معركة البويب13 هـ
كانت هذه المعركة بالعراق نظير معركة اليرموك التي وقعت بالشام ، وقد بدأت فصولها عندما انهزم المسلمون أمام الفرس في وقعة " الجسر " وذلك في شعبان سنة 13 للهجرة ، فبلغ الخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فندب الناس إلى الانضواء تحت قيادة المثنى بن حارثة الذي انحاز بالمسلمين غربيّ نهر الفرات ، وأرسل إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يطلب منهم الإمداد ، وأرسل إلى عمر فبعث إليه بمدد كثير فيهم جرير بن عبد الله البجلي على رأس قبيلته " بجيلة " ، كما أرسل كلاً منهلال بن علقمة و عبدالله بن ذي السهمين ومعهما طائفة من الرباب وأفراد من قبائل خثعم ، ولما وفد إلى عمر ربعيّ بن عامربن خالد و عمر بن ربعيّ بن حنظلة في نفرٍ من قومهما ألحقهما بالعراق ، لتتوالى الوفود في نصرة إخوانهم ومدّهم بالقوّة والسلاح .
وترامت الأنباء إلى " رستم " قائد الفرس بأن المسلمين قد حشدوا له الحشود ، فجهّز جيشاً عظيماً بقيادة "مهران الهمداني " ، ولما سمع المثنى بذلك كتب إلى أطراف الجيش الذين قدموا لنجدته قائلاً لهم : " إنا جاءنا أمرٌ لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا ، فعجّلوا اللحاق بنا ، وموعدكم " البويب " - وهو مكان بأرض العراق قريب من الكوفة اليوم – " ، فتوافوا جميعاً هناك في شهر رمضان سنة 13 للهجرة .
وكان " مهران " قد وقف في الجهة المقابلة لنهر الفرات ، وأرسل إلى المثنى يقول له : " إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك " ، فقال له المثنى : " بل اعبروا إلينا " ، فعبر " مهران " فنزل على شاطىء الفرات ، وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صفٍّ فيل ، ولهم زجلٌ وصياح : فقال المثنى لأصحابه : " إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت " .
ثم عبّأ المثنى جيشه وأمرهم بالإفطار ليتقووا على عدوهم فأفطروا ، وطاف بين الصفوف وهو على فرسه ، فجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء والقبائل ، يحرضهم ، ويرفع معنوياتهم ، ويحثهم على الجهاد والصبر ، ويثني عليهم بأحسن ما فيهم ، وكلما مرّ على صفٍّ قال لهم : " إني لأرجو ألا يؤتى الناس من قبلكم بمثل اليوم ، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامَّتِكم " فيجيبونه بمثل ذلك ، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل ، وخالط الناس فيما يحبون وما يكرهون ، فاجتمع الناس عليه ولم يعب له أحد قولاً ولا فعلاً ، وفي ذلك دلالة بيّنة على حنكته في قيادة جنده وحسن تدبيره ، حيث حرص على استمالة قلوب جنده مما يكون له أثر بالغ في وحدة الصف وقوة التلاحم بين أفراد الجيش .
ثم قال لهم : إني مكبر ثلاثًا فتهيّئوا فإذا كبَّرت الرابعة فاحملوا ، فلما كبَّر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس وحملوا عليهم ، فالتحم الفريقان واقتتلوا قتالاً شديداً ، وعندها رأى المثنى خللًا في بعض صفوفه فبعث إليهم رجلاً يقول لهم : " الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم : " لا تفضحوا المسلمين اليوم " ، فتماسَكُوا واعتَدَلُوا وضحك المثنىإعجاباً منه بصنيعهم ، ثم بعث في الناس من يقول : " يا معشر المسلمين عاداتكم ، انصروا الله ينصركم " ، فجعلوا يدعون الله بالنصر والظفر .
ولما طال القتال جمع المثنى نفراً من أصحابه الشجعان يحمون ظهره ، وحمل هو على "مهران " فأزاله عن موضعه حتى أدخله في الميمنة ، وزاد المثنّى من ضغطه على العدوّ حتى اختلطت الصفوف ، واشتدّ القتال .
وفي أثناء ذلك ، أصيب مسعود بن حارثة قائد مشاة المسلمين وأخو المثنى ، ولم تزل جراحه تنزف حتى فارق الحياة ، ورأى المثنى ما أصاب أخاه فقال للناس : " يا معشر المسلمين ، لا يرعكم مصرع أخي ؛ فإن مصارع خياركم هكذا " .
ثم تقدّم المسلمون نحو قلب الجيش بما فيهم المثنى وكوكبة من فرسان الجيش ، وحمل المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران فطعنه ، واجتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي ، فتضعضع جيش الفرس ، وحاولوا الفرار ولحق المسلمون في إثرهم ، وكان المثنى قد سبق إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من العبور عليه ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى قيل : إنه قتل منهم يومئذ وغرق قريبٌ من مائة ألف ، وبقيت جثث القتلى وعظامهم دهراً طويلاً ، وسمي هذا اليوم بيوم الأعشار ، فقد وجد من المسلمين مائة رجل ، كلُّ رجل منهم قَتَل عشرة من الفرس .
وهكذا أذلّ الله رقاب الفرس ، واقتصّ منهم المسلمون بعد الهزيمة التي لحقت بهم في معركة " الجسر " ، ومهَّدت وقعة " البويب " للفتوحات في بلاد العراق ، والقضاء على الإمبراطورية الفارسية .