معبد الإله اليوناني زيوس إله السماء
عند البحث عن أصول الآلهة اليونانية فإننا سوف نجد أمامنا العناصر الموحّدة في حضارة اليونان القديمة منها خمسة عناصر جوهرية: لغة مشتركة ذات لهجات محلية ؛ وحياة ذهنية مشتركة لا يعرف من رجالها في الأدب والفلسفة والعلوم خارج حدود بلادهم السياسية إلا كبارهم ، وشغف مشترك بالألعاب الرياضية ينفسون به في المباريات التي تقام بين الأفراد في المدن نفسها أو بين الدول بعضها وبعض ، وحب للجمال تعبر عنه المدن بأشكال من الفن عامة بين الجماعات اليونانية كلها ، وطقوس وعقائد دينية موحدة بعض التوحيد.
وكان الدين عاملاً في التفرقة بين اليونان بقدر ما كان في وحدتهم. فقد كان من وراء عبادة آلهة الأولمبس العامة البعيدة ، وهي العبادة التي كان فيها قسط كبير من الأدب والمجاملة ، عبادة أقوى منها للآلهة وللقوى التي تدين بالطاعة لزيوس. وكانت النزعة الانفصالية القبلية والسياسية تغذي الشرك وتجعل [التوحيد] مستحيلاً. فقد كان لكل أسرة في أيام اليونان القديمة إلههاً الخاص ، توقد له في البيت النار التي لا تنطفئ أبداً ، وتقرب له القربان من الطعام والخمر قبل كل وجبة. وكان هذا الاقتسام المقدس للطعام بين الآدميين والآلهة أول الأعمال الدينية الأساسية التي تعمل في البيت. وكان المولد والزواج والموت تُخلع عليها هالة من القداسة بالطقوس القديمة أمام النار المقدسة ، وبهذه الطريقة كان الدين عاملاً في خلق الشعر الصوفي وفي إكساب الحوادث الرئيسية في الحياة البشرية مسحة من الوقار أعانت على استقرارها وثباتها.
وكذلك كان لكل جماعة بطناً كانت أو عشيرة أو قبيلة أو مدينة إلهها الخاص ، بها فكانت مدينة أثينا تعبد الإلهة أثينا ؛ و إلوسيس تعبد دمتر ، و ساموس تعبد هيرا ، و إفسوس تعبد أرتميز ، و بوسيدونيا تعبد بوسيدون. وكان وسط المدينة وأعلى مكان فيها ضريح إلهها ، وكان الاشتراك في عبادة إلهها رمز مواطنيها وميزتهم والواجب المفروض عليهم.
الإلهة اليونانية هيرا
وإذا ما خرجت المدينة للحرب حملت معها في مقدمة جيوشها صورة إلهها وشعاره ، ولم تكن تخطو خطوة خطيرة إلا بعد استشارته بسؤاله عما يخبئه الغيب لها. وكان لها عليه في نظير هذا أن يحارب في صفها ، وكان يبدو لأهلها أحياناً أنه قد يتجلى لهم في مقدمة الجيش أو فوق رماح الجنود. ولم يكن النصر مقصوراً على غلبة مدينة لمدينة بل كان يشمل فوق ذلك غلبة إله لإله. وكانت المدينة ، كما كانت الأسرة وكما كانت القبيلة ، تحتفظ على الدوام بنار مقدسة موقدة عند مذبح عام في بهو المدينة ، ترمز لحياة منشئتها وأبطالها القوية الخالدة ؛ وكان مواطنوها يجتمعون في مواسم معينة ليطعموا جميعاً أما هذه النار. وكما كان أب الأسرة هو أيضاً كاهنها ، كذلك كان حاكم المدينة الأكبر أو أركونها كبير كهنة قي دين الدولة ، وكان الإله يخلع على سلطانه وأعماله كلها ثوباً من القداسة. وهكذا استحال الإنسان بفضل تجنيد الآلهة على هذا النحو من صياد جوال إلى مواطن مستقر.
وحرر الاستقلال المحلي خيال اليونان الديني من القيود فأخرج للعالم أساطير دينية موفورة ومجموعة كبيرة من الآلهة. فكان كل شيء وكل قوة في الأرض أو السماء ، وكل نعمة أو نقمة ، وكل صفة- ولو كانت رذيلة- من صفات الإنسان ، تمثل إلهاً في صورة بشرية عادة. وليس ثمة دين يقرب آلهته من الآدميين قرب آلهة اليونان. وكان لكل حرفة ، ولكل مهنة ، ولكل فن ، إله خاص أو راع حارس ؛ بلغة هذه الأيام. وكان عند اليونان فضلاً عن هذا شياطين ، ونساء مجنحة ، وآلهة انتقام ، وجن ، وأرباب بشعة المنظر ، وإلاهات ذوات صوت شجي يسلب العقول ، و حور عين في البحار والغاب لا يقل عددهن عن سكان الأرض من الآدميين. وفي هذه البلاد بنوع خاص لا تبقى حاجة للسؤال القديم "هل الدين من وضع الكهنة؟". ذلك أن من غير المعقول أن أية مؤامرة يدبرها رجال الدين الأولون تستطيع أن تخرج هذه الكثرة من الآلهة.
وما من شك في أن من أكبر النعم التي ينعم بها هؤلاء الأقوام أن يكون لهم كل أولئك الآلهة ، وكل هالة القصص الفتانة الساحرة ، وكل هذه الأضرحة المقدسة والحفلات المهيبة المرحة. لقد فُطر الإنسان على أن يعبد آلهة متعددة كما فُطر على الزواج من نساء متعددات ، ولا يقل عمر فطرته الأولى عن فطرته الثانية ، لأنها توائم كل المواءمة ما في العالم من تيارات متعارضة. وإن مسيحية البحر المتوسط في هذه الأيام لا يعبد فيها الله بقدر ما يعبد فيها الأولياء والقديسون. ذلك أن الشرك هو الذي يوحي إلى حياة السذج بالأساطير وما فيها من خيال وسلوى ؛ ويهب النفس الذليلة المعونة والراحة واللتين لا تجرؤ على انتظارهما من كائن أعلى رهيب بعيد لا تستطيع الوصول إليهِ. وكان لكل إله من الآلهة أسطورة (Mythos) أي قصة ، متصلة به تشرح سبب وجوده في حياة المدينة ، أو تفسر الطقوس التي تقام تكريماً له.
تمثال االإله اليوناني بوسيدون
وقد أصبحت هذهِ الأساطير التي نشأت نشأة تلقائية مما في المكان ومما لدى الناس من معارف ، أو كانت من وضع الشعراء الدواوين وزخرفهم ، أصبحت هذهِ الأساطير عقيدة اليونان الأولين ، وفلسفتهم ، وآدابهم ، وتاريخهم ، جميعاً. فمنها استمدوا الموضوعات التي زينوا بها مزهرياتهم ، وهي التي أوحت إلى الفنانين ما لا يحصى من الرسوم ، والتماثيل ، والنقوش. وقد ظل الناس إلى آخر أيام الحضارة الهيلينية يخلقون الأساطير ، بل يخلقون الآلهة أنفسها ، رغم ما أنتجته بحوثهم الفلسفية ، ورغم محاولات عدد قليل منهم دعوة الناس إلى التوحيد. لقد كان في وسع رجال من أمثال هرقليس أن يعدوا أمثال هذهِ الأساطير مجرد مجازات وتشابيه ، وفي وسع آخرين أمثال أفلاطون أن يعدلوها ويوفقوا بينها وبين ما تقبله العقول ، وفي مقدور رجال من أمثال زنوفانيز أن ينددوا بها وينبذوها ؛ غير أن [بوزنياس] ، حين طاف ببلاد اليونان بعد خمسة قرون من عهد أفلاطون ، وجد الخرافات والأساطير التي كانت تثير الحمية في قلوب الأهلين في عصر هومر لا تزال حية قوية. ذلك أن عملية تشعير الأساطير ، وتشعير الدين عملية طبيعية ، تحدث في هذهِ الأيام كما كانت تحدث على الدوام في العصور الخالية ؛ وثمة نسبة للوفيات ونسبة للمواليد بين الآلهة. فالألوهية كالطاقة تبقى كميتها مهما تغيرت صورتها لا تكاد تنقص أو تزيد خلال الأجيال المتعاقبة .
الإلهة هستيا
فهرست
[إخفاء]
• 1 الآلهة الصغرى
o 1.1 آلهة السماء
o 1.2 آلهة الأرض
• 2 الآلهة الأولمبية
• 3 أسرار خافية
• 4 العبادات
• 5 الخرافات
• 6 المتنبئون والمتنبآت
• 7 الأعياد
o 7.1 التقويم الأثيني
• 8 الدين والأخلاق
• 9 المصادر
الآلهة الصغرى
في وسعنا أن نلقى شيئاً من الترتيب والوضوح على هذا الحشد الكبير من الآلهة إذا نحن قسمناه تقسيماً مصطنعاً إلى سبع مجموعات: آلهة السماء ، وآلهة الأرض ، وآلهة الخصب ، والآلهة الحيوانية ، وآلهة ما تحت الأرض وآلهة الأسلاف أو الأبطال ، والآلهة الأولمبية. وأما "أسمائها جميعاً فمما يشق على الإنسان ذكرها" كما يقول هزيود.
آلهة السماء
كان إله الغزاة اليونان في بادئ الأمر ، على ما تستطيع أن تتبينه من الأساطير ، هو إله السماء العظيم المختلف الصور. ويشبه اليونان في هذا الهنود الفديين. ثم تطور هذا الإله شيئاً فشيئاً حتى أصبح هو أورانوس أو السماء نفسها ، ثم أضحى "مرسل السحاب" ، مسقط المطر ، جامع الرعد ، زيوس. وإذ كانت تلك البلاد تنال فوق كفايتها من ضوء الشمس ، ولكنها ظمآى للمطر ، فإن إله الشمس هليوس لم يكن له فيها شأن كبير ولذلك كان من الآلهة الصغرى. وقد صلى له أجممنون ودعاه لمعونته ، وكان الإسبارطيون يضحون له بالخيل لتجر عربته الملتهبة في قبة السماء ، وكان أهل رودس حين اصطبغت بلادهم بالصبغة اليونانية يعظمون هليوس ، ويعدونه كبير آلهتهم ، ويلقون في البحر كل عام أربعة جياد وعربة ليستخدمها في تجواله ، وأقاموا الهيكل الضخم الذائع الصيت ، وكاد أنكسجرس يفقد حياته في أثينة بركليز نفسها ، لأنه قال إن الشمس ليست إلهاً وإنما هي كرة من النار لا أكثر. ثم زالت عبادة الشمس شيئاً فشيئاً حتى لم يكد يبقى لها أثر في تاريخ اليونان القديم ، وكان القمر أقل من الشمس شأناً ، والكواكب والنجوم أقل منه ومنها.
الإلهة اليونانية ديميتر
آلهة الأرض
كانت الأرض ، لا السماء ، موطن معظم الآلهة اليونانية. فكانت الأرض نفسها في بادئ الأمر هي الإلهة جي Ge أو جيا Gaea الأم الصابرة السمحة الجزيلة العطاء، التي حملت حين عانقها أورانوس- السماء- فنول المطر. وكان يسكن الأرض نحو ألف إله آخر أقل من جي شأناً ، في مائها وفي الهواء المحيط بها: منها أرواح الأشجار المقدسة ، وخاصة شجرة البلوط ، ومنها النريدات Nereids ، والنيادات Naiads، والأوقيانوسيات في الأنهار والبحيرات والبحار ، وكانت الآلهة تَتَفَجر من الأرض عيوناً ، أو تجري جداول عظيمة مثل الميندر أو الاسبركيوس ، وكان للريح آلهة مثل بورياس Boreas ، و زفر Zephyr ، و نوتس Notus ، و يوروس Eurus ، وسيدها إيوس ؛ وكان من آلهة الأرض بان العظيم ، ذوالقرنين ، المشقوق القدمين ، الشبق ، المغذي ، البسام ، إله الرعاة والقطعان ، والغابات والحياة البرية ، الكامن فيها ، والذي تُسمع صفارته في كل جدول ووادٍ ، والذي تبعث صيحته الفزع ، في كل قطيع لا يعنى به ، والذي يقوم على خدمته جنيات الغاب والحراج ، وتلك الجنيات المعروفة بالسليني Sileni وهي مخلوقات نصف جسمها معز ونصفه بشر. وكان في كل مكان في الطبيعة آلهة ، وكان الهواء غاصاً بالأرواح الطيبة أو الخبيثة لا تكاد "تجد فيه شقاً فارغاً تستطيع أن تدفع فيه طرف ورقة نبات" كما قال شاعر غير معروف.
وإذ كانت أعجب قوى الطبيعة وأقواها هي قوة التكاثر ، فقد كان طبيعياً أن يعبد اليونان ، كما كان يعبد غيرهم من القدامى ، رمزي الإخصاب الرئيسيين في الرجل والمرأة إلى جانب عبادتهم خصب التربة. لهذا كان قضيب الرجل وهو رمز الإنتاج يظهر في طقوس دمتر ، و ديونيسس ، و هرمس ، وحتى في طقوس أرتميس الطاهرة. ويتكرر ظهور هذا الرمز في النحت و التصوير في أهم عصر من عصورهما تكراراً فاضحاً ، بل إن عيد ديونيشيا العظيم ، وهو الاحتفال الديني الذي كانت تمثل فيه المسرحيات اليونانية ، كان يفتتح بموكب تحمل فيه رموز قضبان الرجال ترسل الكثير منها المستعمرات الأثينية شاهداً على صلاحها وتقواها. وما من شك في أن هذه الحفلات كانت تثير الكثير من الفكاهات الجنسية البذيئة ، كما تدلنا على ذلك كتابات أرستفنيز ؛ ولكن كثرتها كانت خالية من هذه البذائة ، ولعلها كانت تثير الشهوة الجنسية في الرجال والنساء وتساعد على كثر النسل.
الإلهة أفروديت
وكانت أحط ناحية من نواحي مراسم الإخصاب تظهر في العهود التي انتشرت فيها الحضارة اليونانية الصبغة والحضارة اليونانية ، والتي كان يُعبد فيها بريابوس Priapus الذي ولد نتيجة لاتصال ديونيسس و أفرديتي ، والذي كان الفنانون يزينون بصورته المزهريات وجدران المباني في بمبي Pobpeii. وكان أظرف من هذه المراسم وأعف في موضوع التناسل نفسه إجلال الإلهات التي ترمز إلى الأمومة. فقد كانت أركاديا ، و أرجوس ، و إلوسيس ، و أثينا ، و إفسوس ، وغيرها من الأماكن تجل أعظم الإجلال إلهات معظمهن لا أزواج لهن ، كنَّ في أغلب الظن أثراً من آثار عصر ينسب الأبناء فيه إلى الأمهات قبل أن يحل عصر الزواج ؛ ولقد كان الاعتراف بسلطان زيوس الإله الأب على سائر الآلهة رمزاً لانتصار مبدأ سيطرة الآباء على الأمهات. ولعل سبق النساء على الاشتغال بالزراعة ، وهو السبق الذي يرجحه الكثيرون ، وقد ساعد على إيجاد أعظم إلهة من هاته الإلهات الأمهات ، وهي دمتر إلهة الحنطة أو الأرض المنزرعة. ومن أجمل الأساطير اليونانية التي تقصها في أحسن عبارة ترنيمة دمتر وهي الترنيمة التي كانت تعزى في وقت من الأوقات إلى هومر نفسه ، نقول إن من أجمل هذه الأساطير أسطورة تصف كيف اختطف بلوتو Pluto إله العالم السفلي برسفوني أبنة دمتر ونزل بها إلى الجحيم ، وكيف أخذت أمها الحزينة تبحث عنها في كل مكان حتى عثرت عليها وأقنعت بلوتو أن يسمح لابنتها بأن تعيش على ظهر الأرض تسعة أشهر في كل عام- وذلك رمز ظريف لموات التربة السنوي وتجددها.
وإذ كان أهل إلوسيس قد عطفوا على دمتر المتنكرة وهي "جالسة في الطريق في أشد حالات الحزن والكرب" ، فقد علمتهم هم وأهل أتكا سِرَّ الزراعة ، وأرسلت تربتولموس Triptolemus ابن ملك إلوسيس لينشر هذا الفن بين بني الإنسان. وهذه الأسطورة تتفق في جوهرها وأسطورة إيزيس Isis و أوزيريس Osiris في مصر ، وأسطورة تموز و عشتار في بابل ، وأسطورة عشتروت و أدنيس في سوريا ، و سيبيل و أتيس في فريجيا. وقد بقيت طقوس الأمومة طوال عصر اليونان العظيم ، ثم عادت إلى الحياة من جديد في صورة تقديس مريم أم الإله.
[إريس] إلهة الحرب
وكانت بعض الحيوانات في تاريخ اليونان المبكر تعظَّم وتتخذ أنصاف آلهة- إذا جاز هذا التعبير. وكان السبب في أنها لم ترقَ إلى مرتبة الآلهة الكاملة أن الدين اليوناني كان في العصر الذي ازدهر فيه فن النحت ديناً آدمياً إلى حد لا يسمح بوجود آلهة حيوانية كثيرة بالصورة التي نجدها في مصر و الهند ؛ ولكن أثراً من آثار ما قبل هذا العصر الزاهر يبدو لنا في كثرة الجمع بين الحيوان والإله في بعض التماثيل. ولقد كان الثور حيواناً مقدساً لقوتهِ وقدرته ، وكثيراً ما كان يوصف بأنه رفيق لزيوس وديونيسس ، أو صورة لهما تنكرا فيها ، أو رمزاً لهما ، وربما كان إلهاً قبلهما ، ولعل "هيرا ذات العين البقرية" ، كانت هي أيضاً بقرة مقدسة. وكان الخنزير أيضاً مقدساً لكثرة تناسله ، وكان يجمع بينه وبين دمتر الظريفة.
وكان القربان الظاهر الذي يقدم لها هي في أحد أعيادها المعروف عيد الثسموفوريا Thesmophorio خنزيراً ، أو لعل القربان كان يقدم إلى الخنزير نفسه. وفي عيد الديازيا Diasia كان هذا القربان يقرب لزيوس في الظاهر ، ولكنه في الحقيقة كان يقرب إلى أفعى تسكن في باطن الأرض تسمى وقتئذ باسمه تكريماً لها. وسواء أكان تقديس الأفعى لأنها في ظنهم لا تموت ، أم لأنها ترمز إلى القدرة على التناسل والإنتاج ، فإنا نراها تنتقل في صورة إلهة من أفعى كريت إلى أثينا القرن الخامس ؛ فقد كانت أفعى مقدسة تقيم في هيكل أثينا على الأكروبوليس ، وكان يقدم إليها في كل شهر كعكة مقدسة زلفى إليها واستدراراً لعطفها. وكثيراً ما تُرى الأفعى في الفن اليوناني حول تماثيل هرمس ، و أبلو ، و أسكلبيوس ؛ وقد صَوَّر فدياس أفعى ضخمة محاطة بإكليل من الزهر في درع "أثيني برثنوس" ، وتغطي الأفاعي الجزء الأكبر من تمثال أثينا الفرنيزية. وكثيراً ما كانت الأفعى تتخذ رمزاً للإله الحارس للهياكل والمنازل أو صورة لهذا الإله ، وربما كانت كثرة وجودها حول المقابر سبباً في اعتقاد الناس أنها روح الموتى.
ويعتقد بعظهم أن الألعاب الدلفية قد احتفل بها في بادئ الأمر تكريماً لأفعى دلفي الميتة. وكانت أكثر الآلهة رهبة تحت الأرض. ففي المغارات والشقوق وأمثالها من الفتحات السفلى ، كانت تعيش تلك الآلهة الأرضية التي لم يكن اليونان يعبدونها بالنهار عبادة تنطوي على الحب والإجلال ، بل كانوا يعبدونها ليلاً عبادة مصحوبة بأناشيد وطقوس تنم عن التوبة والهلع. وكانت هذه القوى غير البشرية هي المعبودات الحقيقية الأولى لبلاد اليونان ، وكانت أقدم من معبودات الهيلينيين ، بل لعلها أقدم من معبودات الميسينيين الذين نقلوها في أغلب الظن إلى بلاد اليونان نفسها. ولو أننا استطعنا أن نتتبعها إلى أصلها الأول لكان في وسعنا أن نصل إلى أنها كانت في بدايتها الأرواح المنتقمة للحيوانات التي طردها الإنسان إلى الغابات أو إلى ما تحت الأرض في أثناء تقدمهم وتكاثرهم.
وكان أعظم هذهِ الآلهة الأرضية هو زيوس الأرضي ؛ وزيوس هنا اسم نكرة لا يعني أكثر من إله. وكان يسمى أحياناً زيوس ميلكيوس Milichios أي زيوس الخَيّر ؛ ولكن الوصف هنا أيضاً وصف خادع يقصد به استرضاء هذا الإله الذي كان مصور بصورة أفعى رهيبة. وكان هاديز Hades ربُّ ما تحت الأرض أخاً لزيوس وعند أخذ اسمه. وأراد اليونان أن يسكنوا غضبه فسموه بلوتو أي واهب الوفرة ، لأنه كان في مقدوره أن يبارك أو يبيد جذور كل ما ينبت على سطح الأرض . وكان أشد من بلوتو روعة ورهبة الإلهة هكتي Hecate ، وهي روح خبيثة تخرج من العالم السفلي وتسبب البؤس والشقاء بعينها الحاسدة الشريرة لكل مَن تزوره من الخلائق. وكان القليلو العلم من اليونان يقربون لها الجراء ليبعدوها عنهم. وكان الموتى قبل عصر اليونان المجيد يعدون أرواحاً قادرة على أن تفعل للناس الخير والشر ، وتسترضى بالقرابين والصلاة. ولم تكن هذه الأرواح آلهة بالمعنى الصحيح، ولكن الأسرة اليونانية البدائية كانت تعظم موتاها تعظيماً يفوق تعظيمها أي إله من الآلهة ، شأنها في هذا شأن الأسرة الصينية. وكان اليونان في عصرهم الزاهر يرهبون هذه الأشباح الغامضة أكثر مما يحبونها ، وكانوا يسترضونها بطقوس ومراسم يقصد بها إبعادها واتقاء شرها ، كما كانوا يفعلون في عيد أنثستريا Anthesteria. وكانت عبادة الأبطال امتداداً لعبادة الموتى؛ فكان في وسع الآلهة أن تهب العظيم أو الشريف، أو الرجل الجميل أو المرأة الجميلة ؛ الحياة الخالدة فتجعله أو تجعلها من بين الآلهة الصغرى.
وكذلك كان سكان أولمبيا يقربون القرابين في كل عام إلى هبوداميا Hippodameia؛ وكانت كسندرا Cassandra تعبد في لوكترا Leuctra اللكونية Laconian ، و هلن في إسبارطة ، و أوديب في كولونوس Colonus ، وكان يحدث أحياناً أن ينزل الإله ويتقمص جسم إنسان ، فيستحيل هذا الإنسان إلهاً ، وقد يتصل الإله جنسياً مع امرأة من الآدميين فتلد بطلاً- إلهاً كما فعل زيوس مع أكمينا فولدت هرقل. وكان كثير من المدن والجماعات ، وأبناء الحرف أنفسهم ، يصلون أنسابهم ببطل من أبناء الآلهة ؛ فكان أطباء اليونان مثلاً يصلون نسبهم إلى أسكلبيوس. وكان الإله في أول الأمر من الأسلاف أو الأبطال الموتى ، كما كان المعبد في الأصل قبراً ، ولا تزال الكنيسة حتى الآن في معظم البلاد مكاناً تحفظ فيه آثار الموتى القديسين.
ويمكن القول بوجه عام أن اليونان لم يكونوا يفرقون بين الآدميين والآلهة بقدر ما نفرق نحن بينهم ؛ فقد كان كثير من آلهتهم لا يقلون في آدميتهم عن القديسين عندنا ، اللهم إلا في مولدهم ، وكانوا قريبين إلى عبادهم قرب القديسين إلينا ؛ وكان بعضهم مثل ديونيسس يموتون وإن سموا بالخالدين.
هيرميز مراسل الآلهة اليونانية
الآلهة الأولمبية
كانت هذه الآلهة كلها في المرتبة الثانية من الشهرة بين آلهة اليونان وإن لم تكن حتماً في المرتبة الثانية من التعظيم. ترى لأي سبب لا نسمع في شعر هومر عن هذه الآلهة إلا القليل ، ولأي سبب نسمع عن الآلهة الأولمبية الشيء الكثير؟ أكبر الظن أن مرد هذا إلى أن آلهة ألمبس قد جاءت إلى البلاد مع الآخيين والدوريين وزلزلت عروش الآلهة اليسينية والأرضية ، وغلبتها كما غلبت من كانوا يعبدونها. وفي وسعنا أن نشاهد ما حدث للآلهة الأولى في دودونا Dodona و دلفي حيث حل زيوس في المدينة الأولى محل جيا وحل أبلو محلها في الحالة الثانية. على أن الآلهة المغلوبة لم تُمح من الوجود محواً تاماً بل بقيت خاضعة للآلهة الجديدة تأتمر بأمرها إذا صح أن نتحدث عن شؤون الآلهة بمثل هذا الحديث، فانزوت ذليلة تحت الأرض ولكنها ظلت موضع التبجيل من عامة الشعب ؛ بينما كانت الآلهة الأولمبية المنتصرة تتقبل وهي مستوية على عروشها في أعلى الجبل صلوات عبادها الأشراف. وهذا هو السبب في أن هومر الذي كان يكتب للصفوة المختارة لا يكاد يحدثنا بشيء عن آلهة الأرض. وهكذا أعن هومر و هزيود والمثالون الفاتحين أصحاب السلطة السياسية العليا على نشر عبادة الآلهة الأولمبية.
وقد حدث في بعض الحالات أن اتحدت الآلهة الصغرى أو امتزجت بالكبرى ، وأصبحت من حاشيتها أو أتباعها ، كما كانت الدول الصغرى تنضم من حين إلى حين إلى الدول الأكبر منها أو تخضع لحكمها. وهكذا خضعت جنيات الآجام صغارها وكبارها لديونيس ، وخضعت حور البحار لبوسيدن كما خضعت الأرواح التي تقطن الغابات لأرتميس ، واختفت الطقوس والأساطير الهمجية شيئاً فشيئاً على مر الأيام ؛ وحلت محل الأساطير المضطربة التي كانت تصور الأرض ملآى بالشياطين حكومة للآلهة على شيء من النظام كانت في واقع أمرها مرآة ينعكس عليها ما طرأ على العالم اليوناني من استقرار سياسي آخذ بالنماء.
وكان على رأس هذا النظام الإلهي الجديد رب الأرباب زيوس العظيم ؛ ولم يكن زيوس أول من وجد من الآلهة ، فقد سبقه كما رأينا من قبل أورانوس و كرونوس ، ولكنهما هما والجبابرة Titans قد ثُلت عروشهم كما ثُلت عروش جيش الشيطان Lucifer. وقسم زيوس وإخوته العالم ووزعوه فيما بينهم بطريق القرعة ؛ فكانت السماء من نصيب زيوس ، وكسب بوسيدن البحار ، وكسب هيديز باطن الأرض. وليس في أساطير اليونان ذكر لخلق العالم ؛ فقد وجدت الأرض قبل أن توجد الآلهة ولم تخلق الآلهة الإنسان من حمأ بل خلقته من تزاوج الذكور منها بالإناث ، أو بتزاوجها بأبنائها غير الخالدين ؛ والله في دين اليونان ليس إلا ولداً ، كما أن الآلهة الأولمبية ليست قادرة على كل شيء عارفة بكل شيء ، بل إن كل واحد منها يحدد سلطان الآخر ويعارضه أحياناً ، وكلها بما فيها زيوس نفسه يمكن أن يُخدع ؛ غير أنها على بكرة أبيها تقر له بالسيادة عليها ، وتحشد في بلاطه كما يحتشد الأتباع في ساحة أمير إقطاعي ؛ وهو وإن استشارها في بعض الشؤون ، وعمل برأيها في بعضها وإن خالفت رأيه ، كثيراً ما يزجرها ويلزمها أن تعرف قدر نفسها. وهو يبدأ بأن يكون إلهاً للسماء والجبال ، ومنزل المطر الذي لا غنى للناس عنه ، وهو في بعض صوره الأولى إله حرب كيهوه ، يجادل نفسه هل ينهي حصار طروادة أو "يجعل الحرب أكثر مما كانت وحشية وإراقة للدماء" ويأخذ بالرأي الثاني. ثم يصبح بالتدريج حاكم الآلهة والبشر الهادئ القوي الجالس فوق أولمبس ، الملتحي الوقور، رأس النظام الأخلاقي ومصدره في العالم كله ، يعاقب غير البررة من الأبناء ، ويحمي أملاك الأسرة ، ويوثق الأيمان ، يعاقب الخائنين ، ويحفظ الحدود ، والمساكن ، والمتضرعين ، والأضياف ، وهو أخيراً المصدر الأعلى للأحكام الذي نحت فدياس تمثاله لأولمبيا.
وعيبه الوحيد هو ما يدفعه إليه نزق الشباب من استسلام سريع للحب ، وإذ لم يكن هو خالق النساء فإنه يعجب بهن ويراهن كائنات عجيبة تجد الآلهة نفسها فيهن موهبة الجمال والحنان ، وهما صفتان تسموان عن كل تقدير ؛ ويجد نفسه عاجزاً عن مقاومة إغرائهن. ويذكر هزيود ثبتاً طويلاً بمحبوبات الإله ، وبما أنجبن منه من أبناء عظام. وكانت حبيبته الأولى ديوني Dione ، ولكنه يغادرها في أبيروس حين يهاجر إلى أولمبس في تساليا ، وفيها تكون زوجته الأولى هي متيس Metis إلهة الكيل ، والعقل ، والحكمة ؛ ويترامى إليه أن أبناءها سينزلونه عن عرشه ، فيبتلعها ، ويأخذ منها صفاتها ، ويصبح هو نفسه إله الحكمة ؛ وتلد متيس أثينا في جوفه ، وإذن فلابد من قطع رأسه حتى تخرج إلى العالم ، ويحس هو بالوحدة والحادة إلى المؤنس الجميل فيتزوج ثميس Themis وتلد له الساعات الأثنتي عشرة ؛ ثم يتزوج يورينوم وتلد له إلاهات اللطف الثلاث ؛ ثم يتزرج نموسيني Mnemosyne وتلد له ربات الشعر التسع ؛ ثم ليتو وينجب منها ولديه أبلو و أرتميس ؛ ثم أخته دمتر وينجب منها برسفوني : فإذا ما صرف شبابه في الملاذ على هذا النحو تزوج آخر الأمر أخته هيرا وأجلسها ملكة على أولمبس فتلد له هيبي Hebe ، و أريس Ares ، و هفستوف Hephaestus ، و أيليثيا Eileithyia ، ولكن الشقاق يقع بينه وبينها ، لأنها لا تقل عنه سناً ؛ وهي تلقى أكثر مما يلقى من التكريم في كثير من الدول اليونانية ، وهي رعاية الزواج والأمومة ، وحامية الروابط الزوجية ؛ وهي ظريفة أنيقة ، وقورة ، فاضلة ، لا يعجبها عبثه ومداعباته ؛ وهي إلى هذا كله سليطة إلى أبعد حد. ويهم بأن يضربها ، ولكنه يرى أن أيسر من ضربها عنده أن يفرج عن كربه بزيجات جديدة. وكانت نيوبي أولى زوجاته من الآدميين ، وكانت آخرهن ألكمينا وهي من نسل نيوبي في الجيل السادس عشر%=@من واجبنا أن نضيف إلى هذا ، إنصافاً للموتى ، أن معظم هذه المغامرات كانت في أغلب الظن من اختراع الشعراء أو القبائل التي كانت تحرص على أن تصل أنسابها بأعظم الآلهة كلها.@ ، وهو يسير على سنة اليونان في عدم التفرق بين الذكور والإناث ، فيحب جنميد الوسيم ، ويختطفه لكي يجعله ساقيه فوق أولمبس. وكان من الطبيعي أن يكون من بين أبناء هذا الأب المخصب بعض النجباء الممتازين. من ذلك أن أثينا حين ولدت كاملة النمو والسلاح من رأس زيوس ، أمدت أدب العالم بإحدى استعاراته التي مازالت تتكرر حتى ملها الناس.
وكانت أجدر الآلهات بأن تكون إلهة مدينة أثينا ، تفخر بأنها عذراء وتتخذ من هذا سبباً لمواساة فتياتها العذارى ، وتبعث في نفوس رجالها الحماسة الحربية ، وتمثل لبركليز الحكمة التي هي خليقة بها لأنها ابنة متيس وزيوس. ولما حاول الجبار بلاس Pallas أن يغازلها قتلته وأضافت اسمه إلى اسمها ليكون ذلك نذيراً لغيره من خطّابها. وقد خصتها مدينة أثينة بأجمل هياكلها وأفخم أعيادها. وكانت عبادة أبلو الوسيم أوسع انتشاراً من عبادة أخته أثينا ، وكان أبلو إله الشمس المتلألئ ، راعي الموسيقى والشعر والفن ، منشئ المدن ، مشرع القوانين ، إله الشفاء ووالد أسكلبيوس ، إله الحرب الرامي بالنبال إلى أبعد مدى ، الذي خلف جيا وفوبي Phoebe. في دلفي ، وكان أقدس من ينزل الوحي في بلاد اليونان ، وكان إله المحاصيل النامية ، وبهذه الصفة كان يتلقى العشور في أيام الحصاد ، وكان في نظير هذا يبعث بدفئه وضوئه الذهبيين من ديلوس ودلفي ليخصب التربة ويغنيها.
وكان في كل مكان يقترن بالنظام والاعتدال والجمال ؛ وبينما كانت عبادة غيره من الآلهة ومراسمها تتضمن كثيراً من عناصر الخوف والخرافات الغريبة ، كانت النغمة السائدة في عبادة أبلو وفي أعياده العظيمة في دلفي وديلوس هي التعبير عن ابتهاج الشعب المستنير بإله الصحة والحكمة والعقل والغناء ، وكانت أخته أرتميس ، سعيدة مثله. وكانت أرتميس إلهة الصيد العذراء ، المنهمكة في شؤون الحيوانات ، وفي ملذات الغابات ، انهماكاً لا يترك لها وقتاً لحب الرجال ، وكانت إلهة الطبيعة البرية ، والمراعي والغابات والتلال ، والغصن المقدس. وكما كان أبلو المثل الأعلى للشباب اليوناني ، كذلك كانت أرتميس المثل الأعلى للفتيات اليونانيات- كانت قوية الجسم ، رياضية رشيقة عفيفة ، وهذا فقد كانت راعية النساء في الولادة ، وكن يدعونها لتخفف عنهن آلام الوضع. وكانت تحتفظ في إفسوس بطبيعتها الآسيوية ، فكانت إلهة الأمومة والإخصاب ؛ وبهذه الطريقة اختلطت فكرتا العذراء والأم في عبادتها ، وقد وجدت الكنيسة المسيحية في القرن الخامس بعد الميلاد أن من الحكمة أن تضيف ما بقي من هذه الطقوس الدينية إلى مريم ، وأن تحول عيد الحصاد الذي كان يقام لأرتميس في منتصف أغسطس إلى عيد انتقال العذراء إلى السماء.
وبهذه الطريقة وأمثالها يحتفظ الجديد بالقديم ويتبدل كل شيء عدا الجوهر ذلك أن التاريخ كالحياة يجب أن يستمر أو يموت ؛ فقد تتبدل الأخلاق والأنظمة ولكنها تتبدل ببطء ؛ وإذا حال حائل قوي بينها وبين نماءها وتطورها نسيت الأمم نفسها وجن جنونها. وكان من بين تلك الآلهة إله أشبه ما يكون بالآدميين ، هو الصانع الأولمبي الماهر هفستس الأعرج المعروف عند الرومان باسم فلكان Vulcan. ويبدو أن هذا الإله المهين المظلوم ، إله السماء الأول كان إلهاً سخيفاً خليقاً بالرثاء ، ولكنه في آخر الأمر يستدر عطفنا أكثر مما تستدره الآلهة الماكرة التي لا ضمير لها ، والتي تسيء معاملته ، ولعله كان في أيامه الأولى ، قبل أن يصير قريب الشبه بالأناس ، روح النار والكير. وهو في قصص هومر الديني ابن زيوس وهيرا ، ولكن أساطير غير أساطير هومر تؤكد لنا أن هيرا حسدت زيوس على مولده لأثينا بلا معونة ، فولدت هي الأخرى هفستس من غير حاجة إلى ذكر. ولما رأته قبيح المنظر ضعيف الجسم ، ألقت به من فوق أولمبس ، ولكنه عرف طريق العودة إلى موطنه ، وشاد للآلهة القصور الكثيرة التي كانوا يسكنون فيها.
وكان يكن لأمه كل شفقة وإجلال رغم ما لقيه على يديها من سوء المعاملة ، وقد دافع عنها دفاعاً مجيداً في نزاعها مع زيوس ، فما كان من إله أولمبس العظيم إلا أن أمسك بساقه وقذف بهِ إلى الأرض. واستغرق هفستس في نزوله يوماً كاملاً ، حتى استقر آخر الأمر على جزيرة لمنوس ، وجرح عقبه ، ويؤكد العارفون أنه أصبح من ذلك الحين شديد العرج يتألم كلما مشى )وإن كان هومر يقول إنه كان أعرج قبل هذه الحادثة(. وعاد مرة أخرى إلى أولمبس ، وصنع في حانوته الكثير الضوضاء سنداناً ضخماً وضع فيه عشرين منفاخاً كبيراً ، وعمل دروع أخيل ، وتماثيل تتحرك من نفسها ، وعجائب أخرى كثيرة. وكان اليونان يعبدونه بوصفه إله جميع الصناعات المعدنية ، ثم أصبح عندهم إله جميع الصنائع اليدوية ، وكانوا يعتقدون أن البراكين هي مداخن حوانيته التي تحت الأرض. وكان من سوء حظه أن تزوج أفرديتي ووجد أن من أصعب الأمور أن تجتمع الفضيلة والجمال في شخص واحد. ولما عرف هفستس بما كان بينها وبين أريس ، صنع للمحبين شركاً وقع عليهما في أثناء اجتماعهما. وهكذا أنتم الإله الأعرج لعرجه بأن عرض على زملائه الآلهة إلهي الحب والحرب مكبلين في الأغلال، وكان منظراً أثار ضحك الآلهة. وقال هرمس لأبلو- كما يحدثنا هومر: "أي هرمس يا بن زيوس... هل يرضيك حقيقة أن تنام على فراش واحد بجانب الإلهة أفرديتي ، ولو كنت مكبلاً بالأغلال الثقال؟" فأجابه الرسول يقول: "أيها الإله أبلو ؛ ليت هذا يكون ، وليتني أكبل بثلاثة أمثال هذه الأغلال التي لا أجد منها خلاصاً ، وأن تشاهدوني أنتم أيها الآلهة- نعم والإلهات كلها أيضا- إن استطعت أن أنام إلى جوار أفرديتي الذهبية". حسبنا هذا عن هفستس.
أما إريس (المريخ) فلم يكن يمتاز بالذكاء أو الدهاء ؛ وكانت صناعته الحرب ، وحتى سحر أفرديتي ومفاتنها لم تكن تثير فيه النشوة التي يثيرها التقبيل الذي كان شهوة وغريزة فيه. ويسميه هومر "نقمة صبت على البشر" ، ويصف لنا وهو مغتبط كيف ألقته أثينا على الأرض بضربة حجر ، ويقول إنه "وهو نائم قد غطى سبعة أفدنة". هذا أريس أما هرمس (ميركري أو عطارد) فأكثر منه طرافة. فقد كان في بادئ أمره حجراً ، وعبادته مستمدة من عبادة الحجارة المقدسة ؛ ولا تزال المراحل التي مر بها ظاهرة واضحة ، فقد صار في المرحلة الثانية الحجر الطويل الذي يوضع فوق المقابر ، أو الروح )الديمون( الكامنة في هذا الحجر ؛ ثم صار بعدئذ حجر الحدود أو إلهها ، يحدد الحقول ويحرسها ، وإذا كان عمله فيها فضلاً عن تجديدها وحراستها هو توفير الخصب لها ، فقد صار قضيب الرجل رمزاً من رموزه. ثم أصبح فيما بعد العمود- ذا الرأس المنحوت ، والجسم غير المنحوت ، وعضو التذكير البارز- الذي كان يوضع أما بيت كل أسرة ذات شأن في أثينا.
وسنرى كيف كان بتر هذه الأعمدة عشية الحملة على سرقوسة السبب المباشر لهلاك ألقبيادس وخراب أثينا. وهو إلى هذا كله إله المسافرين ، وحامي المنادين ، وعصيهم من أحب شعائره إليه. وقد أصبح بوصفه إله المسافرين إله الحظ ، والتجارة ، والدهاء ، والكسب ، ومن ثم أصيح مخترع المكاييل والموازين ، وحارسها ، كما أصبح الملاك الراعي للحانثين والمختلسين واللصوص. وهو نفسه بشير ونذير يحمل الرسائل والأوامر بين الآلهة الأولمبية أو بينها وبين البشر ، وهو يسير على خفيف مجتمعين بسرعة الريح الغاضبة العاصفة ، وتكسبه هرولته ليناً ورشاقة ، وتهيئه لأن يتخذ الصورة التي يظهر بها في تمثال بكستليز. وهو بوصفه شاباً سريع العدو قوي الجسم ، راعي الرياضيين ونصيرهم ، ونجد صورته التي تظهر فيها رجولته كاملة مكاناً لها في كل مكان للتدريب العضلي.
وإذ كان هو المنذر والمبشر فقد كان إله الفصاحة ، وإذ كان الشارح السماوي فقد أصبح رأس عدد كبير من الشرّاح والمفسرين. وتصف إحدى الترانيم "الهومرية" كيف مد أوتاراً على صدفة سلحفاة واخترع بذلك قيثارة. ثم يحين الوقت الذي يسترضي فيه أفرديتي فيستولدها ، كما يخبرنا القصاصون ، خنثى (هرمفرديتي Hermaphrodite) ناعم الجسم يرث منها مفاتنها ويشتق اسمه من اسميهما.
ومن الخصائص التي امتازت بها بلاد اليونان أن كان لها فضلاً عن إلهه العفة والبكورة والأمومة ، إلهة للجمال والحب ، وما من شك في أن أفرديتي كانت في مواطنها الأولى بالشرق الأدنى ، وفي قبرص موطنها نصف الشرقي ، كانت في هذه المواطن أول الأمر إلهة أمَّاً ؛ ولقد ظلت طوال عهدها ذات صلة وثيقة بالتوالد والإخصاب في الممالك النباتية والحيوانية والبشرية بأجمعها ، فلما أن تقدمت الحضارة وازداد الأمن ولم تعد للناس حاجة بكثرة المواليد ، تركت حاسة الجمال حرة طليقة تجد في النساء قيماً غير قيم التناسل الكثير ، ومن ثم لا تقتصر أفرديتي على أن تكون المثل الأعلى للجمال بل تصبح إلهة اللذائذ الجنسية بجميع أنواعها. وعبدها اليونان في صور مختلفة: فهي في صورة أفرديتي أورينا- السماوية- ربة الحب العذري أو المقدس ، وفي صورة أفرديتي بندموس Pandemos- الشعبية- إلهة الحب الدنس بكافة أنواعه ، وفي صورة أفرديتي كليبيجوس Kallipygos فينوس ذات الردفين الجميلين.