Labza.Salem Admin
عدد المساهمات : 43954 نقاط : 136533 تاريخ التسجيل : 12/09/2014 العمر : 29 الموقع : سيدي عامر
| موضوع: ترجمة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه من كتاب المجموع للإمام النووي السبت 22 أبريل - 11:10 | |
| بَابٌ فِي نَسَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَطَرَفٌ مِنْ أُمُورِهِ ، وَأَحْوَالِهِ: هُوَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبِيُّ الشَّافِعِيُّ الْحِجَازِيُّ الْمَكِّيُّ . يَلْتَقِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبْدِ مَنَافٍ . وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ فِي مَنَاقِبِ ، الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَحْوَالِهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. كَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ ، وَآخَرِينَ . وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْبَيْهَقِيِّ . وَخَلَائِقَ لَا يُحْصَوْنَ ، وَمِنْ أَحْسَنِهَا تَصْنِيفُ الْبَيْهَقِيّ ، وَهُوَ مُجَلَّدَتَانِ مُشْتَمِلَتَانِ عَلَى نَفَائِسَ مِنْ كُلِّ فَنٍّ . وَقَدْ شَرَعْتُ أَنَا فِي جَمْعِ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ ، وَجَمَعْتُ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي مَنَاقِبِهِ ، وَمِنْ كُتُبِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ، وَالْحَدِيثِ ، وَالتَّارِيخِ ، وَالْأَخْيَارِ ، وَالْفُقَهَاءِ ، وَالزُّهَّادِ ، وَغَيْرِهِمْ فِي مُصَنَّفٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ الِاخْتِصَارِ ، وَالتَّطْوِيلِ ، وَأَذْكُرُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ النَّفَائِسِ مَا لَا يَسْتَغْنِي طَالِبُ عِلْمٍ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لَا سِيَّمَا الْمُحَدِّثُ ، وَالْفَقِيهُ ، وَلَا سِيَّمَا مُنْتَحِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِهِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ . وَأَمَّا هَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ فَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْإِشَارَةَ إلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ ، وَالرَّمْزَ إلَى أَطْرَافٍ مِنْ تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ ، وَالْمَعَاقِدِ . فَأَقُولُ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُفَوِّضًا أَمْرِي إلَيْهِ : الشَّافِعِيُّ قُرَيْشِيٌّ مُطَّلِبِيٌّ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ ، وَأُمُّهُ أَزْدِيَّةٌ . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي فَضَائِلِ قُرَيْشٍ ، وَانْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَى جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَغَيْرِهِمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ ، وَالشَّرِّ } . وَفِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ أَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الْأَزْدِ
فَصْلٌ . فِي مَوْلِدِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَفَاتِهِ وَذِكْرِ نُبَذٍ مِنْ أُمُورِهِ ، وَحَالَاتِهِ . وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقِيلَ إنَّهُ تُوُفِّيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ التَّقْيِيدُ بِالْيَوْمِ . ثُمَّ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وُلِدَ بِغَزَّةَ ، وَقِيلَ : بِعَسْقَلَانَ ، وَهُمَا مِنْ الْأَرَاضِي الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا ، فَإِنَّهُمَا عَلَى نَحْوِ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ حُمِلَ إلَى مَكَّةَ ، وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ ، وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ ، وَمِائَتَيْنِ ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ ، وَخَمْسِينَ سَنَةً . قَالَ الرَّبِيعُ : تُوُفِّيَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَأَنَا عِنْدَهُ ، وَدُفِنَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ ، وَقَبْرُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِصْرَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَلَالَةِ ، وَلَهُ مِنْ الِاحْتِرَامِ مَا هُوَ لَائِقٌ بِمَنْصِبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ . قَالَ الرَّبِيعُ : رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنَّ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ ، فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ : هَذَا مَوْتُ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، فَمَا كَانَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ الشَّافِعِيُّ ، وَرَأَى غَيْرُهُ لَيْلَةَ مَاتَ الشَّافِعِيُّ قَائِلًا يَقُولُ : اللَّيْلَةَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَشَأَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ فِي قِلَّةٍ مِنْ الْعَيْشِ ، وَضِيقِ حَالٍ ، وَكَانَ فِي صِبَاهُ يُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ ، وَيَكْتُبُ مَا يَسْتَفِيدُهُ فِي الْعِظَامِ ، وَنَحْوِهَا ، حَتَّى مَلَأَ مِنْهَا خَبَايَا ، وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ. قَالَ : كَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَطْلُبُ الشِّعْرَ ، وَأَيَّامَ الْعَرَبِ ، وَالْأَدَبَ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْفِقْهِ بَعْدُ . قَالَ : وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ لَهُ ، وَخَلْفَهُ كَاتِبٌ لِأَبِي ، فَتَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ فَقَرَعَهُ كَاتِبُ أَبِي بِسَوْطِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : مِثْلُكَ يَذْهَبُ بِمُرُوءَتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الْفِقْهِ ؟ فَهَزَّهُ ذَلِكَ فَقَصَدَ مُجَالَسَةَ الزِّنْجِيِّ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ ، وَكَانَ مُفْتِي مَكَّةَ ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا فَلَزِمَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ . وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الشِّعْرِ فَارْتَقَيْتُ عَقَبَةً بِمِنًى ، فَإِذَا صَوْتٌ مِنْ خَلْفِي : عَلَيْكَ بِالْفِقْهِ . وَعَنْ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : خَرَجْت أَطْلُبُ النَّحْوَ ، وَالْأَدَبَ فَلَقِيَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ فَقَالَ : يَا فَتَى مِنْ أَيْنَ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ : أَيْنَ مَنْزِلُكَ ؟ قُلْتُ : شِعْبٌ بِالْخَيْفِ قَالَ : مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ قَالَ : بَخٍ بَخٍ لَقَدْ شَرَّفَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ ، أَلَا جَعَلْتَ فَهْمَكَ فِي هَذَا الْفِقْهِ فَكَانَ أَحْسَنَ بِك ؟ . ثُمَّ رَحَلَ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ قَاصِدًا الْأَخْذَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي رِحْلَتِهِ مُصَنِّفٌ مَشْهُورٌ مَسْمُوعٌ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَرَأَ عَلَيْهِ الْمُوَطَّأَ حِفْظًا ، فَأَعْجَبَتْهُ قِرَاءَتُهُ ، وَلَازَمَهُ ، وَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : اتَّقِ اللَّهَ ، وَاجْتَنِبْ الْمَعَاصِيَ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَكَ شَأْنٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا فَلَا تُطْفِهِ بِالْمَعَاصِي . وَكَانَ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ أَتَى مَالِكًا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ نَزَلَ بِالْيَمَنِ . وَاشْتُهِرَ مِنْ حُسْنِ سِيرَتِهِ ، وَحَمْلِهِ النَّاسَ عَلَى السُّنَّةِ ، وَالطَّرَائِقِ الْجَمِيلَةِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ . ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ ، وَأَخَذَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعُلُومِ ، وَرَحَلَ إلَى الْعِرَاقِ ، وَنَاظَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ، وَغَيْرَهُ ، وَنَشَرَ عِلْمَ الْحَدِيثِ ، وَمَذْهَبَ أَهْلِهِ ، وَنَصَرَ السُّنَّةَ ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ ، وَفَضْلُهُ ، وَطَلَبَ مِنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي عَصْرِهِ أَنْ يُصَنِّفَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَصَنَّفَ كِتَابَ الرِّسَالَةِ ، وَهُوَ أَوَّلُ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ يُعْجَبَانِ بِهِ ، وَكَانَ الْقَطَّانُ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَدْعُوَانِ لِلشَّافِعِيِّ فِي صَلَاتِهِمَا . وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى اسْتِحْسَانِ رِسَالَتِهِ ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ : قَرَأْتُ الرِّسَالَةَ خَمْسَمِائِةِ مَرَّةٍ مَا مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَاسْتَفَدْتُ مِنْهَا فَائِدَةً جَدِيدَةً . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ : أَنَا أَنْظُرُ فِي الرِّسَالَةِ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةٍ ، مَا أَعْلَمُ أَنِّي نَظَرْتُ فِيهَا مَرَّةً إلَّا ، وَاسْتَفَدْتُ شَيْئًا لَمْ أَكُنْ عَرَفْتُهُ . وَاشْتَهَرَتْ جَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْعِرَاقِ ، وَسَارَ ذِكْرُهُ فِي الْآفَاقِ ، وَأَذْعَنَ بِفَضْلِهِ الْمُوَافِقُونَ ، وَالْمُخَالِفُونَ ، وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ ، وَعَظُمَتْ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ ، وَوُلَاةِ الْأُمُورِ مَرْتَبَتُهُ ، وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُمْ جَلَالَتُهُ ، وَإِمَامَتُهُ ، وَظَهَرَ مِنْ فَضْلِهِ فِي مُنَاظَرَاتِهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ ، وَغَيْرَهُمْ مَا لَمْ يَظْهَرْ لِغَيْرِهِ ، وَأَظْهَرَ مِنْ بَيَانِ الْقَوَاعِدِ ، وَمُهِمَّاتِ الْأُصُولِ مَا لَا يُعْرَفُ لِسِوَاهُ ، وَامْتُحِنَ فِي مَوَاطِنَ بِمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْمَسَائِلِ ، فَكَانَ جَوَابُهُ فِيهَا مِنْ الصَّوَابِ ، وَالسَّدَادِ بِالْمَحِلِّ الْأَعْلَى ، وَالْمَقَامِ الْأَسْمَى ، وَعَكَفَ عَلَيْهِ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ الصِّغَارُ ، وَالْكِبَارُ ، وَالْأَئِمَّةُ ، وَالْأَخْيَارُ ، مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالْفِقْهِ ، وَغَيْرِهِمْ ، وَرَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ عَنْ مَذَاهِبَ كَانُوا عَلَيْهَا إلَى مَذْهَبِهِ ، وَتَمَسَّكُوا بِطَرِيقَتِهِ ، كَأَبِي ثَوْرٍ ، وَخَلَائِقَ لَا يُحْصَوْنَ ، وَتَرَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْأَخْذَ عَنْ شُيُوخِهِمْ ، وَكِبَارِ الْأَئِمَّةِ ، لِانْقِطَاعِهِمْ إلَى الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا عِنْدَهُ مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَبَارَكَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لَهُ ، وَلَهُمْ فِي تِلْكَ الْعُلُومِ الْبَاهِرَةِ ، وَالْمَحَاسِنِ الْمُتَظَاهِرَةِ ، وَالْخَيْرَاتِ الْمُتَكَاثِرَةِ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَى سَائِرِ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى . وَصَنَّفَ فِي الْعِرَاقِ كِتَابَهُ الْقَدِيمِ ، وَيُسَمَّى كِتَابَ الْحُجَّةِ ، وَيَرْوِيهِ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِهِ ، وَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالزَّعْفَرَانِيّ ، ، وَالْكَرَابِيسِيُّ . ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ ، وَمِائَةٍ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى : قَدِمَ عَلَيْنَا الشَّافِعِيُّ مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ، وَقَالَ الرَّبِيعُ : سَنَةَ مِائَتَيْنِ ، وَلَعَلَّهُ قَدِمَ فِي آخِرِ سَنَةِ تِسْعٍ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَصَنَّفَ كُتُبَهُ الْجَدِيدَةَ كُلَّهَا بِمِصْرَ ، وَسَارَ ذِكْرُهُ فِي الْبُلْدَانِ ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنْ الشَّامِ ، وَالْعِرَاقِ ، وَالْيَمَنِ ، وَسَائِرِ النَّوَاحِي لِلْأَخْذِ عَنْهُ ، وَسَمَاعِ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ ، ، وَأَخْذِهَا عَنْهُ ، وَسَادَ أَهْلَ مِصْرَ ، وَغَيْرَهُمْ ، وَابْتَكَرَ كُتُبًا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا ، مِنْهَا أُصُولُ الْفِقْهِ ، وَمِنْهَا كِتَابُ الْقَسَامَةِ ، وَكِتَابُ الْجِزْيَةِ ، وَقِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَغَيْرُهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ ( مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ ) : سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ قَالَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حَمْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ الطَّرَائِفِيَّ الْبَغْدَادِيَّ يَقُولُ : حَضَرْتُ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَوْمًا ، وَقَدْ حَطَّ عَلَى بَابِ دَارِهِ سَبْعُمِائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَمَاعِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَصْلٌ فِي تَلْخِيصِ جُمْلَةٍ مِنْ حَالِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَاسِنِ بِالْمَقَامِ الْأَعْلَى ، وَالْمَحَلِّ الْأَسْنَى ، لِمَا جَمَعَهُ اللَّهُ الْكَرِيمُ لَهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ ، وَوَفَّقَهُ لَهُ مِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ ، وَسَهَّلَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَكْرُمَاتِ . فَمِنْ ذَلِكَ شَرَفُ النَّسَبِ الطَّاهِرِ ، وَالْعُنْصُرِ الْبَاهِرِ ، وَاجْتِمَاعِهِ هُوَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّسَبِ ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْفَضْلِ ، وَنِهَايَةُ الْحَسَبِ ، وَمِنْ ذَلِكَ شَرَفُ الْمَوْلِدِ ، وَالْمَنْشَأِ ، فَإِنَّهُ وُلِدَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ ، وَنَشَأَ بِمَكَّةَ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ أَنْ مُهِّدَتْ الْكُتُبُ ، وَصُنِّفَتْ ، وَقُرِّرَتْ الْأَحْكَامُ ، وَنُقِّحَتْ . فَنَظَرَ فِي مَذَاهِبِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَأَخَذَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُبْرَزِينَ ، وَنَاظَرَ الْحُذَّاقَ الْمُتْقِنِينَ ، فَنَظَرَ مَذَاهِبَهُمْ ، وَسَبَرَهَا ، وَتَحَقَّقَهَا ، وَخَبَرَهَا ، فَلَخَّصَ مِنْهَا طَرِيقَةً جَامِعَةً لِلْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَالْقِيَاسِ ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ ، وَتَفَرَّغَ لِلِاخْتِيَارِ ، وَالتَّرْجِيحِ ، وَالتَّكْمِيلِ ، وَالتَّنْقِيحِ ، مَعَ جَمَالِ قُوَّتِهِ ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ ، وَبَرَاعَتِهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفُنُونِ ، وَاضْطِلَاعِهِ مِنْهَا أَشَدَّ اضْطِلَاعٍ . وَهُوَ الْمُبَرِّزُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، الْبَارِعُ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ ، وَالْمَنْسُوخِ ، وَالْمُجْمَلِ ، وَالْمُبَيَّنِ ، وَالْخَاصِّ ، وَالْعَامِّ ، وَغَيْرِهَا مِنْ تَقَاسِيمِ الْخِطَابِ ، فَلَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إلَى فَتْحِ هَذَا الْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ أُصُولَ الْفِقْهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَا ارْتِيَابٍ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُسَاوَى بَلْ لَا يُدَانَى فِي مَعْرِفَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدِّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْحُجَّةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ، وَنَحْوِهِمْ ، فَقَدْ اشْتَغَلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً مَعَ بَلَاغَتِهِ ، وَفَصَاحَتِهِ ، وَمَعَ أَنَّهُ عَرَبِيُّ اللِّسَانِ ، وَالدَّارِ ، وَالْعَصْرِ ، وَبِهَا يُعْرَفُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَهُوَ الَّذِي قَلَّدَ الْمِنَنَ الْجَسِيمَةَ جَمِيعَ أَهْلِ الْآثَارِ ، وَحَمَلَةَ الْأَحَادِيثِ ، وَنَقْلَةَ الْأَخْبَارِ ، بِتَوْقِيفِهِ إيَّاهُمْ عَلَى ، مَعَانِي السُّنَنِ ، وَتَنْبِيهِهِمْ ، وَقَذْفِهِ بِالْحَقِّ عَلَى بَاطِلِ مُخَالِفِي السُّنَنِ ، وَتَمْوِيهِهِمْ ، فَنَعَّشَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا خَامِلِينَ ، وَظَهَرَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ ، وَدَمَغُوهُمْ بِوَاضِحَاتِ الْبَرَاهِينِ حَتَّى ظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَوْمًا مَا فَبِلِسَانِ الشَّافِعِيِّ ، يَعْنِي لِمَا وَضَعَ مِنْ كُتُبِهِ . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ : كَانَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ رُقُودًا فَأَيْقَظَهُمْ الشَّافِعِيُّ فَتَيَقَّظُوا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَحَدٌ مَسَّ بِيَدِهِ مِحْبَرَةً ، وَلَا قَلَمًا إلَّا وَلِلشَّافِعِيِّ فِي رَقَبَتِهِ مِنَّةٌ. فَهَذَا قَوْلُ إمَامِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَأَهْلِهِ ، وَمَنْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي وَرَعِهِ ، وَفَضْلِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَكَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ حَتَّى عَجَزَ لَدَيْهِ الْمُنَاظِرُونَ مِنْ الطَّوَائِفِ ، وَأَصْحَابُ الْفُنُونِ ، وَاعْتَرَفَ بِتَبْرِيزِهِ ، وَأَذْعَنَ الْمُوَافِقُونَ ، وَالْمُخَالِفُونَ فِي الْمَحَافِلِ الْمَشْهُورَةِ الْكَبِيرَةِ ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَئِمَّةِ عَصْرِهِ فِي الْبُلْدَانِ ، وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَاتُ مَعْرُوفَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَالٍمُتَأَخِّرِينَ . وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَاتِ جُمَلٌ مِنْ الْعَجَائِبِ ، وَالْآيَاتِ ، وَالنَّفَائِسِ الْجَلِيلَاتِ ، وَالْقَوَاعِدِ الْمُسْتَفَادَاتِ ، وَكَمْ مِنْ مُنَاظَرَةٍ ، وَقَاعِدَةٍ فِيهِ يَقْطَعُ كُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا ، وَأَنْصَفَ ، وَصَدَقَ : أَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَصَدَّرَ فِي عَصْرِ الْأَئِمَّةِ الْمُبْرَزِينَ لِلْإِفْتَاءِ ، وَالتَّدْرِيسِ ، وَالتَّصْنِيفِ ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ شَيْخُهُ أَبُو خَالِدٍ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ ، إمَامُ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَمُفْتِيهَا ، وَقَالَ لَهُ : افْتِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَدْ ، وَاَللَّهِ آنَ لَكَ أَنْ تُفْتِيَ وَكَانَ لِلشَّافِعِيِّ إذْ ذَاكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً . وَأَقَاوِيلُ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ ، وَأُخِذَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْعِلْمُ فِي سِنِّ الْحَدَاثَةِ ، مَعَ تَوَفُّرِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ، وَهَذَا مِنْ الدَّلَائِلِ الصَّرِيحَةِ لِعِظَمِ جَلَالَتِهِ ، وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمَشْهُورِ الْمَعْرُوفِ فِي كُتُبِ مَنَاقِبِهِ ، وَغَيْرِهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ شِدَّةُ اجْتِهَادِهِ فِي نُصْرَةِ الْحَدِيثِ ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ ، وَجَمْعُهُ فِي مَذْهَبِهِ بَيْنَ أَطْرَافِ الْأَدِلَّةِ ، مَعَ الْإِتْقَانِ ، وَالتَّحْقِيقِ ، وَالْغَوْصِ التَّامِّ عَلَى الْمَعَانِي ، وَالتَّدْقِيقِ ، حَتَّى لُقِّبَ حِينَ قَدِمَ الْعِرَاقَ بِنَاصِرِ الْحَدِيثِ ، وَغَلَبَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَالْفُقَهَاءِ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى مُتَّبِعِي مَذْهَبِهِ لَقَبُ ( أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ) فِي الْقَدِيمِ ، وَالْحَدِيثِ . وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ الْمَعْرُوفِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِ الْحَدِيثِ ، وَمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ بِالْغَايَةِ الْعَالِيَةِ أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ تَعْلَمُ سُنَّةً صَحِيحَةً لَمْ يُودِعْهَا الشَّافِعِيُّ كُتُبَهُ ؟ قَالَ : لَا ، وَمَعَ هَذَا فَاحْتَاطَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِكَوْنِ الْإِحَاطَةِ مُمْتَنِعَةً عَلَى الْبَشَرِ ، فَقَالَ مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ مِنْ وَصِيَّتِهِ بِالْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَتَرْكِ قَوْلِهِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ الثَّابِتِ الصَّرِيحِ . وَقَدْ امْتَثَلَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَصِيَّتَهُ ، وَعَمِلُوا بِهَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ ، كَمَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ فِي الصُّبْحِ ، وَمَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ التَّحْلِيلِ فِي الْحَجِّ بِعُذْرٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَسَتَرَاهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِنْ ذَلِكَ تَمَسُّكُهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَاعْتِرَاضُهُ عَلَى الْأَخْبَارِ الْوَاهِيَةِ الضَّعِيفَةِ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ اعْتَنَى فِي الِاحْتِجَاجِ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ ، وَالضَّعِيفِ كَاعْتِنَائِهِ ، وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَمَنْ ذَلِكَ أَخْذُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ ، وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَمَنْ ذَلِكَ شِدَّةُ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَسُلُوكُ طَرَائِقِ الْوَرَعِ ، وَالسَّخَاءِ ، وَالزَّهَادَةِ ، وَهَذَا مِنْ خُلُقِهِ ، وَسِيرَتِهِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ ، وَلَا يَتَمَارَى فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ ظَالِمٌ عَسُوفٌ . فَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمَحِلِّ الْأَعْلَى مِنْ مَتَانَةِ الدِّينِ ، وَهُوَ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِمَعْرِفَتِهِ عِنْدَ الْمُوَافِقِينَ ، وَالْمُخَالِفِينَ . وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ === إذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إلَى دَلِيلِ . وَأَمَّا سَخَاؤُهُ ، وَشَجَاعَتُهُ ، وَكَمَالُ عَقْلِهِ ، وَبَرَاعَتُهُ فَإِنَّهُ مِمَّا اشْتَرَكَ الْخَوَاصُّ ، وَالْعَوَامُّ فِي مَعْرِفَتِهِ، فَلِهَذَا لَا أَسْتَدِلُّ لَهُ لِشُهْرَتِهِ ، وَكُلُّ هَذَا مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْمَنَاقِبِ مِنْ طُرُقٍ ، وَمَنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { إنَّ عَالِمَ قُرَيْشٍ يَمْلَأُ طِبَاقَ الْأَرْضِ عِلْمًا } وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَسَائِلُ مَعْدُودَةٌ ، إذْ كَانَتْ فَتَاوَاهُمْ مَقْصُورَةً عَلَى الْوَقَائِعِ ، بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ ، وَكَانَتْ هِمَمُهُمْ مَصْرُوفَةً إلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِلَى مُجَاهِدَةِ النُّفُوسِ ، وَالْعِبَادَةِ ، فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلتَّصْنِيفِ ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ، وَصَنَّفَ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ قُرَشِيٌّ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَحَدٌ قَبْلَهُ ، وَلَا بَعْدَهُ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي الْخِلَافِ إنَّمَا بَدَأْتُ بِالشَّافِعِيِّ قَبْلَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدَّمْتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَقْدَمُ مِنْهُ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَدِّمُوا قُرَيْشًا ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ } . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ الاسترابازي صَاحِبُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيِّ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةٌ بَيِّنَةٌ إذَا تَأَمَّلَهُ النَّاظِرُ الْمُمَيِّزُ ، عَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ ، ظَهَرَ عِلْمُهُ ، وَانْتَشَرَ فِي الْبِلَادِ ، وَكُتِبَ كَمَا تُكْتَبُ الْمَصَاحِفُ ، وَدَرَسَهُ الْمَشَايِخُ ، وَالشُّبَّانُ فِي مَجَالِسِهِمْ ، وَاسْتَظْهَرُوا أَقَاوِيلَهُ ، وَأَجْرُوهَا فِي مَجَالِسِ الْحُكَّامِ ، وَالْأُمَرَاءِ ، وَالْقُرَّاءِ ، وَأَهْلِ الْآثَارِ ، وَغَيْرِهِمْ . قَالَ : وَهَذِهِ صِفَةٌ لَا نَعْلَمُ أَنَّهَا أَحَاطَتْ بِأَحَدٍ إلَّا بِالشَّافِعِيِّ ، فَهُوَ عَالِمُ قُرَيْشٍ الَّذِي دَوَّنَ الْعِلْمَ ، وَشَرَحَ الْأُصُولَ ، وَالْفُرُوعَ ، وَمَهَّدَ الْقَوَاعِدَ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ رِوَايَةِ كَلَامِ أَبِي نُعَيْمٍ : وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي تَأْوِيلِ الْخَبَرِ . وَمِنْ ذَلِكَ مُصَنَّفَاتُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ ، وَالْفُرُوعِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا كَثْرَةً ، وَحُسْنًا ، فَإِنَّ مُصَنَّفَاتِهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ ، كَالْأُمِّ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ مُجَلَّدًا ، وَهُوَ مَشْهُورٌ ، وَجَامِعِ الْمُزَنِيِّ الْكَبِيرِ ، وَجَامِعِهِ الصَّغِيرِ ، وَمُخْتَصَرَيْهِ الْكَبِيرِ ، وَالصَّغِيرِ ، وَمُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ ، وَالرَّبِيعِ . وَكِتَابِ حَرْمَلَةَ ، وَكِتَابِ الْحُجَّةِ ، وَهُوَ الْقَدِيمُ ، وَالرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ ، ، وَالرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ ، وَالْأَمَالِي ، وَالْإِمْلَاءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ كُتُبِهِ ، وَقَدْ جَمَعَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ . قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي خُطْبَةِ تَعْلِيقِهِ : قِيلَ : إنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَنَّفَ مِائَةً ، وَثَلَاثَةَ عَشَرَ كِتَابًا فِي التَّفْسِيرِ ، وَالْفِقْهِ ، وَالْأَدَبِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا حُسْنُهَا فَأَمْرٌ يُدْرَكُ بِمُطَالَعَتِهَا فَلَا يَتَمَارَى فِي حُسْنِهَا مُوَافِقٌ ، وَلَا مُخَالِفٌ ، وَأَمَّا كُتُبُ أَصْحَابِهِ الَّتِي هِيَ شُرُوحٌ لِنُصُوصِهِ ، وَمُخَرَّجَةٌ عَلَى أُصُولِهِ ، مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ فَلَا يُحْصِيهَا مَخْلُوقٌ مَعَ عِظَمِ فَوَائِدِهَا ، وَكَثْرَةِ عَوَائِدِهَا ، وَكِبَرِ حَجْمِهَا ، وَحُسْنِ تَرْتِيبِهَا ، وَنَظْمِهَا ، كَتَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ ، وَصَاحِبِيهِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ ، وَصَاحِبِ الْحَاوِي ، وَنِهَايَةِ الْمَطْلَبِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ ، وَهَذَا مِنْ الْمَشْهُورِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُظْهَرَ ، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُشْهَرَ ، وَكُلُّ هَذَا مُصَرِّحٌ بِغَزَارَةِ عِلْمِهِ ، وَجَزَالَةِ كَلَامِهِ ، وَصِحَّةِ نِيَّتِهِ فِي عِلْمِهِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ مُسْتَفِيضًا مِنْ صِحَّةِ نِيَّتِهِ فِي عِلْمِهِ نُقُولٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ ، وَكَفَى بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا قَاطِعًا ، وَبُرْهَانًا صَادِعًا . قَالَ السَّاجِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْخِلَافِ : سَمِعْتُ الرَّبِيعَ يَقُولُ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : " وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ عَلَى أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيَّ حَرْفٌ مِنْهُ " فَهَذَا إسْنَادٌ لَا يُتَمَارَى فِي صِحَّتِهِ فَكِتَابُ السَّاجِيِّ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ ، وَسَمِعَهُ مِنْ إمَامٍ عَنْ إمَامٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ عَلَى الْغَلَبَةِ ، وَوَدِدْتُ إذَا نَاظَرْتُ أَحَدًا أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى يَدَيْهِ " ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ . وَمِنْ ذَلِكَ مُبَالَغَتُهُ فِي الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ ، وَغَيْرِهِمْ ، وَنَصِيحَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَكِتَابِهِ ، وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ هُوَ الدِّينُ كَمَا صَحَّ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ مَعْلُومًا مَشْهُورًا فَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ لِيَعْرِفَهُ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِبَيَانِ الْخَفِيَّاتِ ، وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ .
فِي نَوَادِرَ مِنْ حِكَمِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْوَالِهِ أَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى رُمُوزًا لِلِاخْتِصَارِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ . وَقَالَ : مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ . وَقَالَ : مَا تُقَرِّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ . وَقَالَ : مَا أَفْلَحَ فِي الْعِلْمِ إلَّا مَنْ طَلَبَهُ بِالْقِلَّةِ . وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ { : وَالْعَصْرِ إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } . وَكَانَ قَدْ جَزَّأَ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ : الثُّلُثُ الْأَوَّلُ يَكْتُبُ ، وَالثَّانِي يُصَلِّي ، وَالثَّالِثُ يَنَامُ . وَقَالَ الرَّبِيعُ : نِمْتُ فِي مَنْزِلِ الشَّافِعِيِّ لَيَالِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إلَّا أَيْسَرَهُ . وَقَالَ بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ : مَا رَأَيْتُ ، وَلَا سَمِعْتُ كَانَ فِي عَصْرِ الشَّافِعِيِّ أَتْقَى لِلَّهِ ، وَلَا أَوْرَعَ ، وَلَا أَحْسَنَ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ مِنْهُ . وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَخْتِمُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتِّينَ خَتْمَةً . وَقَالَ حَرْمَلَةُ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ أَعْلَمُهُ تَعَلَّمَهُ النَّاسُ أُؤْجَرُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَحْمَدُونَنِي . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَمَعَ فِي الشَّافِعِيِّ كُلَّ خَيْرٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الظُّرْفُ الْوُقُوفُ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ وَقَفَ . وَقَالَ : مَا كَذَبْتُ قَطُّ ، وَلَا حَلَفْتُ بِاَللَّهِ تَعَالَى صَادِقًا ، وَلَا كَاذِبًا . وَقَالَ : مَا تَرَكْتُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ فِي بَرْدٍ ، وَلَا سَفَرٍ ، وَلَا غَيْرِهِ . وَقَالَ : مَا شَبِعْتُ مُنْذُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً إلَّا شَبْعَةً طَرَحْتُهَا مِنْ سَاعَتِي ، وَفِي رِوَايَةٍ : مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً . وَقَالَ : مَنْ لَمْ تُعِزُّهُ التَّقْوَى فَلَا عِزَّ لَهُ . وَقَالَ : مَا فَزِعْتُ مِنْ فَقْرٍ قَطُّ . وَقَالَ : طَلَبُ فُضُولِ الدُّنْيَا عُقُوبَةٌ عَاقَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ . وَقِيلَ لِلشَّافِعِيِّ : مَالَكَ تُدْمِنُ إمْسَاكَ الْعَصَا ، وَلَسْتَ بِضَعِيفٍ ؟ فَقَالَ : لِأَذْكُرَ أَنِّي مُسَافِرٌ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ : مَنْ شَهِدَ الضَّعْفَ مِنْ نَفْسِهِ نَالَ الِاسْتِقَامَةَ . وَقَالَ : مَنْ غَلَبَتْهُ شِدَّةُ الشَّهْوَةِ لِلدُّنْيَا لَزِمَتْهُ الْعُبُودِيَّةُ لِأَهْلِهَا ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْقُنُوعِ زَالَ عَنْهُ الْخُضُوعُ . وَقَالَ : خَيْرُ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ فِي خَمْسِ خِصَالٍ : غِنَى النَّفْسِ ، وَكَفِّ الْأَذَى ، وَكَسْبِ الْحَلَالِ ، وَلِبَاسِ التَّقْوَى ، وَالثِّقَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ . وَقَالَ لِلرَّبِيعِ : " عَلَيْكَ بِالزُّهْدِ " . وَقَالَ : أَنْفَعُ الذَّخَائِرِ التَّقْوَى ، وَأَضَرُّهَا الْعُدْوَانُ . وَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَوْ يُنَوِّرَهُ ، فَعَلَيْهِ بِتَرْكِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ، وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي ، وَيَكُونُ لَهُ خَبِيئَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَمَلٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ : فَعَلَيْهِ بِالْخَلْوَةِ ، وَقِلَّةِ الْأَكْلِ ، وَتَرْكِ مُخَالَطَةِ السُّفَهَاءِ ، وَبُغْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ إنْصَافٌ وَلَا أَدَبٌ " . وَقَالَ : " يَا رَبِيعُ لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ ، فَإِنَّكَ إذَا تَكَلَّمْتَ بِالْكَلِمَةِ مَلَكَتْكَ ، وَلَمْ تَمْلِكْهَا ". وَقَالَ لِيُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى : " لَوْ اجْتَهَدْتَ كُلَّ الْجُهْدِ عَلَى أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ فَلَا سَبِيلَ ، فَأَخْلِصْ عَمَلَكَ ، وَنِيَّتَكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " . وَقَالَ : " لَا يَعْرِفُ الرِّيَاءَ مُخْلِصٌ " . وَقَالَ : لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِشَيْءٍ لِأَعْقَلِ النَّاسِ صُرِفَ إلَى الزُّهَّادِ . وَقَالَ : سِيَاسَةُ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ. وَقَالَ : " الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَهُ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ مَذْمُومٍ " . وَقَالَ : " لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يُنْقِصُ مِنْ مُرُوءَتِي مَا شَرِبْتُهُ " . وَقَالَ : " لِلْمُرُوءَةِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ : حُسْنُ الْخُلُقِ ، وَالسَّخَاءُ ، وَالتَّوَاضُعُ ، وَالنُّسُكُ " . وَقَالَ : " الْمُرُوءَةُ عِفَّةُ الْجَوَارِحِ عَمَّا لَا يَعْنِيهَا " . وَقَالَ : " أَصْحَابُ الْمُرُوآتِ فِي جُهْدٍ " . وَقَالَ : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ لَهُ بِالْخَيْرِ فَلْيُحْسِنْ الظَّنَّ بِالنَّاسِ " . وَقَالَ : " لَا يَكْمُلُ الرِّجَالُ فِي الدُّنْيَا إلَّا بِأَرْبَعٍ بِالدِّيَانَةِ ، وَالْأَمَانَةِ ، وَالصِّيَانَةِ ، وَالرَّزَانَةِ " . وَقَالَ : أَقَمْتُ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَسْأَلُ إخْوَانِي الَّذِينَ تَزَوَّجُوا عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي تَزَوُّجِهِمْ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ " إنَّهُ رَأَى خَيْرًا " . وَقَالَ : " لَيْسَ بِأَخِيكَ مَنْ احْتَجْتَ إلَى مُدَارَاتِهِ " . وَقَالَ : " مَنْ صَدَقَ فِي أُخُوَّةِ أَخِيهِ قَبِلَ عِلَلَهُ ، وَسَدَّ خَلَلَهُ ، وَغَفَرَ زَلَلَهُ " . وَقَالَ : " مِنْ عَلَامَةِ الصَّدِيقِ أَنْ يَكُونَ لِصَدِيقِ صَدِيقِهِ صَدِيقًا " . وَقَالَ : لَيْسَ سُرُورٌ يَعْدِلُ صُحْبَةَ الْإِخْوَانِ ، وَلَا غَمٌّ يَعْدِلُ فِرَاقَهُمْ " . وَقَالَ : " لَا تُقَصِّرْ فِي حَقِّ أَخِيكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَوَدَّتِهِ " . وَقَالَ : " لَا تَبْذُلْ ، وَجْهَكَ إلَى مَنْ يَهُونُ عَلَيْهِ رَدُّكَ " . وَقَالَ : مَنْ بَرَّكَ فَقَدْ أَوْثَقَكَ ، وَمَنْ جَفَاكَ فَقَدْ أَطْلَقَكَ " . وَقَالَ : " مَنْ نَمَّ لَكَ نَمَّ بِكَ " ، " وَمَنْ إذَا أَرْضَيْتَهُ قَالَ فِيكَ مَا لَيْسَ فِيكَ ، وَإِذَا أَغْضَبَتْهُ قَالَ فِيكَ مَا لَيْسَ فِيكَ " . وَقَالَ : " الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ " . وَقَالَ : " مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ ، وَزَانَهُ ، وَمَنْ ، وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ ، وَشَانَهُ ". وَقَالَ : " مَنْ سَامَ بِنَفْسِهِ فَوْقَ مَا يُسَاوِي ، رَدَّهُ اللَّهُ إلَى قِيمَتِهِ " . وَقَالَ : " الْفُتُوَّةُ حُلِيُّ الْأَحْرَارِ " . وَقَالَ : " مَنْ تَزَيَّنَّ بِبَاطِلٍ هُتِكَ سِتْرُهُ " . وَقَالَ : " التَّوَاضُعُ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ ، وَالتَّكَبُّرُ مِنْ شِيَمِ اللِّئَامِ " . وَقَالَ : " التَّوَاضُعُ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ ، وَالْقَنَاعَةُ تُورِثُ الرَّاحَةَ ". وَقَالَ : " أَرْفَعُ النَّاسِ قَدْرًا مَنْ لَا يَرَى قَدْرَهُ ، وَأَكْثَرُهُمْ فَضْلًا مَنْ لَا يَرَى فَضْلَهُ ". وَقَالَ : " إذَا كَثُرَتْ الْحَوَائِجُ فَابْدَأْ بِأَهَمِّهَا ". وَقَالَ : " مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتْ الْخِيرَةُ فِي يَدِهِ ". وَقَالَ : " الشَّفَاعَاتُ زَكَاةُ الْمُرُوآتِ ". وَقَالَ : " مَا ضَحِكَ مِنْ خَطَأٍ رَجُلٌ إلَّا ثَبَتَ صَوَابُهُ فِي قَلْبِهِ " . وَهَذَا الْبَابُ ، وَاسِعٌ جِدًّا لَكِنْ نَبَّهْتُ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ عَلَى مَا سِوَاهَا .
فَصْلٌ قَدْ أَشَرْتُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ إلَى طَرَفٍ مِنْ حَالِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيَانِ رُجْحَانِ نَفْسِهِ ، وَطَرِيقَتِهِ ، وَمَذْهَبِهِ .وَمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْ كُتُبَ الْمَنَاقِبِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا ، وَمِنْ أَهَمِّهَا : كِتَابُ الْبَيْهَقِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْتَصِرَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، لِئَلَّا أَخْرُجَ عَنْ حَدِّ هَذَا الْكِتَابِ ، وَأَرْجُو بِمَا أَذْكُرُهُ ، وَأُشِيعُهُ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَدْعُو لَهُ فِي كِتَابَتِي ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَحْوَالِي ، أَنْ أَكُونَ مُوفِيًا لَحَقِّهِ أَوْ بَعْضِ حَقِّهِ عَلَيَّ لِمَا ، وَصَلَنِي مِنْ كَلَامِهِ ، وَعِلْمِهِ ، وَانْتَفَعْتُ بِهِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ إحْسَانِهِ إلَيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ ، وَأَكْرَمَ نُزُلَهُ ، وَمَثْوَاهُ ، وَجَمَعَ بَيْنِي ، وَبَيْنَهُ مَعَ أَحْبَابِنَا فِي دَارِ كَرَامَتِهِ ، وَنَفَعَنِي بِانْتِسَابِي إلَيْهِ ، وَانْتِمَائِي إلَى صُحْبَتِهِ
|
|