بقلم : عيداروس القصير
في 5 يونيو الجاري تكون مرت بالتمام اربعون عاما علي حرب سنة 1967 التي هزمت فيها اسرائيل الجيوش العربية واحتلت سيناء المصرية والجولان السورية وباقي ألأراضي الفلسطينية ( الضفة الغربية وقطاع غزة ) .
وقد حفلت الأربعة عقود المنقضية منذ الهزيمة بجهود سياسية ودبلوماسية لم تنقطع طوال الفترة لانهاء الاحتلال أسفرت عن استمراره في فلسطين والجولان وعن اخراج مصر من جبهة المواجهة العربية لاسرائيل، وعن قيام السلطة المصرية بدورعراب تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني والخضوع لسياسات ومخططات الاستعمار الامريكي وتصفية كل أشكال المقاومة الوطنية للاحتلال الصهيوني وللهيمنة الامريكية السياسية والعسكرية علي المنطقة مقابل انسحاب اسرائيلي من سيناء أبقاها رهينة لقوات العدو الصهيوني وارادة الاستعمار الامريكي ، بمقتضي القيود التي فرضتها معاهدة "السلام" علي وجود القوات المسلحة المصرية والوجود العسكري الامريكي والدولي الذي تقوده امريكا في سيناء وبإرتباط السياسة المصرية وكافة اوضاع بلادنا الأساسية الاقتصادية والسياسية والعسكرية بعجلة السياسة الاستعمارية الامريكية والعالمية كما هو حادث منذ توقيع المعاهدة في 1979 .
وقد قامت خلال ال 40 عاما حربان في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية عام 1967وهما حرب الاستنزاف 68 – 1970 و حرب أكتوبر1973 ولكنهما لم تقوما ضمن استراتيجية لتحرير الارض المحتلة وإنما كأسلوب للضغط وتحريك الجهود الرامية لانهاء الاحتلال في اطار تسوية سياسية تعترف بالكيان الصهيوني وتسلم في الأراضي الفلسطينية المغتصبة سنة 1948. كما تواصلت حرب المقاومة الفلسطينية التي كانت قد بدأت منذ أول 1965 والتي تحولت استراتيجيتها خاصة منذ مؤتمر الجزائر 1988 من استرايجية تحرير فلسطين واقامة الدولة الديمقراطية الوطنية العلمانية علي كامل التراب الوطني الفلسطيني إلي استرايجية اقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وفقا لقرار مجلس الأمن 242 لسنة 1967 الذي يشترط الاعتراف باسرائيل وحدودها ألآمنة!! مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة( في متن القرار أراض وليس ألأراضي) سنة 1967 وبالاعتماد علي العمل السياسي والدبلوماسي ، كأساس ، والكفاح المسلح ، كوسيلة ، لتنشيط وتحريك التسوية السياسية وليس كوسيلة لتحرير أرض الدولة الفلسطينية المنشودة . انتهي هذاالتغيير في الاستراتيجية الفلسطينية بالاتجاه المسيطر في منظمة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية إلي اتفاقية أوسلوالتي تخلت فيها المنظمة عن الكفاح المسلح وارتضت العمل السياسي والتفاوض كأسلوب وحيد لانهاء الاحتلال واقامة الدولة في الضفة والقطاع دون أدني التزام مسبق من جانب اسرائيل بالانسحاب الكامل من الضفة والقطاع و بالدولة الفلسطينية . وكان المقابل الذي حصل عليه الفلسطينيون هو عصف اسرائيل بالتزاماتها التافهة التي لم تغير من واقع الاحتلال شيئا التي نصت عليها الاتفاقية وراحت توسع وتكثف استيطانها لباقي الأراضي الفلسطينية وتمزقها بالطرق الالتفافية والحواجز واخيرا جدار الاحتلال والعزل .
لكن الشعب الفلسطيني البطل رفض النهج الاستسلامي لقيادته التي افلست وواصل كفاحه المسلح وفجرانتفاضة الأقصي سنة 2000 وعاقب ألاوسلويين في اوائل 2006 بانتخاب ممثلي المنظمة التي رفضت أوسلو وواصلت الكفاح المسلح وقامت بالدور الأبرز فيه منذ 1993 . وفي مواحهة خيار المقاومة تكالبت كل القوي الصهيونية والاستعمارية الامريكية والعالمية و المستسلمون العرب والفلسطينيون للنيل من ارادة الشعب الفلسطييني بالحصار الاقتصادي والمالي ، وبالعدوان الاسرائيلي اليومي علي الفلسطينيين ومنازلهم واراضيهم وزيتونهم ومزارعهم وحرب "أمطار الصيف" علي غزة التي سبقت حرب 12 يوليو 2006 اللبنانية الاسرائيلية ، وبإثارة الفتنة والاقتتال بين الفلسطينيين ليقتل بعضهم البعض لصرفهم عن قتال العدو الذي لم يتوقف يوما واحدا عن تعذيب وقتل الفلسطينيين ، وبتكثيف الجهود الاستسلامية العربية والاوسلوية المدفوعة أمريكيا لوقف المقاومة واعتراف جميع منظماتها باسرائيل وبالاتفاقيات الاستسلامية التصفوية التي عقدتها قيادة منطمة التحرير المفلسة ولفتح الباب واسعا للتنازل عن حق العودة والمقاطعة العربية لاسرائيل باعادة طرح وتنشيط المبادرة العربية لسنة 2002 (السعودية الأصل) التي تفتح باب التنازل عن حق العودة وتطبيع العلاقات العربية الصهيونية .
وكما هو واضح لكل ذي بصيرة لم تسفر سياسة التسوية السياسية مع الكيان الصهيوني عن بقاء الاحتلال لكل ارض فلسطين والجولان وتراجع منظمة التحريرالفلسطينية عن خط المقاومة والتحرير ، وعن اتخاذ سيناء بعد انسحاب اسرائبل منها رهينة مقابل تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وقبول الدولة المصرية تصفية القضية الفلسطينية وخضوعها لتوجهات السياسة الامريكية علي الاصعدة الداخلية والعربية والعالمية فحسب، وانما اسفرت ايضا عن النتائج التالية :
1 – توسع وتكثيف السيطرة الأمريكية علي مقدرات الدول العربية :
شهدت الفترة التالية لحرب اكتوبر توسعا وتصاعدا متواصلا في النفوذ والسيطرة الامريكية علي توجهات وسياسات ومواقف الدول العربية ، ولقد لعبت سياسة التسوية السياسية السلمية مع الكيان الصهيوني الدور الأبرز في التمكين للنفوذ الامريكي في الدول العربية لأن منطق هذه السياسة يقوم في المقام الأول علي استرضاء أمريكا وتقديم التنازلات لها واثبات الاخلاص والحرص علي مصالحها( والتي هي مصالح استعمارية في الأساس ) بحجة حفزها علي الضغط علي اسرائيل لتنسحب من الاراضي العربية المحتلة . من الأمثلة البارزة علي ذلك أن انضمام سوريا ومصر وأعلب الدول العربية للحلف الثلاثيني لتدمير العراق بحجة تحرير الكويت والقبول بالوجود العسكري الامريكي في الاراضي والمياة الاقليمية العربية منذ سنة 1990- 1991 قد تم تبريره بالوعد الامريكي بالعمل علي تحقيق تسوية سياسية تنسحب بمقتضاها اسرائيل من الاراضي العربية المحتلة سنة 1967 ، وهو الوعد الذي عقد بمقتضاه مؤتمر مدريد 1991 والذي لم يسفر سوي عن تكريس احتلال هذه الأراضي فضلا عن اخضاع المنطقة مثلما لم يحدث من قبل هذا الموتمر لارادة أمريكا واسرائيل ، والاستثناء الوحيد هو المقاومة اللبنانية وبعض الفصائل الفلسطينية التي رفضت هذا النهج الاستسلامي المشين . ومن الأمثلة البارزة أيضا طرح خريطة الطريق ل "فلسطين" قبل غزو العراق لكي تتخذها الدول العربية التابعة لأمريكا والسائرة في ركابها ذريعة لتبرير تأييدها أو عدم معارضتها للغزو الامريكي للعراق بحجة أن الامريكان سيحلون القضية العربية المركزية وهي القصية الفلسطينية ، ومن ثم لا يصح أن نعارضهم أو نعاديهم حتي نشجعهم علي هذا الحل علما بان خريطة الطريق ليست سوي خطة لانهاء المقاومة الفلسطينية واتمام تصفية القضية الفلسطينية كما هو واضح لكل من اطلع عليها . أما آخر الامثلة وأكثرها دلالة علي سفالة وانحطاط سياسة الدول العربية ودول الجوار غير العربية ، فهو مطالبتها باحياء ما يسمي بعملية السلام بين العرب واسرائبل وحل الخلافات بين امريكا وايران حول برنامجها النووي مقابل مساعدة امريكا علي فرض الاستقرار في العراق المحتل وانقاذ جيوشها من خطر الهزيمة أمام المقاومة العراقية ، هذه المساومة الدنيئة وغير الجائزة مبدئيا والضارة بنضال شعوبنا أبلغ الضرر عمليا عقد علي أساسها مؤتمر شرم الشيخ الثاني في مايو 2007 .
إن منطق سياسة الحل السلمي مع الكيان الصهيوني ، هذه السياسة التي تتعارض مع الطبيعة الصهيونية الاستيطانية لاسرائيل والطبيعة الاستعمارية والعدوانية لدولة الولايات المتحدة الامريكية ولكل الدول الراسمالية الاحتكارية في العالم ، يدفع بالضرورة لتقديم التنازلات تلو التنازلات للعدو الصيوني والاستعماري بداية بمقولة استغلال التناقض مهما كان ضعيفا بين أمريكا واسرائيل مرورا بمقولة اثبات الحرص علي المصالح الامريكية واقناع أمريكا أننا أنفع لها من اسرائيل وصولا لمقولة كل أوراق اللعبة أو 99% منها في أيدي أمريكا كمبرر للخضوع التام للسياسة الامريكية التي يقف علي رأس جدول اعمالها تدعيم الاحتلال الصهيوني لفلسطين وأراضي الدول العربية المجاورة لها .
إن سياسة التسوية السياسية مع الكيان الصهيوني كانت ولا تزال الأداة الاساسية التي اعتمد عليها الاستعمار الامريكي لتشديد قبضته علي الدول العربية وتكريس تبعية وخضوع أنظمتها الحاكمة له والتي مهدت لاحتلال العراق لاتخاذه مرتكزا لاعادة رسم خرائط المنطقة السياسية والجعرافية في طور جديد موسع ومكثف من أطوار المشروع الاستعماري الغربي القديم المجدد لمنطقتنا ، هذا المشروع - سواء في صورته المنشودة من احتلال العراق أو صورته السابقة علي احتلال العراق - لا يمكن هزيمته ، بدون هزيمة سياسة التسوية والاعتراف باسرائيل والخضوع للسياسة الامريكية والارتباط بعجلتها ، بدون استراتيجية مقاومة وتحرير تعتمد جميع وسائل النضال وعلي رأسها المقاومة المسلحة قي مواجهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية الأخري والاحتلال الأمريكي للعراق .
2 – طمس علاقة الارتباط الضروري بين التحرر من الاستعمار والتبعية الاستعمارية والاحتلال والوجود الصهيوني وبين التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي :
تقوم سياسة التسوية السلمية علي التسليم بالكيان الصهيوني في فلسطين وبامكانية التعايش السلمي والعلاقات الطبيعية معه ، وهوما يعني التسليم باغتصاب فلسطين والقبول بالتعايش مع قاعدة الاستعمار الامريكي والعالمي في المنطقة وهو مايعني بدوره القبول بالسيطرة الاستعمارية علي البلاد العربية التي اقام الاستعمار العالمي اسرائيل علي اراضي احدها لتكون الاداة البديلة أو المكملة لجيوش امريكا او غيرها من الدول الاستعمارية لفرض خضوع الدول العربية لها كما حدث بالفعل منذ اقامة الدولة الصهيونية وحتي الآن .
وقد جري بعد هزيمة 67 - وخاصة بعد حرب اكتوبر- تسويق التسليم بالكيان الصهيوني والتعايش السلمي وتطبيع العلاقات معه وقبول السلطة المصرية الحاكمة بمقتضي اتفاقيات كامب دبفيد ومعاهدة "السلام" اطلاق يد اسرائيل لتكريس احتلالها واعتداءاتها علي الشعب الفلسطيني وشعوب الجوار العربية الاخري عبر عملية تضليل سياسية وفكرية وثقافية مشتركة بين الاستعمار الامريكي والكيان الصهيوني والسلطة المصربة الحاكمة لطمس علاقة الارتباط بين التحررالوطني من الاستعمار والصهيونية أوالتبعية الاقتصادية والسياسية لهما وبين أي مشروع حقيقي للتغلب علي التخلف الاقتصادي والسياسي والثقافي لبلادنا ولبناء أسس التقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وفتح الطريق أمام طموحات جماهير الكادحين لاقامة مجتمع يحررها من الفاقة والقهر والاستغلال .
فقد قام فك الاشتباك العسكري والسياسي مع اسرائيل ، بداية باتفاقية فك الاشتباك بعد أسابيع من وقف اطلاق النار في اكتوبر 1973 ، علي استرايجية سياسية جديدة للسلطةالحاكمة هي استراتيجية فك الاشتباك السياسي مع أمريكا الاستعمارية التي شنت علي مصر وسوريا والضفة والقطاع في فلسطين حرب يونيو 67 بواسطة اسرائيل أداتها وقاعدتها الأساسية في المنطقة لفرض سيطرها علي مصر والعالم العربي بأسره وهو ما تكشف عنه بوضوح تام مطالب وضغوط أمريكا علي مصر قبل هذه الحرب . ولا يعني فك الاشتباك مع الاستعمار الذي يهاجمنا الا ايقاف النضال ضد سياساته واهدافه العدوانية والتسليم بمطالبه . وبالفعل كان اخضاع مصر للسياسة الامريكية وربطها برباط التبعية السياسية والعسكرية فضلا عن الاقتصادية هي الجائزة الكبري التي حصلت عليها أمريكا واستفادت بها اسرائيل كنتيجة لعدوان وهزيمة 1967 ، ذلك لأن حرب اكتوبر لم تكن نتائجها كافية لحمل اسرائيل وأمريكا علي قبول الانسحاب غير المشروط من سيناء وغيرها من الاراضي المحتلة من جهة ولاتمام الجناح المتوجه الي الارتباط بعجلة السياسة الاستعمارية الامريكية وإلي التخلي عن التوجهات الوطنية وعن بناء الأسس السياسية والاقتصادية والثقافية للتقدم المعتمد علي الذات سيطرته علي سلطة الدولة المصرية اثناء وبعد حرب اكتوبر من جهة أخري .
وبالمخالفة للتجربة التاريخية المصرية منذ عصر محمد علي الكبير والتي تثبت بما لايدع مجالا للشك أن الاستعمار يقف بالمرصاد لكل محاولة لتحديث وتقدم بلادنا ، وبالتنكرلحقائق وقوانين النظام الرأسمالي العالمي في عصرنا الذي تسيطر علية حفنة من الدول الصناعية الاستعمارية المحتكرة للتقدم الاقتصادي والتكنولوجي والمتحكمة في تطور الدول المتخلفة اقتصاديا بمقتضي تقسيم عمل دولي يعيد انتاج التخلف ويعمقه في هذه الدول الأخيرة ويحافظ علي الاستقطاب الدائم بين اطراف النظام المتخلفة ومراكزه المتقدمة والاستعمارية ، قام النظام الحاكم وأبواقه في مصر ومن خلفهم الاستعمار والصهيونية بترويج الأوهام عن التقدم والرخاء الاقتصادي الذي سيعود علي جماهير شعبنا مقابل التسليم بالكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه ومقابل الكف عن رفض او مقاومة السياسة الامريكية ولزوم الصمت حول طبيعتها وممارساتها الاستعمارية - بل واعتبارها الصديق والحليف الاستراتيجي - وماسيتاح لنا جراء الاستسلام لأمريكا واسرائيل من موارد توجه للتطور والرخاء الاقتصادي بالتخلص من التكلفة الاقتصادية للحرب مع اسرائيل ، وبالحصول علي معونات أمريكا واستثماراتها في مصر، وباطلاق سياسة الانفتاح وقوانين استثمار رأس المال العربي والاجنبي ، وما سمي آنذاك اصلاح المسار الاقتصادي وفقا لتعليمات ووصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، ولاحقا ، ما سمي سياسات التحريروالاصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي ، هذه السياسات وتلك الأوهام التي لم تجلب جميعها لاقتصادنا وشعبنا سوي المزيد من التخلف الاقتصادي والتدهور الاجتماعي والثقافي والبطالة والافقار وانهيار الخدمات الأساسية وفي مقدمتها : التعليم والعلاج والخلل الفادح بين الاسعار والاجور النقدية وانهيار الاجور الحقيقية والعصف بالكثير من الضمانات والحقوق المكتسبة للعمال وغيرهم من الكادحين واخصاع الفقراء ومحدودي الدخل لاليات السوق التي لا ترحم فقبرا او عاطلا عن العمل .
ولقد بلغ تشوية الحقائق التاريحية وحقائق عالمنا وواقعنا المحلي حدا تتضاءل أو تغيب معه ، وحتي الآن ، العلاقة الوثيقة والرئيسية بين سياسات الخضوع والتبعية للاستعمار والصهيونية وبين تخلف وتدهور الانتاج والخدمات في بلادنا عن رؤية عدد لا يستهان به من السياسيين والمثقفين بل وبعض القوي والاحزاب السياسية المعارضة للنظام القائم ، هذا فضلا عن غيابها عن قطاعات واسعة من جماهيرالكادحين البسطاء . وهو ما يضر بكل من الحركات الجماهيرية الاساسية : حركة النضال الوطني ضد الاستعمار والتبعية والصهيونية ، حركة النضال من اجل الحريات والديموقراطية ، حركة النضال الاقتصادي والنقابي من اجل تحسين الاجور وشروط وضمانات العمل ، حركة النضال من اجل اسقاط السياسات الاقتصادية المنتجة للتخلف والتدهور والبطالة والافقار واعتماد استراتيجية اقتصادية بديلة تبني أسس التقدم الاقتصادي المعتمد علي الذات كاساس وتضع حقوق الطبقات الشعبية في مقدمة أولوياتها .
3 – توفير عوامل احياء وصعود التيار الديني :
فاجأت الهزيمة الفادحة السريعة والمروعة جماهير الشعب وهزت بعنف الثقة غير المحدودة التي كان قد منحتها لنظام يوليو. ولكنها ظلت رغم ذلك علي تمام الاستعداد كما عبرت في انتفاضاتها العارمة في 9 ، 10 يونية 1967 لمنح عبدالناصر بالذات فرصة جديدة لقيادتها في غسل عار الهزيمة وإخراج مصر ومعها الشعوب العربية من أسرها . سمحت الهزيمة للتيارات المقموعة من النظام كافة : الدينية والليبرالية والاشتراكية ، المائلة للاستسلام التام للاستعمار والصهيونية أو النازعة لمقاومتهما مقاومة جذرية وثورية ، علي السواء ، باطلاق انتقاداتها علنا و شبه علنا لسياسات النظام المسئولة من وجهة نظر كل منها عن الهزيمة . إلا أن الانتقاد الذي وجد تدريجيا وبصورة متواترة سنة بعد أخري استجابة في صفوف جماهيرالشعب وخاصة جماهير الشباب وخريجي المدارس والجامعات هو التيار الديني ممثلا في جماعة الاخوان والجماعات الأكثر تطرفا وانغلاقا التي انبثقت منها . وهو انتقاد بسيط وشديد الايجاز ومتعسف وغير عقلاني ومناقض لحقائق العصر هو" أننا هزمنا لاننا لا نطبق شرع الله" . إلا أن كل من : صدمة الهزيمة ، والمرتكز الديني السلفي الغالب في الثقافة المصرية والعربية ، وسياسة النظام بعد الهزيمة التي افتتحت متوالية من التنازلات السياسية للعدو الصهيوني والامريكي وصراعات القوي داخل النظام الحاكم وفي المجتمع في اعقاب الهزيمة التي عززت وضع الجناح اليميني المستسلم او المهادن للاستعمار والصهيونية في الطبقة الحاكمة فضلا عن عدم تغيير الاوضاع والسياسات التي قادت للهزيمة بصورة حاسمة أو ملموسة ، وتوجهات الاتجاه السائد في التيارين الاشتراكي (تحت تأثير ذيليته للاتحاد السوفيتي بالذات الذي كان يدعم تبني استراتيجية التسوية السياسية وليس استراتيجية المقاومة والتحرير) والليبرالي (تحت تأثير استنفاذه لحدوده التاريخية في المقاومة الجذرية والفعالة للاستعمار والتبعية) الذي تبني هو الآخر سياسية التسوية السلمية – نقول إن كل ذلك سمح باكساب التيار الديني مصداقية موهومة بين الجماهير . إذ بدا هذا التيار للجماهير بوصفه المدافع الاساسي عن فلسطين الرافض للاعتراف بالكيان الصهيوني الدخيل وللسيطرة الغربية علي البلاد العربية والاسلامية ، وباتت أيضا دعواه لاتخاذ الدين مرجعية للسياسة والدولة ولادارة وممارسة الصراع ضد الصهيونية والاستعمار أكثر اقناعا للجماهير .
إن حجر الزاوية في أي مشروع سياسي لنهضة بلادنا وخلاصها من التخلف والدكتاتورية السياسية هو استراتيجية مقاومة الاستعمار والصهيونية والتبعية . فإذا لم تؤسس قوي الحداثة والتجديد الاجتماعي ، وهي- بمستويات ودرجات متفاوتة - القوي القومية والاشتراكية والليبرالية (الوطنية) مشروعاتها وتوجهاتها علي قاعدة هذه الاستراتيجية بصورة جذرية وملموسة فإن النتيجة التي تترتب بالضرورة في مجتمع كمحتمعنا لم تتجذر فيه الثقافة الحديثة والمعاصرة - جراء هشاشة وسطحية وتفكك تطورة الاقتصادي والاجتماعي واجهاض نهضته الفكرية والثقافية - هي صحوة وصعود التيارات الماضوية التي تستعيض عن مهانات و مشاكل الحاضر المستعصية بالحنين للماضي والأوهام عن امكانية الخلاص منها بتطبيق أفكار وأحكام السلف "الصالح" .
إن عدم وفاء النظام _ قبل وفاة عبدالناصر- بصورة ملموسة بالثقة المجددة التي منحتها الجماهير لعبدالناصر في 9 ، 10 يونيو ، سواء فيما يتعلق بخط تحرير أرضنا دون قيد او شرط عندما اطلقت ملايين الحناجر في 9 ، 10 يونية شعار "حنحارب" ، أو فيما يتعلق بالاوضاع الداخلية التي ظلت تشهد قيودا صارمة علي حريات وحركة الشعب وغتداءات علي حقوق الطبقات الشعبية بل وانتهاكات لبعض المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي نالتها الجماهير بنضالها من جانب وبتجاوب النظام الناصري من جانب آخر ، وامعان خلفاء عبدالنصر في السلطة في الحقبتين الساداتية والمباركية في تقديم التنازلات للعدو الصهيوني والامريكي وتخليهم عن التوجهات الوطنية والامعان في العدوان علي حقوق الطبقات الشعبية ، وعدم قدرة التيارين الاشتراكي والليبرالي علي ملء الفراغ الفكري والسياسي الناشئ عن تراجع ثم انهيار المشروع الوطني الناصري للاسباب المنوه عنها ولأسباب أخري لا مجال لادراجها وتوضيحها في هذا المقال ـ إن كل ذلك قد حرث التربة واعدها للتيار الديني وتحوله للتيار السياسي الرئيسي السائد علي صعيد المعارضة السياسية للنظام الحاكم في مصر وأغلب الدول العربية وتهميشه للتيارات الديموقراطية والاشتراكية .
ولقد ساهم التيار الديني في الحد من الأثار المعنوية المدمرة لروح الممانعة والمقاومة للاستعمار والصهيونية ، كما اطلق حركتي حماس والجهاد في فلسطين لتقوما بالجهد الأبرز في مواصلة استراتيجية المقاومة والتحرير بعد تراجع منظمة التحرير عنها ، كما اطلق المقاومة الاسلامية الشيعية في لبنان والتي حققت انتصارين استراتيجيين علي العدو الصهييوني باجباره علي الانسحاب من لبنان دون قيد أو شرط عدا مزارع شبعا سنة 2000 وفي حرب يوليو 2006 ، علاوة علي أنه بعض تعبيراته وفرقه في العراق ( التي ليس من بينها الاخوان المسلمين الذين يتعاونون مع سلطة الاحتلال أو التنظيمات التكفيرية السنية والشيعية التي تصب عملياتها ضد خصومها في الطائفة والمذهب مباشرة في مصلحة العدو المستعمر) تقوم بدور كبير في المقاومة العراقية للاحتلال الامريكي جنبا الي جنب التيار القومي والتيارالاشتراكي . إلا أن الدور الايجابي للتيار الديني في مواجهة الصهيونية والاستعمار يظل رغم ذلك مؤقتا ومنتجا في ذات الوقت لأوضاع تتعارض مع شروط تعبئة وحشد جميع طاقات الأمة في النضال ضد العدو ومع شروط تحقيق الانتصار النهائي والحاسم عليه ، ومن ثم فإنه يضرفي نهاية الأمر أو في التحليل الآخيربقضية الانتصار علي الامبريالية والصهيونية . فهو بقدر ما يسرع عند النكبات والنكسات الكبري من تقديم بديل للاتجاهات الوطنية العلمانية القومية والليبرالية والاشتراكية المتراجعة أمام العدوان والهجوم الاستعماري والصهيوني تحت شعارات كشعار"الاسلام في خطر" و"حماية الدين" ، و" الاسلام هو الحل"، - والتي لا تعبر عن طبيعة الصراع المعاصر الدائر حول المصالح والأرض والموارد والاسواق بين الاستعمار وبين شعوب العالم أيا كانت أديانها اسلامية أو مسيحية أو بوذية أو غيرها ولا عن حقائق ومتطلبات عصرنا ومجتمعنا الحقيقية - يضع رابطة الدين والطائفة والمذهب الديني فوق رابطة المواطنة والوطن والوطنية والقومية فيضعف من وحدة وتماسك الوحدة الوطنية والقومية لشعوبنا وهي اساس النصر المنشود علي العدوالاستعماري والصهيوني وأساس الانتصار ايضا في معركة الحريات والديموقراطية السياسية ، ويصور الصراع العربي – الصهيوني والعربي- الاستعماري كصراع ديني فيعطي لاسرائل مبرر وجودها المفتعل كدولة يهودية وللاستعمار الامريكي والعالمي تصديقا علي اكذوبته عن صراع الحضارات والديانات التي يستخدمها اليوم لكسب تأييد شعوب الدول الاستعمارية ذات الأغلبية المسيحية لعدوانها الاستعماري القديم الجديد علي منطقة يقطنها هذه المرة أغلبية اسلامية الدين . أما علي صعيد التطور الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي فيجسد التيار الديني أكبر معول تهديد وهدم قائم بين صفوفنا لحرية الاعتقاد والبحث والابداع , وأكبر مصادرة لحق الاجيال المعاصرة في بحث قضايا المجتمع وايجاد الحلول المناسبة لها وفقا لمنجزاات العلوم الاجتماعية والطبيعية والفلسفية المعاصرة واحتياجات وطموحات شعوبنا وعدم التقيد في ذلك باحكام وأراء السلف إلا ما لايزال صالحا للعصر وهو قليل .
ويعد صعود التيار الديني السياسي قي مصر والدول العربية عامة نتاجا لسياسة التسوية المنوه عنها وليس نتاجا لهزيمة 67 في حد ذاتها ، وهوبرغم الدور الذي لعبه ولا يزال في مقاومة العدو الصهيوني فإنه للاسباب سابقة الذكر لايعكس نموا وتطورا في قوي الخلاص من الهزيمة ونتائجها وأزمة مصر والمجتمعات العربية التي انتجتها أو عمقتها الهزيمة وتداعياتها السياسية والاقتصادية والثقافية ، بقدر ما يعكس تفاقم الأزمة وتعقيدها وتأخر نمو قوي حلها .
لذلك وإذا صح أن ما اوردناه في هذه الصفحات هوالأوضاع الناتجة بصوره مباشرة عن هزيمة 1967 واستراتيحية وسياسات مواجهتها التي اتبعتها النظم الحاكمة العربية والقوي السياسية الاخري التي سارت ورائها من البداية أو لحقت بها في الطريق بعد فترة قصيرة أو طويلة ، تكون مصر وسوريا وفلسطين والبلاد العربية عموما لاتزال بعد اربعين عاما في أسر تلك الهزيمة والسياسات التي تكرسها وتفاقم نتائجها وتداعياتها السلبية علي جمبع أوضاع بلادنا السياسية والاقتصادية والثقافية ، وتكون قضية الصراع السياسي الرئيسية في مصر والعالم العربي هي قضية الانتصار لاسترابيجية المقاومة والتحريرونبذ استراتيجية التسوية السياسية وتوفير شروط الانتصار الحاسم والنهائي علي العدو الامريكي والصهيوني وأساس هذه الشروط توحيد وتعبئة كل قوي وطاقات شعوبنا في مقاومة الاستعمار والصهيونية والقوي المرتبطة بهما والممائلة لهما ، واعتبار هذه القضية حجر الزاوية في أي مشروع سياسي جدير بانتسابه الي الشعب أو إحدي طبقاته , وقد أفصح احتلال العراق والمشروع الاستعماري الموسع المرتبط به عن صحة هذا التوجه وبما لا يدع أدني عذر أو حجة للاعتراض عليه .
5 يونية 2007 عيداروس القصير