من المسلمات المعروفة في علم الاجتماع الإنساني أن المجتمع البشري لا بد أن يستند في تنظيمه وتسييره على نظرية حضارية، أو قاعدة حضارية مستخلصة من تاريخ الأمة وتطورها، نابعة من حاجاتها، متفقة مع أعرافها وخصائصها، مستفيدة من تجارب الإنسانية كلها، كي توحد بين أبنائها، وتدفعهم إلى التفاهم المشترك والتعاون في بناء الحياة والعمران.
ولم يكن الإسلام بدعًا عندما فرض أن يقوم مجتمعه على أساس المذهبية الإسلامية في الوجود، أو القاعدة الإيمانية المتمثلة بعقيدة التوحيد التي تجمع بين المسلمين جميعًا دون الالتفات إلى العوارض البشرية والبيئية المتنوعة، ويتفرع من ذلك أن المجتمع الإسلامي لا بد أن تحكمه شريعة الإسلام التي توجه المجتمع نحو الوحدة العقيدية والاجتماعية، وترسم له الخصائص الأخلاقية التي تحافظ على المجتمع الإنساني من أن يتحوَّل إلى مجتمع التمزق والصراع، والإلحاد والإباحية، أو ينتهي به التطور غير الموجه إلى مجتمع الغاب، الذي يفقد فيه الإنسان الأمن والحفاظ على حقوقه، وسمات آدميته المكرمة عند الله تعالى.
وفي سبيل بناء المجتمع القوي الموحد، دعا الإسلام إلى تحقيق العدالة المطلقة، بوجوهها كلها، مهما كلف الأمر في ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[1]، وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[2]، وقال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[3].
وفرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر للمحافظة على توازن المجتمع، وإبعاده عن الانحراف والسقوط، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}[4].
واعتنى أعظم العناية بتقوية الأسرة، وشرع لها نظامًا دقيقًا يبين فيه حقوق وواجبات أفرادها، وتنظيم معاملات النفقة، والزواج، والميراث، وتربية الأولاد فيها، وبذر بذور المحبة والإيثار والرحمة بينهم، لأن في تقوية الأسرة وضبط سلوك أطرافها تقوية للمجتمع وضبطًا لحركته، ونشرًا للقيم الإنسانية والاجتماعية الرفيعة بين أبنائه، حتى يبتعد عن الفوضى والتصادم، والتحلل الخُلُقي.
إن الدراسة الواعية للنظام الاجتماعي الإسلامي تجعلنا أمام حقيقة ساطعة وهي: أن المجتمع الإسلامي ليس مجتمعًا مغلقًا؛ بل هو مجتمع مفتوح، لا يقيم الإسلام فيه العلاقات الاجتماعية العامة على أساس التعصُّب العنصري، أو الطائفي أو الديني المغلق، وينطلق المجتمع الإسلامي في ذلك من أن الناس كلهم عيال الله، وأنهم سواء أمام الله، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن المسلمين وغيرهم متساوون في حقوقهم وواجباتهم أمام الشريعة الإسلامية، وأن الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة}[5]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[6]، وقال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}[7] .
وبناءً على ذلك فإنَّ الإسلام يدعو إلى تكافؤ الفرص للجميع، ولا يعيق أي إنسان في مجتمعه من أن يقوم باستعمال طاقاته، وتوجيه قابلياته، ووضعها في خدمة مجتمعه؛ لأنه يدعو إلى العمل الصالح في ذاته، والعمل الصالح هذا يتولَّد من تفجير الطاقات الإنسانية، ولن تكون لهذه الميزة قيمة في الإنسان إذا لم تعط الفرصة الكاملة المتساوية للجميع؛ كي يتنافسوا تنافسًا شريفًا، وفي ذلك يقول تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}[8]، ويقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[9].
ومن المعلوم أن الإسلام لا يجعل هذا التنافس أو السعي قاصرًا على المسلمين؛ وإنما يدعو الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمعه، مسلمين وغير مسلمين، إلى الاشتراك في التنمية الاجتماعية، وبناء الحضارة الإنسانية، طالما أن الخليفة هو الإنسان، وليس للمسلم فحسب، قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}[10] .
قال الإمام الرازي: "أي جعلنا لكم فيها مكانًا وقرارًا، ومكناكم فيها، وأقدرناكم على التصرف فيها، وجعلنا لكم معايش"[11].
وعلى ذلك فالخطاب موجه لبني الإنسان جميعًا، حيث إنهم مكنوا جميعًا دون تفريق، والحقائق التاريخية شاهدة على أن سمات المجتمع الإسلامي عبر التاريخ كانت سمات إنسانية، فلو راجعنا التاريخ الحضاري لأمتنا لوجدنا أن العناصر الإسلامية وغير الإسلامية اشتركت في عملية البناء الاجتماعي، وكانت الفرص متكافئة أمامها جميعًا لإثبات وجودها وإظهار مهاراتها في مجالات الحياة كلها.
يقول آدم متز: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكان قدمهم راسخًا في الصناعات التي تدر أرباحًا وافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا، وأصحاب ضياع وأطباء.
إن أهل الذمة نظموا أنفسهم بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في بلاد الشام يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى"[12].
وهنالك قضية اجتماعية مهمة لا بد أن نبحثها في هذا المجال، ونبين موقف الإسلام منها ألا وهي قضية المرأة ودورها في التنمية الاجتماعية؛ لأن هذا الدور ثابت وواقعي باعتبار أن المرأة تمثل نصف المجتمع، ومن المؤسف أن أقول هنا: إن الحقائق الإسلامية حول المرأة قد تعرضت إلى تفسيرات خاطئة، وتشويهات مقصودة من حيث إن كثيرًا من الناس يحكمون على هذه القضية من خلال التيار القديم الفاسد الجاهل المريض، الذي يعود إلى عصور من الضعف الإيماني، والتأخر الحضاري، والتفكير العامي الوليد من العادات القبيلية، والتقاليد الاجتماعية الناتجة من تطور أعمى غير موجه.
لقد وضع الإسلام أساسًا متينًا لتكوين الأسرة القوية، وشرع لها الضمانات التي تؤدي إلى إنجاح عملية الزواج والإنجاب والتربية، حتى تكون الأسرة قادرة على مواجهة عملية التنمية والتغيير.
إن الإسلام وضع مقدمات سليمة للزواج، وعد رضا الطرفين أساسًا لإبرامه، وفرض التساهل في المهور وأمور الزواج المادية، وحدد الحقوق والواجبات الزوجية، ووضع قانونًا أخلاقيًّا سليمًا؛ لكي يكون أساس للتعامل الأسري؛ حتى لا تنهار الأسرة فيؤثر انهيارها في نمو المجتمع وانحرافه، وعدَّ الطلاق أكره الحلال إلى الله، ووضع دون إيقاعه عقبات شتى، والنصوص الواردة، في الكتاب والسنة، عن تعدد الزوجات توحي بأن الإسلام لا يعده قاعدة عامة، بل رخصة لا تستعمل إلا للضرورات، والقاعدة الشرعية أن الضرورات تقدر بقدرها.
ومن أهم المبادئ التي جاء بها الإسلام رفعًا لشأن المرأة اعترافه بإنسانيتها واستقلال شخصيتها، وعدها أهلاً للتدين والعبادة، وإقرار حق المبايعة لها كالرجل، ودعوتها إلى المشاركة في النشاط الاجتماعي، وقد سمح لها بالأعمال التي تتفق مع طبيعتها، وشرع لها نصيبها في الميراث، وأشركها في إدارة شؤون الأسرة وتربية الأولاد، وأوجب معاملتها بالمعروف واحترام آدميتها؛ كما أنه ساوى بينها وبين الرجال في الولاية على المال والعقود، وأقر لها شخصيتها القضائية المستقلة[13].
وإذا كان وضع المرأة اليوم في كثير من جوانب حياتها المتخلفة البلاد الإسلامية يعيق عملية التقدم والتنمية، فإن ذلك ناتج عن أن الحياة الاجتماعية الإسلامية مشت في خط معاكس في كثير من جوانبه لمبادئ الإسلام وأحكامه وتشريعاته، وأن العادات القديمة والتقاليد الاجتماعية الفاسدة هي التي تتحكم في علاقات الناس العامة والخاصة، وإن دراسة سريعة لوضع المرأة في العصور الإسلامية الزاهرة لدليل واضح على ما نقول .
دوافع التربية الاجتماعية فى الإسلام
يحفز الإنسان إلى العمل الاجتماعي طواعية مجموعة من الدوافع والحوافز والبواعث من أهمها ما يلى:
(1)- دوافع إيمانية: تتمثل فى:
• العمل الاجتماعي ابتغاء مرضاة الله.
• الامتثال لأوامر الله ورسوله والذى أمرنا على التعاون.
• الطمع فى الأجر والمثوبة من الله من خلال العمل الاجتماعي.
(2)- دوافع اجتماعية:
• الانتماء إلى المجتمع.
• الولاء للمؤمنين.
• الارتباط بأفراد المجتمع.
نماذج عملية معاصرة للتنمية الاجتماعية من خلال السبل والأساليب الاقتصادية الإسلامية:
أولاً : قضية البطالة :
الأصل أنها قضية اجتماعية حيث تؤثر على الفرد والأسرة والمجتمع سلباً ويتطلب علاجها وسائل وأدوات اقتصادية منها على سبيل المثال :
(1) إنشاء المشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغر .
(2) إعادة تأهيل وتدريب العاطلين حسب متطلبات سوق العمل .
(3) شراء أدوات وآلات الحرفة للقادرين على العمل .
(4) توفير المرافق العامة للمشروعات الجديدة .
(5) الحماية الجمركية لحماية الإنتاج المحلى .
(6) الإعفاءات الضريبية .
وهكذا تساهم الوسائل والأدوات الاقتصادية السابقة وغيرها في توفير فرص عمل للإنسان وهذا بدوره يسبب الأمن الاجتماعي.
ثانياً : قضية الفقر :
يعتبر الفقر من أخطر القضايا التي ينبع عنه مشكلات اجتماعية شتى ، بالإضافة إلى المشكلات النفسية الأخلاقية والسلوكية والاقتصادية والسياسية ونحو ذلك ، ويتطلب الأمر علاجه ومن أقطع وأخطر مراتب الفقر عندما لا يجد الإنسان الحاجات الأصلية الضرورية ليعيش مثل : الطعام والشراب والمأوى والدماء والتعليم والزواج.
ومن أهم السبل والأدوات الاقتصادية لعلاج هذه المشكلة على سبيل المثال :-
( 1) إيجاد فرصة العمل للقادر عليه .
( 2) **التدريب والتهيئة للعمل .
( 3) إعادة التأهيل العلمي والعملي.
( 4) إعادة توزيع الدخول بين الأغنياء والفقراء .
وهذا كله يحتاج إلى تمويل الزكاة والقرض الحسن والوقف، وصيغ الاستثمار الإسلامي من أهم سبل تمويل المشروعات الاقتصادية لعلاج مشكلة الفقر.
قضية العنوسة :
يتولد عن مشكلات البطالة والفقر قضية اجتماعية ذات محاور خطيرة وهى قضية العنوسة والتي تؤثر على الفتيات نفسياً واجتماعياً وخلقياً، كما تسبب الآلام النفسية لأفراد الأسرة والمجتمع، ويتولد عن قضية العنوسة أحياناً مشكلات الفساد الاجتماعي وانتشار الفاحشة ، وما في حكم ذلك.
ومن سبل وأدوات علاج هذه المشكلة من المنظور الاقتصادي على سبيل المثال ما يلي:
( 1) توجيه الاستثمار لتوليد فرصة عمل للشباب ليعمل ويتزوج .
( 2) تيسير متطلبات الزواج.
( 3) إعطاء إعفاءات ضريبية خاصة لمشروعات تيسير الزواج .
وتساهم الزكاة والقرض الحسن والوصايا والوقف والتبرعات في المساهمة في تمويل مشروعات تيسير الزواج.
وصايا اقتصادية إسلامية لتحقيق التنمية الاجتماعية :
أولا ً : تفعيل السبل والوسائل والأدوات الاقتصادية التي تساعد في تحقيق التنمية لاقتصادية ومنها ما يلي :
( 1) الاهتمام بالمشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغر .
( 2) توجيه الاستثمارات نحو الضروريات والحاجيات .
( 3) ضبط وترشيد الدعم الحكومي ليصل إلى مستحقيه بالعدل.
( 4) تجنب القروض بفائدة وتطبيق نظم التمويل بالمشاركة .
( 5) دعم الصناعات الحرفية .
( 6) الحماية الجمركية للمنتجات الوطنية .
( 7) إلغاء الضرائب على المشروعات الجديدة .
ثانياً : تفعيل أدوات التمويل الإسلامي التي تساهم في تحقيق التنمية الاجتماعية:
- الزكاة
- الكفارات
- الوقف
- القرض الحسن
- الصدقات
- النذور
- الوصايا
- الصدقة الجارية