ما لنا ندعوا فلا يُسْتجَابُ لنا ؟!
الدعاء عبادة تقوم على سؤال العبد ربَّه والطلب منه، وهو من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو مِنْ أَنْفع الأدوية للأمراض، وسببٌ لدفع المكروهات والكربات، وهو استعانة من عاجزٍ ضعيف بقويٍ قادر، واستغاثة من ملهوف بربٍ مُغيث، وتوجه إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّة، أو يَرْفَعَ مِحْنَة، أو يَكْشِفُ كُرْبَة، أو يُحَقِّقُ رَغْبَة، وهو أحد أسباب دفع ورفع البلاء الذي نزل بالعبد ولم ينزل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إِنَّ الدعاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نزلَ ومِمَّا لمْ يَنْزِلْ، فَعليكُمْ عِبادَ الله بالدعاء ) رواه الطبراني وحسنه الألباني .
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المُعَدُّ لكل ما يُتوقع
يا من يُرجَّى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن ملكه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رُددتُ فأي باب أقرع؟
وللدعاء أسباب وشروط ينبغي مراعاتها والأخذ بها، حتى يكون الدعاء مقبولاً مستجاباً، وله موانع تمنع إجابته، وهذه هي بعضها :
أسباب قبول الدعاء
ـ الإخلاص
يأتي في مقدمة شروط قبول الدعاء الإخلاص لله، وإفراده سبحانه بالقصد والتوجه، فلا يدعو العبد إلا الله، ولا يسأل أحداً سواه، قال الله تعالى: {فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ} (غافر:14)، وقال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} (الجنّ:18).
ـ الاطمئنان واليقين بقبول الدعاء
من أسباب قبول الدعاء قوة اليقين بقبول واستجابة الله عز وجل له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة) رواه الترمذي، فعلى المسلم أن يطمئن ولا يتردد، ولا يستعجل الإجابة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئتَ، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مُكْرِهَ له) رواه البخاري.
ـ الخوف والرجاء وخفض الصوت في الدعاء
يقول الله عز وجل: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } (الأعراف:55-56)، ويُستنبط من ذلك وجوب الخشوع والتضرع والرجاء في الدعاء . قال ابن كثير في تفسيره: "{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} قيل معناه: تذللا واستكانة، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}: خوفاً مما عنده من وبيل العقاب، وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب". وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيها الناس! ارْبَعُوا -هونوا وأشفقوا- على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنكم تدعون سمعياً قريباً، وهو معكم) رواه البخاري .
ـ الكسب الحلال
أمرنا الله سبحانه بذلك، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة:168)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أيها الناس! إنَّ الله طيب لا يقبل إلاّ طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم} (المؤمنون:51)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة:172)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يدَيه إلى السماء يا ربِّ يا ربِّ! ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستجابُ لذلك) رواه مسلم.
ـ الدعاء بالخير وعدم الاستعجال
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما على الأرضِ مسلِمٌ يدعو اللَّهَ تعالى بدعوةٍ إلَّا آتاهُ اللَّهُ إيَّاها، أو صرفَ عنْهُ منَ السُّوءِ مثلَها، ما لم يدعُ بمأثمٍ أو قطيعةِ رحمٍ) فقال رجلٌ منَ القوم: إذًا نُكثرُ، قال: (الله أَكثَرُ) رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل) قيل: يا رسول الله! وما الاستعجال؟ قال: (يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَعْ (يترك) الدعاء) رواه مسلم.
أسباب عدم قبول الدعاء
عدم الإخلاص فيه، لأن الله تعالى يقول: {فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ} (غافر:14)، وقال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} (الجنّ:18)، فالذين يدعون أصحاب القبور والأضرحة والأولياء والصالحين، أو يشركونهم مع الله في دعائهم، فهؤلاء لا يستجيب الله دعاءهم، فالله سبحانه أمرنا أن ندعوه مباشرة من غير واسطة أحد، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186)، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60).
ـ أكل الحرام وشرب الحرام ولبس الحرام
من أعظم موانع استجابة الدعاء أكل وشرب ولبس الحرام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم.
ـ القلب الغافل
من موانع قبول الدعاء أن يدعو الإنسان وقلبه غافل عن ذكر الله وطاعته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه) رواه الحاكم.
ـ عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من أسباب عدم قبول الدعاء ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم، قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن أن يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه، فلا يستجيب لكم) رواه الترمذي.
ـ الدعاء بإثمٍ وشَرّ، واستعجال القبول
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل) قيل: يا رسول الله وما الاستعجال؟، قال: (يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَعْ (يترك) الدعاء) رواه مسلم، وفي رواية ابن حبان: (لا يزالُ يُستجابُ للعبدِ ما لَمْ يَدْعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رحِمٍ ما لَمْ يستعجِلْ) قيل : يا رسول الله ما الاستعجال؟، قال: (يقول: يا ربِّ قد دعَوْتُ وقد دعَوْتُ فما أراكَ تستجيبُ لي، فيدَعُ الدُّعاءَ). قال ابن القيم: "ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء: أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدَعَ الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله".
ـ المعاصي
صاحب المعصية يتسبب في حرمان نفسه من النعم التي من جملتها استجابة الدعاء، فإن المرء قد تصيبه المصيبة ويُحرم النعمة بسبب ذنب أذنبه، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30 )، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "بالورع عمَّا حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح"، وقال أحد السلف: "لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طرقها بالمعاصي".
نحن ندعو الإله في كل كربٍ ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ قد سددنا طريقها بالذنوب
وقد ذكر ابن القيم بعض الأسباب المانعة من إجابة الدعاء فقال: "وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه في نفسه ـبأن يكون دعاء لا يحبه الله، لما فيه من العدوان ـ وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً، فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو، وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا".
ومرَّ إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة يوماً، فالتف الناس حوله، وقالوا يا أبا إسحاق! يرحمك الله، ما لنا ندعو الله فلا يُستجاب لنا؟ فقال إبراهيم: لأنكم أمتم قلوبكم بعشرة أشياء: عرفتم الله، فلم تؤدوا حقوقه، وزعمتم حب رسوله، ولم تعملوا بسنته، وقرأتم القرآن، ولم تعملوا به، وأكلتم نِعَم الله، ولم تؤدوا شكرها، وقلتم بأن الشيطان لكم عدو، ولم تخالفوه، وقلتم بأن الجنة حق، ولم تعملوا لها، وقلتم بأن النار حق، ولم تهربوا منها، وقلتم بأن الموت حق، ولم تستعدوا له، ودفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بهم، وانتبهتم من نومكم، فانشغلتم بعيوب الناس، ونسيتم عيوبكم".
وما ورد من بعض الأسباب والذنوب التي تحول دون استجابة الدعاء، ينبغي أن يُحمل على الذنوب التي لم يتب منها صاحبها توبة نصوحاً؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة النصوح تجب ما قبلها، فإذا صدق العبد، وتاب إلى ربه من ذنوبه المانعة من استجابة دعائه، كان ذلك سببًا -بإذن الله- في استجابة دعائه.
هذه بعض أسباب قبول الدعاء وعدم قبوله، فاحرص أخي المسلم أن تستجيب لله تعالى، وأن يكون حالك مع أمر الله الامتثال والطاعة، ومع نهيه الاجتناب والبعد، واستفتح دعاءك بالثناء على الله تعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتحرَّى أوقات الإجابة في وقت السحر(الثلث الأخير من الليل)، وفي السجود فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وعند الأذان، و بين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من نهار يوم الجمعة.. واستقبل القبلة في دعائك، وارفع يديك في ذلٍ وتضرع، مع عدم رفع الصوت وتكلف السجع، واعلم أن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب لا يُرد .. فحقِّق في نفسك أسباب وشروطً قبول الدعاء، وابتعد عن أسباب وموانع إجابة الدعاء، حتى يكون دعاؤك مقبولاً.
يا من أجاب دعاء نوحٍ فانتصَر وحَملْته في فُلككَ المشحونِ
يا من أحال النَّار حول خليله رَوحاً وريحاناً بقولك كوني
يا من أمرتَ الحوت يلفظ يونس وحميته بشجيرة اليقطينِ
يا رب إنَّا مثله في كُربةٍ فارحم عباداً كلهم ذو النون