خصائص لُغة الحديث النّبويّ الشّريف 2-3
لا يزال حديثُنا موصولًا عن جُملة من الخصائص المميّزة للغة الحديث النّبويّ الشّريف، الّتي وقف عليها بعض الباحثين المتخصّصين عند دراستهم لأحاديث صحيحي البخاريّ ومسلم على مائدة الدّرْس اللُّغويّ.
وكنّا قد أشرنا في المقال الأوّل إلى عدد من تلك الخصائص؛ وهي - على سبيل الإجمال لا التّفصيل -: الغِنَى في الأفكار، والعمق في المعاني، وسبْر أغوار النّفس الإنسانيّة، والسّموّ، والشّمول، والارتقاء بالمستوى الإنسانيّ، والإحكام في عرض الأحكام الدّينيّة، وعدم التّناقض في سياق الأفكار، وقوّة التّراكيب اللّغويّة، وفصاحة الكلمات، ووضوح الدَّلالة، والبُعْد عن التّكلّف، والوصول إلى المعنى بسهولة ويُسر، وغِنَى الحديث النّبويّ الشّريف بألوان التّصوير والبيان، والمجاز اللّطيف المحرّك للنّفس، وتَكرار القول، واستخدام أساليب التّوكيد، والتّفصيل في القول، والتّمهّل في الحديث، والإبانة في النّطق.
ومن الخصائص الفريدة الّتي وقف عليها الباحثون في لغة الحديث النّبويّ الشّريف أيضا:
التاسعة: السّؤال والحوار في الحديث الشّريف:
سمة السّؤال، والحوار شائعة في الحديث النّبويّ الشّريف، وهي مرتبطة ارتباطًا منطقيًّا بسمات الحياة المشهودة، والجُمل الممتدّة المتداخلة؛ لأنّ السّؤال يكون من أفراد يشهدون الموقف، والحوار ينتج عن هذه التّساؤلات، والإجابات عنها.
وسمة السّؤال والحوار - كذلك - سمة بَدَهيَّة في الحديث الشّريف؛ لأنّه حديث نبيّ إلى قومه يُعلّمهم، ويُجيب عن أسئلتهم، ويُصحّح أخطاءهم، ويُلبّي دعواتهم.
لذلك فإنّ معظم أحاديث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا تخلو من هذه السّمة، وأحيانًا يكون الجواب ردًّا على سؤال غير مباشَر، كأنّما يريد النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أن يعفيهم من حرج السّؤال، وأكثر الأحاديث الّتي تكون كذلك تبدأ بمثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ما بالُ أقوامٍ..) أو ما يشبه معناها.
وقد وجد الباحثون أنّ زُهاء سبع وعشرين حديثًا نبويًّا قد بدأت بالسّؤال وردتْ في صحيحي البخاريّ ومسلم، ومن أمثلة الأحاديث النّبويّة الّتي ورد فيها السّؤال، والحوار:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هَلَكْتُ، قال: (ما أهلكك؟) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم - وفي رواية: أصبتُ أهلي في رمضان -، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (هل تجد رقبة تعتقها؟)، قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا، قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟)، قال: لا. قال: فمكث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبينا نحن على ذلك أُتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِعَرَقٍ فيه تمرٌ - والعَرَقُ: المِكْتَل - قال: (أين السّائل؟) قال: أنا، قال: (خُذ هذا، فتصدّق به). فقال الرّجل: على أفقر منّي يا رسول الله؟ فواللهِ ما بين لابتيْها - يريد الحَرَّتَيْن - أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بَدَتْ أنيابُه. ثمّ قال: (أطعِمْهُ أهلَك) متّفقٌ عليه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هَلَكَ أبي وترك سَبْعَ بناتٍ - أو تِسْعَ بناتٍ - فتزوّجُت امرأة ثيّبًا، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (تزوّجتَ يا جابر)، فقلتُ: نعم. فقال: (بِكْرًا أم ثيّبًا)، قلت: بل ثيّبًا، قال: (فهلّا جارية تُلاعبها وتُلاعبك، وتُضاحكها وتضاحكك)، قال: فقلتُ له: إنّ عبد الله هلك وترك بنات، وإنّي كرهتُ أنْ أجيئهنّ بمثلهنّ فتزوجتُ امرأةً تقوم عليهنّ، وتُصلحهنّ، فقال: (بارك الله لك) أو قال: (خيرًا) متّفق عليه.
العاشرة: التّقديم والتّأخير في الحديث الشّريف:
تقوم مسألة التّقديم، والتّأخير في علم النّحو العربيّ، وفي قوانين البلاغة على مبدأ كبير؛ وهو: (الاهتمام بموضوع القول الأساس)، ففي كلّ جُملة عربيّة يدور المعنى حول فكرة محدّدة، أو شخص معيّن، أو غرض مقصود يتوجّه إليه الكلام، ويسبق إليه الاهتمام.
وقد نظر علماء البلاغة إلى التّقديم والتّأخير نظرة أسلوبيّة تعبيريّة، ورأوا أنّه باب كثير الفوائد، جَمّ المحاسن، واسع التّصرّف، بعيد الغاية، ثم وجد الباحثون اللّغويّون أنّ التّقديم والتّأخير سمة شائعة في الحديث النّبويّ الشّريف، بل هو منتشرٌ في كلّ جملة، وفي كلّ نمط، وخلصوا أنّ التّفسير الرّئيس لكلّ حالة من حالات التّقديم لا يخرج عن:
أوّلًا: تقديم الأهمّ في الكلام.
ثانيًا: تقديم ما يسبق إلى خاطر المرء، وفِكْره، ونفسه، واهتمامه.
ثالثًا: تقديم ما هو موضع اهتمام المُخَاطَب.
رابعًا: اهتمام المتكلّم.
ومن الأمثلة على ذلك من الأحاديث النّبويّة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقٌّ فأغلظَ له، فَهَمَّ به أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ لصاحب الحقّ مقالًا...) متّفق عليه.. هنا تقدّم خبر (إنَّ) على اسمها؛ لأنّ صاحب الحقّ هو موضع الاهتمام في هذا الحديث الشّريف، وليس المقال، ولذا تقدّم الأهمّ على المهمّ.
وعن أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى شيخًا يُهادى بين ابنيه، قال: (ما بال هذا؟)، قالوا: نذر أن يمشي. قال: (إنّ الله عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ)، وأمره أن يركب. متّفق عليه.. وتقدير القول: إنّ الله لغنيّ عن تعذيب هذا نفسه، لكنَّ الرسول عليه الصّلاة والسّلام اهتمّ بتعذيب الرّجل نفسه، فقدّمه، وبيّن حُكمه.
وهكذا كانت لغة الحديث الشّريف تقدّم ما حقّه التّقديم، وتؤخّر ما ليس في المقام الأوّل من الأهمّيّة.
الحادي عشر: الإيجاز والاختصار في الألفاظ:
والإيجاز - كما عرّفه علماء البلاغة - هو: أداء المقصود من الكلام بأقلّ من عبارات متعارف الأوساط، وقيل: هو التّعبير عن المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
أمّا الاختصار: هو ترْكُ شيء ممّا يمكن أن يكون في بناء الجملة لدلالة الأجزاء الأخرى عليه، وقيل: هو حَذْفُ الفضول، وتقريب البعيد.
فالإيجاز - إذن - غير الاختصار عند أهل الاختصاص، وقد اتّسم الحديث النّبويّ الشّريف بسِمَتيْ الإيجاز والاختصار.
وقد اهتمّ العلماء - قديمًا وحديثًا - بخصيصة الإيجاز في الحديث النّبويّ، وصُنّف حولها المصنّفات، ولعلّ من أجمل ما قيل عن هذه السّمة ما قاله مصطفى صادق الرّافعيّ في (إعجاز القرآن والبلاغة النّبويّة): ".. ومِن كمال تلك النَّفس العظيمة، وغلبة فكره - صلّى الله عليه وسلّم - على لسانه، قلَّ كلامُه، وخرج قصدًا في ألفاظه، محيطًا بمعانيه، تحسب النَّفس قد اجتمعت في الجملة القصيرة والكلمات المعدودة بكل معانيها، فلا ترى من الكلام ألفاظًا، ولكن حركات نفسية في ألفاظ، ولهذا كثرت الكلمات الّتي انفرد بها دون العرب، وكثرت جوامع كلمه، وخلص أسلوبه، فلم يقصر في شيء، ولم يبلغ في شيء، واتّسق له من هذا الأمر على كمال الفصاحة والبلاغة ما لو أراده مريد لعجز عنه، ولو هو استطاع بعضه لما تمَّ له في كلّ كلامه؛ لأنّ مجرى الأسلوب على الطّبع، والطّبع غالب مهما تشدّد المرء وارتاض، ومهما تثبّت وبالغ في التّحفّظ".
ومن أمثلة الأحاديث النّبويّة الّتي تحقّق مستوى عاليًا من بلاغة الإيجاز:
حديث تميم بن أوس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (الدِّين النّصيحة..) متّفق عليه، وحديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى..) متّفق عليه، وحديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (إنّ الحلال بيّن والحرام بيّن..) متّفق عليه.
وللحديث بقيّة بمشيئة الله تعالى وحوله.