، فهو تكليف شرعي.
وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).
وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، لما أمره بالسجود، فهو تكليف شرعي أيضا.
وقوله تعالى: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ)، فالإشارة إلى الكلام المنقضي عن عدد النساء، وهو تكليف شرعي أيضا.
وتتبع مادة: "أمر" بشقيها: الكوني والشرعي، في الكتاب المنزل، أمر يستحق العناية فبه تزول كثير من الإشكالات لاسيما في زماننا الذي علا فيه صوت الباطل، بقدر الله، عز وجل، الكوني، وذل فيه أهل الحق، لتكاسلهم عن القيام بأمر الله، عز وجل، الشرعي.
وأشار الشيخ الشنقيطي، رحمه الله، في "أضواء البيان" إلى وجه ثالث وهو:
أن يكون المقصود في هذه الآية: هو "أكثرنا"، ومنه قول أبي سفيان، رضي الله عنه، في حديث هرقل، وكان يومئذ على الشرك: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر)، أي: كثر أمره واشتد.
وأشار القرطبي، رحمه الله، إلى وجه رابع على قراءة من شدد ميم: "أمرنا"، فيكون المعنى:
جعلناهم بأمرنا الكوني أمراء على الناس وسادة، فأفسدوا في الأرض فاستحقوا الوعيد، كما هو حال كثير من البشر الآن.
يقول القرطبي رحمه الله: "وهى قراءة علي، رضى الله عنه، أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم". اهـ