إعداد
د . عبد القيوم عبد الغفور السندي
المقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ، ومن والاه ، وبعد :
فإن القرآن الكريم بحر لا يدرك غوره ، ولا تنفد درره ، ولا تنقضي عجائبه ، فما أحق الأعمار أن تفنى فيه ، والأزمان أن تشغل به ، ومما يسعدني أن أشارك في هذه الندوة المباركة التي يعزم مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة على عقدها بعنوان : عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه بكتابة بحث في موضوع : جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين .
ولا شك أن المملكة العربية السعودية منذ نشأتها وتوحيدها على يد مؤسسها صقر الجزيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (يرحمه الله) سباقة إلى كل خير في مختلف المجالات ، وتقدم للمسلمين في أرجاء المعمورة - دون تمييز بين الأبيض والأسود - كل ما ينفعهم في الدارين ، من عقيدة صافية ، ومنهج سديد ، وكتاب مفيد ، وجو آمن ، وعيش رغيد . . . ومن سلسلة أعمالها الخيرة - التي لا تأتي في الحصر - قيام هذا الصرح الشامخ للعناية بكتاب الله تعالى باسم (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) بالمدينة النبوية على يد منظم المملكة ومطورها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود (رزقه الله الصحة والعافية ، وأمد في عمره في طاعته) .
وهذه - في الحقيقة- سلسلة مترابطة ومتواصلة لعناية المسلمين حكاماً وشعوباً وأفراداً وجماعات بالقرآن الكريم - كلام الله- عملاً بقول المصطفى
{ القرآن أفضل من كل شيء ، فمن وقَّر القرآن فقد وقَّر الله ، ومن استخف بالقرآن فقد استخفّ بحق الله تعالى } ( ) .
والأمة الإسلامية عنيت بالقرآن الكريم عناية فائقة من لدن رسول الله إلى يومنا هذا ، فقد حفظت لفظه ، وكشفت عن معانيه ، واستقامت على العمل به عملاً بقوله تعالى { • } ( ) . . (فصلت : 30) ، وأفنت أعمارها في البحث والدراسة فيه ، وفي الكشف عن أسراره ، ولم يترك علماء المسلمين ناحية من نواحيه إلا أشبعوها بحثاً وتمحيصاً ، وألفوا في ذلك مؤلفات قيمة في التفسير ، والقراءات وما يتعلق بها من علوم كعلم الرسم والضبط والفواصل (عد الآي) والوقف والابتداء ، وتوجيه القراءات ، وألفوا في فضائل القرآن وآداب تلاوته ، وأحكام القرآن ، وفي الناسخ والمنسوخ ، وأسباب النزول ، وفي إعجاز القرآن ، وغريبه ، وإعرابه ، وقصصه ، وفي أمثاله وأقسامه ، ومنهم من ألف في تناسب آياته وسوره . . . إلى غير ذلك من علوم ومعارف يقول فيها الإمام بدر الدين الزركشي ( )
" ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ، ثم لم يحكم أمره ، . . " ( )
وكل ذلك بتسخير من الله (عز وجل) منزّل هذا الكتاب العزيز مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى { • } ( ) (الحجر : 9) ، وليس هذا إلا معجزة من معجزات هذا الكتاب الذي قال الله تعالى في وصفه : { } ( ) (فصلت : 42) ، ثم خص به من شاء من بريته وأورثه من اصطفاه من خليقته : { } ( ) . . (فاطر : 32) .
هذا ، وأسأل الله تعالى أن يوفقني لكتابة ما ينفعني وينفع الأمة الإسلامية في الدنيا والآخرة ، ويكون إسهاماً مني في مجال إبراز دور المملكة العربية السعودية في خدمة القرآن الكريم وعلومه .
والله الموفق والمعين ، ، ،
خطة البحث
لقد قسمت البحث إلى : تمهيد ، وثلاثة مباحث ، وخاتمة .
أما التمهيد : فيحتوي على :
(1) تعريف القرآن الكريم لغة واصطلاحاً .
(2) مفهوم جمع القرآن الكريم .
(3) صلة القرآن بالقراءات .
المبحث الأول :
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق وتحته مطالب :
المطلب الأول : أبو بكر وعهده .
المطلب الثاني : بواعث الجمع وأسبابه .
المطلب الثالث : المكلّف بالجمع .
المطلب الرابع : كيفية الجمع .
المطلب الخامس : وسائل الجمع .
المطلب السادس : نتائج الجمع وفوائده .
المبحث الثاني :
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان وتحته مطالب :
المطلب الأول : عثمان بن عفان وعهده .
المطلب الثاني : بواعث الجمع وأسبابه .
المطلب الثالث : اللجنة المكلفة بالجمع .
المطلب الرابع : كيفية الجمع .
المطلب الخامس : عدد مصاحف عثمان ، وإلى أين أرسلت ؟
المطلب السادس : قضية الرسم المصحفي ، من حيث كونه توقيفياً أو غير توقيفي .
المطلب السابع : قضية إتقان الكتابة لدى الصحابة .
المطلب الثامن : نتائج الجمع وفوائده .
المبحث الثالث : وفيه مطلبان :
(1) الفروق المميزة بين الجمعين .
(2) الأحرف السبعة ومراعاتها في الجمعين .
الخاتمة :
أهم نتائج البحث والدراسة .
منهج المؤلف في البحث
لقد حاولت بقدر المستطاع أن تكون المعلومات مستقاة من المصادر الأصيلة . وترجمت للأعلام -عدا أشهر الصحابة - الوارد ذكرهم في ثنايا البحث في الحواشي .
ترجمت للخليفتين الراشدين (أبي بكر وعثمان) ولأعلام اللجنة المكلفة بجمع القرآن الكريم في صلب البحث ، لما لهم من أهمية بالغة ودور كبير في المهمة .
وعرفت بلفظ (القرآن) لغةً واصطلاحاً ، وأوضحت مفهوم الجمع ، وبينت صلة القرآن بالقراءات في التمهيد لأهمية كل ذلك ، وصلته الوثيقة بالموضوع .
وتعرضت لجمع القرآن الكريم في عهد الخليفتين الراشدين (أبي بكر وعثمان) فقط ، حيث إن جمعهما هو الجمع الرسمي ، أما ما قيل في جمعه من قبل غيرهما فلا أصل له .
وحاولت بقدر المستطاع أن يمتاز البحث بالجدية ، والعمق والأصالة ، والتركيز وحسن الترتيب ، مع مراعاة كونه مفهوماً لدى عامة الناس ومقبولاً لدى خواصهم .
ملاحظة : لم أتطرق لسرد شبهات حول النص القرآني وجمعه وتفنيدها ، لكونه عنواناً مستقلاً ، وخامس محاور الندوة .
هذا ما تهيأ لي ، فإن كنت موقفاً فهو من الله تعالى ، وله الشكر والمنة ، وإن كان غير ذلك فلا ألومنّ إلا نفسي ، واسأل الله العفو والصفح .
التمهيد
تعريف القرآن :
القرآن (لغةً) مأخوذ من (قرأ) بمعنى : تلا ، وهو مصدر مرادف للقراءة ، وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى { • • } ( ) (القيامة : 17-18) أي قراءته .
ومنه قول حسان بن ثابت ( ) في رثاء عثمان بن عفان ( )
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي : قراءة ( ) .
و(القرآن) على وزن فعلان كغفران وشكران . . ، وهو مهموز كما في قراءة جمهور القراء ، ويقرأ بالتخفيف (قران) كما في قراءة ابن كثير ( ) .
وأصله من (القرء) بمعنى الجمع والضم ، يقال : قرأت الماء في الحوض ، بمعنى جمعته فيه ، يقال : ما قرأت الناقة جنيناً ، أي لم تضمَّ رحمها على ولد .
وسمى القرآن قرآناً لأنه يجمع الآيات والسور ويضم بعضها إلى بعض ( ) .
ولقد أصبح (القرآن) علماً شخصياً على كلام الله تعالى ، ومنه قوله تعالى { • } ( ) .
واصطلاحا :
" هو كلام الله تعالى المنزل على محمد للبيان والإعجاز ، المجموع بين دفتي المصحف ، المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر جيلا بعد جيل " وحول هذا المعنى تدور تعريفات كثير من الأصوليين ، والفقهاء للقرآن الكريم ( ) .
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز ( )
" روعي في تسميته قرآنا كونه متلوا بالألسن ، كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام ، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه ، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد ، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) ، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب ، المنقول إلينا جيلا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة ، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر ( ) " .
مفهوم جمع القرآن :
جمع القرآن يعني أمرين اثنين ، وهما :
أ- حفظه واستظهاره في الصدور ( )
فقد حفظ الرسول كل ما نزل عليه من الوحي في صدره الشريف ، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى { } ( ) (الأعلى : 6) ، وكان الرسول يعارض جبريل بالقرآن في كل عام مرة ، وفي العام الذي انتقل فيه إلى رفيقه الأعلى عارضه مرتين .
كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره عن عائشة عن فاطمة رضي الله عنهما أنها قالت : { أسَرَّ إليَّ النبيُّ أنَّ جبريلَ كانَ يعارضُنِي بالقرآنِ كلَّ سنةٍ وأنهُ عارضَنِي العامَ مرَّتينِ ولا أراهُ إلا حضَرَ أجَلِي } ( ) ( ) " .
وفي ذلك يقول الإمام أبو عمرو الداني ( )
وكان يعرض على جبريل
فكان يقريه في كل عرضة
حتى إذا كان بقرب الحين
في كل عام جملة التنزيل
بواحد من الحروف السبعة
عرضه عليه مرتين ( )