إذا ما تساءلنا عن المراد بالميتافيزيقا لوجدنا أن موضوع الميتافيزيقا قد تغير على مر العصور ولم يقف عند أرسطو وحده، فهي كانت تعني علم المثل لدى أفلاطون ثم صارت علم العلل عند أرسطو ولم تلبث أن صارت بمثابة علم الوحدة لدى المدرسة الأفلاطونية الحديثة ، وأما ديكارت فقد فهم منها أنها علم اللامادي بينما اعتبرها أسبنيوزا علم الجوهر وجعل منها ميلبرانش علم الصور، ولينش علم القوى البسيطة أو الذرات الروحية ثم جاء شلنج فأحالها إلى علم المطلق بينما جعل منها هيجل علم الفكرة المحضة أو ( الحقيقة الروحية ) ، ونحن هنا نكتفي بتناول العناوين دون الولوج في التفسير لكل نظرية لأنه قد لا يكون في طوق هذه الصفحات أن تلم بجوانب تلك الصلة المترعة التي تقوم بين ما يثوي في الوجود من أفكار هي قوام الفلسفة .
وهنا يبدو لنا اختلاف موضوع الميتافيزيقا عند كل هؤلاء الفلاسفة.
إذن نفهم من ذلك كله أن أول من نسبت إليه الميتافيزيقا هو أفلاطون ثم تحول مفهومها إلى بقية الفلاسفة. والناظر إلى فلسفة أرسطو الميتافيزيقية يرى أن هناك التقاءات كثيرة بين الوجودية وأفكار أرسطو وذلك أن هذا المفكر اليوناني المشهور كان قد أرسى التفكير الإنساني على أسس واقعية في عالم إنساني ، ويأتي رينيه ديكارت الفرنسي وهو أحد رواد الميتافيزيقا والذي كان له أعظم الأثر في تثبيت الفلسفة الأوربية الحديثة ، ورأيه في الوجود وأن كان يختلف عن رأي الوجودية الحديثة التي يتزعمها الفيلسوف الوجودي المعاصر جان بول سارتر .. إلا أننا نرى الوجود عنده اقترن بالماهية الفكرية وقد عبر عن ذلك في ( الكوجيتو ) المشهورة له في عالم الفلسفة ( أنا أفكر إذن أنا موجود ) ، ثم الرائد الميتافيزيقي الألماني شلنج الذي يعتقد بترابط الفكر والوجود عند الإنسان . والتي نرانا ملزمين في هذا المجال أن نتناول رواد النظريتين ليتبين للقارئ التقاء الأصول التاريخية لهاتين النظريتين وأنصارهما في بوتقة التفكير الإنساني منذ العصر الإغريقي إلى يومنا هذا .
ومفهوم الرمزية في الشعر هو أن الرمزية الحقيقية هي تلك التجربة الفنية التي لا حدود فيها بين مرحلة المضمون والشكل وإنما هما يوحدان في رؤيا نفسية تزول منها المميزات بين عالم الطبيعة وعالم النفس " ، حيث أن الشاعر ينعم حينما يتقصى الأشياء ليستبطن أسرارها لكنه يظل يشعر بالرغم من قرع الذهن والتقصي أن ما أدركه يختلف تماما عن تلك الصور الغامضة التي تعتري نفسه أمام حقائق الوجود ومظاهره وعلى هذا نرى أن معظم الشعراء الكبار يعبرون بالرموز وذلك لأن الرمز هو وسيلة حية صادقة للتوحيد بين الداخل والخارج وإسقاط الحدود بين عالمي المادة والروح .
وإن الرمز والغموض في الشعر لا يضعهما الشاعر اعتباطًا في قصيدته ، وإنما بمثابة عملية لاصطياد الرؤية العميقة التي تكمن في أعماق النفس الإنسانية .
إن الشاعر الرمزي يحاول أن يعبر عن أسرار الحياة النفسية السحيقة ، عن أعماقها اللاشعورية ، وأن يقبض على اللحظة الحضارية النفسية فيما هي تبرق وتخطف قبل أن يدركها الإدراك ويعيها الوعي ويجزئها إلى معان وأفكار ، لأن الفكر الشعري كما يقول نوفالس : " ليس فكرًا نفعيا أو فكرًا منطقيًا أو فكرًا نظريًا ، بل هو أولاً وبالذات فكر مغلفة في صور الخيال الرمزي " .
كذلك إن التعبيرات الشعرية كثيرًا ما تجيء مليئة بالشحنات الميتافيزيقية كما أن المفاهيم الميتافيزيقية كثيرًا ما تجيء مغلفة بالرموز الشعرية ، وإن الشعر لابد من أن يظل ميتافيزيقيًا ، ومن الجائز أيضًا أن يظل جوهر الميتافيزيقيا شعريًا ، حيث إن الشعر هو ميتافيزيقيا الأدباء كما أن الميتافيزيقيا هي شعر الفلاسفة.
إننا إذا ما درسنا بدقة وعمق كل ما قاله هؤلاء على سبيل المثال – ناهيك عما قاله الآخرون ، في هذا المجال – نجد أن المنطق والتجربة يؤيدان ذلك ، أولاً لأننا نفهم من كل ما قيل الآن عن الرمزية أنها ليست مجرد غناء أو صناعة جرسية وخطابة منبرية ، فالشعر الغنائي والخطابي انفعال ، في حين أن الشعر الرمزي الحديث خلق جديد للأشياء ، إنه في حد ذاته كشف للحظة الحضارية التي يعيشها الشاعر أي كشف من الداخل .. وثانيًا لأننا نفهم أن الغموض والرمز في الشعر إنما هما ناتجان لا عن سبب خارجي بل بسبب داخلي ، بطبيعة الرؤيا التي هي بمثابة مغامرة .
إن الشعر إذن كما قد قلت سابقًا عمق ميتافيزيقي من خلال ومضة تبرق في سماء الشاعر ، أي أنه كشف للحظة الحضارية التي يعيشها الشاعر .
هذه هي الرمزية التي نراها ، أما رمزية الشعراء التقليدين ، إنها تلك الصناعة اللفظية البلاغية التي يلجأ إليها الشاعر التقليدي في حالة التصدع الذهني وعدم مقدرته لما يريد أن يقوله ذهنيًا ، وإذا يريد الشاعر أن ينقل أفكاره وانفعالاته ذهنيًا وبكل وضوح فالأحرى به أن ينقلها نثرًا ، لأن الأفكار الذهنية ليس من اختصاص الشاعر وإنما هي من اختصاص الناثر الملتزم.