اقصي المدينه ، رجل ، قوم موسي ، بني اسرائيل
مسيرة الدعوة إلى الله بدأت مع مطلع تاريخ النبوات، واستمرت عبر الزمان والمكان لا تلوي على أحدٍ، وستبقى قائمة سائرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وليكون الدين كله الله.
ضمن سياق الجهود الدعوية المباركة، يحدثنا القرآن الكريم عن رجل داع إلى الله، يصفه بأنه جاء من أقصى المدينة يسعى داعياً قومه إلى صراط مستقيم، ومنذراً إياهم من عذاب يوم أليم.
يقول سبحانه مخبراً خبر هذا الساعي من أقصى المدينة، والداعي إلى الله على نور وبصيرة: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} (يس:20).
وردت هذه الآية الكريمة في سياق آيات تتحدث عن ثلاثة رسل بعثهم الله إلى أهل قرية، يدعونهم إلى عبادة الله، فلم يستجب لهم أهل تلك القرية، وهموا بقتلهم، فجاء ذاك الرجل الداعي إلى الله؛ ليقوم بواجبه الدعوي، ويمنع قومه من إدخال الأذى على هؤلاء الرسل.
روى ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى؛ لينصرهم من قومه، وكان يعمل في صناعة الحبال، وكان رجلاً سقيماً، قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة، يتصدق بنصف كسبه، مستقيم النظرة. فحض قومه على اتباع الرسل، الذين أتوهم لإبلاغ رسالة ربهم فيما يدعونهم إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له. فأنكر قومه عليه تلك الدعوة، ولم يلتفوا إليه، وظلوا في طغيانهم يعمهون.
وليس يعنينا كثيراً هنا اسم ذلك الرجل الساعي - وقد ذكروا أن اسمه حبيب النجار -؛ إذ لا يترتب على معرفة اسمه حكم شرعي، فالعلم باسمه والجهل به يستويان.
وأول ما ينبغي ملاحظته هنا، أن القران الكريم عبر عن (القرية) بلفظ (المدينة)؛ إذ قال في بداية الخبر: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية} (يس:13)، ثم قال بعدُ: {وجاء من أقصى المدينة}، ولا خلاف بين أهل التفسير أن هذا الآتي هو من أهل تلك القرية، بدليل قوله سبحانه: {قال يا قوم اتبعوا المرسلين}.
وثاني ما ينبغي ملاحظته في شأن هذا الخبر القرآني، أن المكان الذي قصده الرسل الثلاثة لتبليغ دعوة الله، لم يكن مكاناً صحراويًّا، بل كان مكاناً حضريًّا، ما يعني أن الرسل عليهم السلام كانوا يولون عناية بالأماكن التي تشهد حضوراً بشريًّا، وحراكاً اجتماعيًّا، ونشاطاً اقتصاديًّا.
وثالث ما ينبغي ملاحظته في هذا الخصوص -وهو الأهم- التعبير القرآني {أقصى المدينة}، فقد تناول المفسرون هذا التعبير بالتحليل والتفسير، وذهبوا في شأنه مذاهب:
فقال بعضهم: إن {أقصى المدينة} يعني: الطرف الآخر من المدينة، وأن هذا الشخص كان يسكن فيه. وهذا التفسير يلحظ الجانب المكاني، ويغض الطرف عن غيره من الجوانب الثقافية والاجتماعية.
وقال آخرون: إن {أقصى المدينة} يعني: الطبقة الراقية من المدينة، أي من طبقة أشراف المدينة. وهذا يعني أن هذا الآتي {من أقصى المدينة} كان من علية القوم، وكان يسكن في ضاحية المدينة، ومن الطبقة الغنية التي لا توجد لها علاقة حميمة مع غالب أهل المدينة. وهذا التفسير يلحظ الجانب الاجتماعي، ويرشد إلى أن هذا الآتي كان من طبقة اجتماعية لها نوع تميز.
وذهب فريق ثالث إلى أن هذا التعبير يشير إلى شخص بعيد من ناحية طراز التفكير والفهم عن أفكار قومه، وأنه كان ذا مستوى أرفع منهم. وكلام هذا الساعي وقوله: {يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} (يس:20-21)، يدل على هذا الفرق في مستوى التفكير. وهذا التفسير يلحظ الجانب الفكري، ما يعني أن هذا الساعي كان يتمتع بفكر يخالف ما عليه قومه.
وبحسب التفسيرين الثاني والثالث فنحن أمام شخص له مكانته الاجتماعية، وتفكيره المستقل عن تفكير أهل المدينة، وهو شخص -بحسب الآية- يسارع في الخيرات، ويستشيره أهل المدنية كلما حزبهم أمر، ويطوي بين جوانحه حب الخير لقومه، ويتمنى أن يصلوا إلى السعادة التي وصل إليها. وقد تبنى في دعوته لقومه أسلوب الأنبياء والمرسلين، حيث حاول أن يشرح لهم طريق الهداية، ويهديهم سبيل الرشاد، كل ذلك برفق وحكمة. ومع هذا فقد همَّ قومه بقتله، كما هو شأن الجهلاء، الذين يعيشون في طغيانهم يعمهون، ويغمضون أعينهم عن الحق المبين.
وليس يخفى، أن هذا الطراز من التفكير السديد، والسلوك السوي هو طراز المخبتين في كل عهد، والمخلصين في كل زمان. فها هو ذا سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم مع ما أصابه يوم أُحُدٍ، من كَسْرٍ لرباعيته (أسنانه)، وسيلٍ للدماء من بدنه، نجده يدعو إلى الله بكل قوة وعزيمة، وهو لا يفتأ يقول: (اللهم اهدِ قومي، فإنهم لا يعلمون).
ويذكر القرآن الكريم حادثة أخرى تصب في هذا المنحى، جرت في عهد موسى عليه السلام. وتحمل تلك الحادثة وهذه الحادثة خطوطاً عامة مشتركة. في تلك الحادثة نرى فرداً من قوم فرعون، -ذلك الطاغوت الذي كان متحكماً في رقاب العباد، وناهباً لخيرات البلاد- عندما علم نية فرعون على قتلموسى، لم يتمالك نفسه، بل أنكر على فرعون وأتباعه فِعْلَتَهم تلك أشد النكير، وخاطبهم بقوله: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} (غافر:28).
وفي ظل ذلك الوسط الفرعوني الطاغوتي لم يكن من السهل لشخص من عامة الشعب الوقوف ضد قتل موسى واغتياله، ومع هذا فإن قوة الإيمان دفعت ذلك المؤمن للوقوف في وجه الطاغوت والطغيان، ونطق بكلمة الحق، غير آبهٍ بسوء العاقبة.
وفي تاريخ السيرة النبوية نرى مثل هذا الموقف عند أبي بكررضي الله عنه؛ ففي أثناء قيام المشركين بتعذيب المسلمين حتى الموت، كان أبو بكر الصديق -وكان من عِلية القوم- يقول العبارة نفسها التي قالها مؤمن آل فرعون: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله}.
والحوادث التي يبينها القرآن الكريم تتكرر على مر الزمن، واختلاف المكان، تحت صور مختلفة، ولكن طبيعتها واحدة، فنحن لا نعدم على مر تاريخ الإسلام القديم والحديث والمعاصر أمثال هذه المواقف، ما يعني أن هذه السنة الدعوية التي أخبرت عنها الآية الكريمة جارية بنظائرها وبأمثالها حتى يوم القيامة، لا تتغير ولا تتبدل ما دامت السموات والأرض. ومن تتبع تاريخ الرسل والدعاة يجد سجلاً حافلاً في هذا الشأن منذ فجر الرسالة والنبوة وحتى يوم الناس هذا، وستبقى هذه السنة كذلك إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
والذي ينبغي على المسلم الاهتمام به هنا -استرشاداً بهذه الآية الكريمة- الحرص على الدعوة إلى الله على بصيرة، وفي كل مناسبة، وأن يجعل ذلك منهجاً ثابتاً في حياته، فيعش لدعوته، ويموت من أجلها، يصدع بالحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، ويدعو إلى الخير، ولا يعول على حقد حاقد، ويمضي قُدماً، لا يلوي على الصعاب التي تواجهه، ويعلم علم اليقين، أن العاقبة للعاملين والمخلصين والمتقين.