أغلى بطاقة
لم يعلم قارون أن بطاقة السحب الآلي التي في جيوبنا، تُغني عن مفاتيحه التي يعجز عن حملها أشداء الرجال" تُساق هذه الموعظة الموجزة تذكيراً بنعم الله علينا في أيامنا هذه حتى نتذكّر ضرورة الشكر عليها، وعلى جماليّة هذه المقارنة الرائعة، فثمّة مقارنةٌ أخرى أكثر عُمقاً وأشدّ خطورة، كشفَ لنا الوحي عنها، ونبّه عليها.
وبمثلِ هذه العبارة التي جاءت في مقدّمة الموضوع، يمكن أن نُجاريَها فنقول: "لم يعلم قارون أن ثمّة بطاقة أخرويةً فرّطَ فيها، وأضاع فرصةَ امتلاكها، تعدل كلّ أعماله التي صدرت عنه طيلة حياته، ويثقل وزنها وتعظمُ قيمتُها، بل وتكون سبباً في أبديّةِ سعادتِه، وديمومةِ راحتِه"، إنه إذن الحديث عن أغلى بطاقةٍ عرفتْها البشريّة على الإطلاق: لا إله إلا الله.
وإذا كانت أعمدة البيع تقوم على الثمن، والمُثمن -السلعة-، ومُعطي السلعة، والحاصل عليها، فإن المُثمن هنا: تلك البطاقة الغالية، والثمن: الشهادتان، والله يُعطي عبادَه المؤمنين تلك البطاقة المصيريّة، لتكون وسيلتَهم للفوز بجنّةٍ عرضها السماوات والأرض.
ووقتُ الحصول على هذه البطاقةِ يوم القيامة، يومَ تُعرض الأعمال على الله تعالى، ويوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويومَ يكون الحساب، في موازناتٍ تختلف، لا تُقاس بالجرامات ولا بالأرطال، ولكن بالأعمال والأفعال: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (الكهف:105).
وتفاصيلُ الحكايةِ يرويها عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله سيخلّص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيُنشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ، كل سجلٍّ مثل مدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى! إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فقال: إنك لا تُظلم. فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء) رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما.
يأتي هذا المشهد في سياق الحديث عن فضل التوحيد، وكيف أنه سبب في عتقِ صاحبِه من النار، بالرغمِ من كثرة ذنوبِه من جهة، وقلّة صلاحه من جهة أخرى، ولفضلِ التوحيد ومنزلته يروي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولَه: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل) رواه البخاري.
وإن لهذه البطاقة أثراً في تكفير الذنوب، كما مرّ بنا في المشهد الأخروي، وتأمل معي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات حين يُصبح، كتب الله له بها مائة حسنة، ومحا عنه بها مائة سيئة، وكانت له عِدْل رقبة، وحُفِظ بها يومئذٍ حتى يُمسي، ومن قالها مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك) رواه أحمد، والشاهد هنا هو قولُه: (ومحا عنه بها مائة سيئة) فهي محوٌ يومي لآثار السيئات، التي لا يخلو منها أحد.
ولا شك أن صاحب السجلات قد أخلص التوحيد من كلّ شركٍ على ما كان منه من تقصيرِ عملٍ في جنبِ الله، وعلى ما كان من ذنوبٍ وهفواتٍ ارتكبها ولم يستطع فيها منع نفسِه الأمّارة بالسوء، حتى بلغت -وبمقتضى الحديث السابق- تسعةً وتسعين سجلاً، سوداءَ في مضمونها، تستدعي العقوبةَ الإلهيّة، ومع ذلك كلّه، لم تكن تلك الذنوب المتكاثرةِ مانعةً من تحقيق التوحيد، قال ابن القيم: "تأمّل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقّل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات: لَمَّا لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات، انفردت بطاقته بالثقل والرزانة" فالإيمان يتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص.
والسرّ الذي يُقل البطاقة مذكورٌ في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يثقل مع اسم الله شيء)، بل يترجّح ذكر الله تعالى على جميع المعاصي. قال تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت:45)، وفي الحديث القدسي: (قال موسى: يا رب! علمني شيئاً أذكرك به، وأدعوك به، قال: يا موسى! لا إله إلا الله، قال موسى: يا رب! كل عبادك يقول هذا، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت، إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) رواه النسائي في "سننه الكبرى" وابن حبان والحاكم.
أما الثمن الحقيقي لهذه البطاقة، فليس متاعاً ينفَد، أو رغبةً آنيَّة، ولكن سعادة أبديّة، لا شقاء بعدها: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة، فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً) رواه البزّار.