إثيوبيا وإريتريا
تحولت الصومال الى ساحة للحرب بين الطرفين عام 1999 عندما عبرت القوات الإثيوبية آنذاك الحدود الى الصومال لضرب معاقل حسين عيديد أحد قادة الحرب الصوماليين في ذلك الوقت (والذي صار وزيرا للداخلية في الحكومة الانتقالية) في بيداوا (مقر الحكومة الحالي 250 كم إلى الغرب من العاصمة مقديشو) وكانت الحجة الإثيوبية آنذاك وجود مقاتلين تابعين للجبهات الإثيوبية المعارضة في هذه المناطق .
وكانت إريتريا قد دخلت في تحالف مع حسين عيديد لتسهيل دخول آلاف المقاتلين المعارضين للنظام في أديس أبابا إلى إثيوبيا عن طريق الصومال بأسلحتهم مما أدى الى قيام القوات الإثيوبية بمهاجمة مدينة بيداوا وإخراج مليشيات عيديد من المنطقة وتم ذلك بالفعل عام 1999 .
وكانت القوات الإثيوبية قبل ذلك قد عبرت الحدود مرات عديدة لضرب مواقع مليشيات جماعة الاتحاد الإسلامي الصومالي بجنوب غربي الصومال وكان من الطبيعي أن تقوم إريتريا باستغلال العداء بين الجماعات الصومالية وإثيوبيا وتقوم بدعم كل من المعارضة الإثيوبية المسلحة وكذلك الفصائل الصومالية التي كانت تقوم بدور المسهل للعمليات العسكرية للمقاتلين الإثيوبيين المعارضين .
ولقد هدأت الجبهة الصومالية الإثيوبية لبعض الوقت في الفترة ما بين 2000- 2005 لكن الخلاف الإثيوبي الإريتري حول الوضع في الصومال ظل مستمرا ودعمت إريتريا سياسيا وعسكريا بشكل محدود حكومة الرئيس عبد القاسم صلاد حسن (2000- 2004) والتي اشتدت العداوة بينها وبين الحكومة الإثيوبية التي دعمت بدورها خليطا من أمراء الحرب الصوماليين لعرقلة حكومة عبد القاسم وقد نجحوا في ذلك حيث لم تتجاوز سلطته جيبا صغيرا في العاصمة مقديشو .
وعندما صعد نجم المحاكم الإسلامية كقوة عسكرية في العاصمة مقديشو عاد الحديث عن دعم إريتري لها ردا على الدعم الذي تقدمه إثيوبيا للحكومة الانتقالية الضعيفة المعترف بها دوليا والتي اتخذت من بيداوا مقرا لها، لكن الأمور في العاصمة اتسمت بالسرعة المتلاحقة وبدأت المحاكم الإسلامية تحقق انتصارات عسكرية كبيرة في العاصمة ضد تحالف أمراء الحرب المسمى بـ"التحالف من أجل إعادة السلم ومكافحة الإرهاب" والذي فقد جميع المناطق التي كان يسيطر عليها داخل العاصمة وخارجها على يد المحاكم الإسلامية .
وتفاقم الوضع عندما شعرت إثيوبيا بأن جبهتها الشرقية التي تحاذي الشريط الحدودي مع الصومال (نحو 2800 كم) مهددة من قبل المقاتلين الإسلاميين الذين أحسوا بالانفراج بسبب سيطرة المحاكم الإسلامية على الوضع في العاصمة مقديشو وجزء كبير من جنوب الصومال، حيث أن المعارضة الإثيوبية الموجودة داخل الصومال سواء الإسلامية أو غيرها كانت تعمل بشكل شبه سري بسبب خوفها من ملاحقة أمراء الحرب الصوماليين الموالين لإثيوبيا والذين قام بعضهم بتسليم قيادات منهم إلى الحكومة الإثيوبية مقابل الحصول على السلاح والذخيرة منها .
وقد تغير الوضع الآن، فبعد سيطرة الإسلاميين على الوضع في جنوب الصومال أصبحت تحركات المعارضة الإثيوبية الإسلامية بوجه خاص قيادات وأفراد، أكثر سهولة من أي وقت مضى ولم يُخف بعض قيادات المحاكم الإسلامية تعاطفهم بل واستعدادهم لدعم المسلمين الصوماليين في إقليم "أوجادين" في الحصول على اسقلالهم من إثيوبيا؛ ومن هنا جاء الشعور الإثيوبي بالتهديد المباشر القادم من الصومال خاصة أن عددا من فصائل المعارضة الإثيوبية المسلحة في إقليم أوجادين لها أجنحة عسكرية مقاتلة في داخل الإقليم، وأبرزها "جبهة تحرير أوجادين" و"الاتحاد الإسلامي في أوجادين" و"جبهة تحرير الصومال الغربي" وكلها تقوم بحرب أشبه ما تكون بحرب العصابات داخل الإقليم الصومالي لكن كان ينقصها العمق الإستراتيجي خلال سني حربها الطويلة حيث كان أمراء الحرب الصوماليون المتحالفون مع إثيوبيا يمنعون ذلك .
وهنا جاء الدور الإريتري في دعم المعارضة الإثيوبية المسلحة عبر المحاكم الإسلامية التي هي الأخرى ترى إثيوبيا عدوا للصومال على مر التاريخ وكانت سببا في إضعاف الصومال حتى لا يكون منافسا لها في منطقة القرن الإفريقي وقد تحدثت وسائل إعلام محلية وأجنبية عن دعم عسكري إريتري للمحاكم الإسلامية وكذلك عن زيارات سرية لضباط عسكريين إريتريين للصومال لتدريب مليشيات المحاكم الإسلامية .
وكما كانت بيداوا مسرحا للحرب بالوكالة عام 1999 بين إريتريا وإثيوبيا فإن المؤشرات تتجه نحو عودة نفس السيناريو مرة أخرى بناءا على التحالف بين إثيوبيا والحكومة الانتقالية من جهة وبين إريتريا والمحاكم الإسلامية من جهة أخرى .
وتعتبر منطقة بيداوا ذات أهمية إستراتيجية عسكرية واقتصادية في النزاع الصومالي؛ عسكريا فهي تربط بين الوسط والجنوب وكذلك الشرق حيث العاصمة مقديشو، كما أنها تضم عددا من القواعد العسكرية والمطارات التي كانت تتبع الجيش الصومالي المنهار .
يضاف الى ذلك أن القبائل الساكنة في المنطقة رغم أنها تتمتع بقوة عددية ظاهرة إلا أنها دخلت الحرب الأهلية الصومالية متأخرة كما أن أمراء الحرب المنتمين للمنطقة ليسوا متحدين في الولاءات السياسية والقبلية ومن الطبيعي أن يبحث كل طرف عن حلفاء له خارج المنطقة سواء من الأطراف الصومالية الأخرى أو من إثيوبيا .
واقتصاديا تعتبر منطقة باي وبكول (ومركزها بيداوا) سلة غذاء الصومال حيث تنتج هذه المنطقة أكثر من نصف المحصول الزراعي في الصومال وعليه فإن القبائل المسلحة كانت عينها على الأهمية الاقتصادية والسكانية في المنطقة ومن أجل هذه الميزات كانت هذه المنطقة بؤرة للتوتر المستمر منذ بداية النزاع الصومالي الداخلي عام 1991 عقب انهيار الحكم المركزي في الصومال. فالعداء بين إثيوبيا والصومال قائم منذ قرون، وناتج هذا العداء عن اختلاف في الدين والصراع على الأرض، ولا أحد يقبل التنازل عن واحدة منهما، والحرب بين إثيوبيا والصومال كانت سجالاًً، والحكومتان السابقتان في كل من البلدين نجحت في إسقاط الأخرى، وإن سبق سياد بري إلا أن منجستو لم يتأخر عن زميله شهورًا، فمنجستو هيل مريم قال يوم وداعه وفراره من أديس أبابا: "لو كان لشعب إثيوبيا بقية عقل وإدراك لعرفوا أن لي فضل عليهم، نجحت في إسقاط حكومة عدوهم، وهاهي الصومال اليوم لا دولة ولا نظام". وهناك خطبة أدهى من تلك قالها بالحرف الواحد الرئيس الإرتري الحالي أسياس أفورقي يوم سقطت الصومال "سلام على الصومال، وأبشركم أنها لن تعود إلى الساحة الدولية" .
وقد غزت إثيوبيا الصومال عسكريًا أواخر نفس السنة وسيطرت على ثلاث مناطق في جنوب الصومال؛ إلا أنها تراجعت عسكريًا بعد أن قدم رئيس الوزراء السابق في الحكومة الانتقالية الدكتور علي خليف جلير شكوى في الأم المتحدة بخصوص التدخلات الإثيوبية في بلاده، وحدث ما تنبأ به الباحثون من أن منظمة الوحدة الإفريقية قد ضلت الطريق حين كلفت إثيوبيا أن تكون المسؤولة عن المصالحة الصومالية، وعقدت لهذا الغرض مؤتمرات عدة، وتساءل الصوماليون يومها: كيف يمكن لإثيوبيا أن تكون الراعية للمصالحة وهي المشجعة السابقة لتدمير الصومال؟.
وكل الاجتماعات التي عقدت في أديس أبابا لم تثمر؛ لأنها بالأساس لم يكن القصد منها أن تثمر.
رئيس الوزراء الإثيوبي -ملس زيناوي- قال في أكثر من مقابلة إنه يريد للصومال أمنا ونظامًا وحكومة ذات قاعدة قوية تحكم البلاد كاملة. وقال: إن من مصلحة إثيوبيا إقامة شرطة بالصومال لكي تخرج من الفوضى التي فيها، وإن إثيوبيا خسرت اقتصاديًا بسبب الأزمة في الصومال، لكن الشعب يرى مثل هذه الخطب كما يرى العراقيون خطب بوش وحديثه عن الحرية للإنسان العراقي، لا أقل ولا أكثر، فإثيوبيا لديها أهداف وأجنده محددة من الصومال، يمكن تلخيصها في الآتي:
1- صياغة دستور جديد يتفق مع أهدافها تجاه هذا البلد، وتكون من أهم بنوده تقسيم الصومال إلى خمسة أقاليم، كل إقليم له سيادته وإدارته الخاصة، وذلك باسم -الجمهورية الفدرالية الصومالية- وأن يتنازلوا عن أطماعهم لإقليم أوجادين التابع حاليًا لإثيوبيا، وألا تكون هناك حكومة مركزية قوية، حيث يصعب عليهم تفكيك البلاد من جديد .
2- الحد من التحالف بين الصومال وجارتها السودان حتى لا يولد في القرن الإفريقي حكومتان إسلاميتان قويتان، وإن شئت أن تتيقن من ذلك فما عليك إلا أن تتساءل عن سبب طول صراع السودان والصومال.
3- أن يكون رأس الدولة الصومالية أحد عملائها القريبين حتى يتسنى لها تنفيذ مطامعها، وتسربت قريبا معلومات تشير إلى أنهم يفضلون للرئاسة الكولونيل عبد الله يوسف، الذي يعد أقرب الساسة الموجودين على الساحة إليهم .
4- الحد من جميع الأنشطة الإسلامية هناك، حتى قال ملس زيناوي: "لابد من تغيير مناهج التعليم في الصومال، وإلا ستصبح يومًا ما "طالبان" جديدة في القرن الإفريقي .
كينيا
علاقتها مع الصومال علاقة عادية بالمفهوم السياسي، ولم تقم بينها وبين الصومال أية حروب، لكن كانت هناك مشاجرات بسبب النزاع معها على الأراضي، إلا أن هذا الخلاف لم يصل حد المواجهة العسكرية، استضافت في فترات سابقة مؤتمرات لأجل الوفاق بين زعماء الحرب، لكن كلها لم تلد شيئًا، وآخرها مؤتمر نيروبي برئاستها هي، وعلى أية حال فإن كينيا وإثيوبيا متفقتان على الخوف من الصومال لأجل صراعهم على الأرض، لأن الكثير من الصوماليين يسكنون شمال شرقي كينيا .
الرئيس الكيني السابق " دانيال أرب موي" هو الذي افتتح أعمال مؤتمر نيروبي، وقد صرح وهو في زيارة لكلية عسكرية في واشنطن، حين سأله خبير عسكري أمريكي: لماذا لا يوجد في الصومال دولة؟ فأجاب (موي): "كينيا وإثيوبيا لن تكونا صادقتين في المصالحة الصومالية، لأنهما تخافا إذا وجدت دولة صومالية أن تعيد نزاعها معهما، وأن يكون هدفها أن تضم الصومال بعض المناطق التابعة حاليًا لكل من كينيا وإثيوبيا" .
هذا التصريح كان عين الحقيقة والرئيس "موي" يعلم أنها هي السياسية التي كان يتعامل بها مع الملف الصومالي، وأعتقد أنها هي الجواب الوافي لسؤال حير الكثيرين من الباحثين في القضية الصومالية.
جيبوتي
جيبوتي دولة مسلمة عربية، يرأسها الرئيس إسماعيل عمر جيلي، شاب عرف ما عليه من حقوق عن إخوانه في الصومال، قدّم عام 1999م في الأمم المتحدة مبادرة للمصالحة أخذت اسم (مبادرة جيلي) للمصالحة، ولبى الصوماليون نداء أخيهم إسماعيل، واجتمع في جيبوتي أكثر من 2000 شخص توافدوا من جميع مناطق الصومال، وشكل بعد مشاورات استغرقت شهورًا أول حكومة حظت باعتراف العالم، وترأسها عبد القاسم صلاد حسن -الوزير السابق في حكومة سياد برى-.
وتعتبر جيبوتي دوله شقيقة للصومال ولديها نوايا طيبة تريد تحقيقها، لأنها تريد صومال قوية لكي تستأنس بها وتكون سندها الأساسي مادامت هي دولة صغيرة من حيث المساحة والسكان، فأراء جيبوتي للمصالحة الصومالية أفكار بنّاءة، لكن لا أحد يصغي لها، ولولا قلة حجمها السياسي في القرن الإفريقي لاستطاعت إنقاذ الصومال من محنتها بعون الله، وقد عينت سفيرًا للصومال وتحضر المؤتمر الكيني بمستوى السفير، وهي دائمًا مع الخط الوطني، وهمّها الأمن والاستقرار في الصومال .
أمريكا
يؤكد الكثيرون أن أمريكا هي المسؤولة عما حدث في الصومال حيث كانت هي الممولة للمعارضة إبان حكم سياد برى، ولم تكن العلاقة بين أمريكا والصومال علاقة طيبة، فحكومة أمريكا استبشرت بسقوط نظام سياد برى، وظنت أن الأمور تتحسن بالنسبة لهم، لكن خاب ظنها .
بعد سنة من انهيار الصومال قررت الأمم المتحدة إرسال قوات إلى الصومال باسم (إعادة الأمل)، حيث أراد بطرس غالي –الأمين العام وقتها- أن ينتهز هذه الفرصة ويأمر القوات بنزع الأسلحة من المليشيات؛ إلا أن هذا الطرح قوبل بالرفض من قبل الولايات المتحدة، ولحاجة في نفس أمريكا عارضت نزع الأسلحة من قطّاع الطرق، من هذه الفترة إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت أمريكا غير مهتمة بالشأن الصومالي، وكانت لا تتحدث عن الصومال في أي من تصريحاتها، وبدا أنها أخرجت الصومال من قاموسها، فالشعب الأمريكي وقتها لا يكاد يسمع اسم الصومال حتى يتذكر سحل جنوده في شوارع مقديشو، لكن أمريكا كانت تنفذ أغراضها سرًا عن طريق إثيوبيا، وبعد أحداث سبتمبر تغيرت شكليًا نظرتها عن الصومال، وبدأت تظهر اهتمامها، لكنها كانت تنظر من زاوية تبعات هذه الأحداث، ولم تقدم برنامجًا معينًا غير إرسال عملاء من المخابرات لها، يطوفون الجنوب والشمال في البلاد للتأكد إذا كانت هناك معسكرات للإرهابيين –حسب زعمهم-، وكذلك أرسلت رسميًا مسؤول شؤون القارة الإفريقية بوزارة الخارجية الأمريكية وزار كلا من إثيوبيا، كينيا، وجيبوتي، ثم عقد مؤتمرًا صحفيًا في جنوب إفريقيا، حيث محطته الأخيرة في القارة، وأدلى بتصريح مفاده "لولا مخافة إزعاج بعض أصدقائنا من العرب لكلفنا إثيوبيا بملف الصومال"، لكن بعد أن استوطنوا بجيبوتي وفتحت حكومة جيبوتي مراكز عسكرية في مرافق حيوية بها؛ أكد قائد قواتها في زيارة له في أديس أبابا بالحرف الواحد "قررنا أن تكون إثيوبيا مندوبتنا لحماية الحدود الصومالية من تسلل الإرهابيين منها وإليها، والترصد لتحركاتهم"، وهذا التصريح أظهر بوضوح ما كان يقوله بعض المحللين (بأن إثيوبيا هي الوكيل المعتمد لدى أمريكا في القرن الإفريقي) .
وذكرت مصادر دبلوماسية قريبة للحكومة الانتقالية، أن اجتماعًا ضم مندوبا من السفارة الأمريكية في نيروبي والرئيس عبد القاسم صلاد، قال صلاد فيه للمندوب الأمريكي: "أخبروني بصراحة: إن كان لديكم شخص غيري تثقون به، وتحبون له الحكم فأخبروني وأنا أتنازل له عن الحكم بكل اطمئنان"؛ فأجاب المندوب الأمريكي "لا يوجد ذلك"، فقال صلاد: "إذاً أيدوني وساعدوا حكومتي لنكون على تعاون وتصبح الصومال دولة أمن ورخاء للعالم" .
هذه المعلومة أكدت بنظرية من يقول إن أمريكا لم تزرع كوادر لها في الصومال، لذلك آثرت مساندة الفوضى حتى لا يصل القمة أحد غير موثوق في ولائه بعد .
لقد ساهمت هذه الأطراف مجتمعة في إطلاق اسم "مدينة الموت" على بيداوا لأن الحروب المتكررة فيها أدت إلى نزوح المزارعين من قراهم وعدم تمكنهم من مزاولة وسائل عيشهم، الأمر الذي أدى لحدوث مجاعة واسعة النطاق أودت بحياة عشرات الآلاف وكانت سببا للتدخل الدولي الأول في الصومال الذي قادته الولايات المتحدة في الفترة ما بين ديسمبر 1992 – أبريل 1995 تحت اسم "إعادة الأمل" لوقف المجاعة في الصومال؛ هذه المجاعة التي لم تأت بسبب عوامل طبيعية وإنما بسبب تحولها إلى ساحة حرب بين المليشيات القبلية الصومالية .
وبعد أكثر من 10 سنوات تنتاب السكان في منطقة بيداوا مخاوف جديدة من أن تتحول منطقتهم إلى ساحة حرب جديدة بين طرفي النزاع الصومالي (الحكومة الانتقالية التي تدعمها إثيوبيا عسكريا ومن ورائها أمريكا وبين المحاكم الإسلامية الذي قيل أنهم حصلوا مؤخرا على دعم عسكري من إريتريا) لتكون الحرب بين الطرفين مباشرة من جهة وبالوكالة عن الدولتين الإقليميتين من جهة أخرى.
وكانت الحروب السابقة في بيداوا قد أدت إضافة الى المجاعة حركة نزوح جماعية من المنطقة إلى المناطق الأخرى من الصومال ويتحدر معظم النازحين الداخليين ويبلغ تعدادهم نحو 350 ألفا حسب أرقام الأمم المتحدة – من منطقة بيداوا ويعيشون في أوضاع مأساوية في مخيمات النازحين المنتشرة في العاصمة والمدن الرئيسية في الصومال والسبب هو استمرار النزاعات السياسية والقبلية .
ومع تعثر المفاوضات التي ترعاها الجامعة العربية بين الحكومة والمحاكم الإسلامية حينا وانبعاث الأمل في المضي من خلالها قدما نحو وضع ملائم ومقبول من كلا الطرفين فإن المخاوف من حدوث مأساة إنسانية بالمحافظات الجنوبية الغربية من الصومال في حال اندلاع مواجهات مسلحة فيها تتزايد يوما بعد يوم.
ومن المتوقع ان تشهد الساحة السياسية والعسكرية في الصومال تقلبات دراماتيكية خلال الشهور القليلة المقبلة مع تزايد نفوذ المحاكم الإسلامية من جهة واستمرار الحكومة في الاستعانة بالقوات الإثيوبية في صراعها مع المحاكم الإسلامية من جهة أخرى إضافة إلى محاولات جديدة من أمراء الحرب السابقين لاستعادة دورهم بعد هزيمتهم في الحرب ضد المحاكم الإسلامية .
ومما يزيد العلاقة بين المحاكم الإسلامية والحكومة سوءا هو استضافة الأخيرة لعدد من أمراء الحرب الفارين من العاصمة وضم مليشيات بعضهم إلى القوات الحكومية وهو أمر تراه المحاكم الإسلامية تحالفا جديدا موجها ضدها.
وفي هذه الأثناء التي اشتد فيها الصراع على الأرض بين الحكومة والمحاكم الإسلامية فإن المنظمات الإقليمية المهمة مثل الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيجاد على الرغم من أنها تتحدث بصوت واحد من الناحية الرسمية إلا أن هناك انقساما كبيرا حول الوضع في الصومال وكيفية التعامل معها. فإثيوبيا تتعامل مع الوضع في الصومال من الناحية الأمنية واستقطبت دعم الولايات المتحدة في موضوع الحرب على الإرهاب، وعلى الرغم من الهواجس المشتركة بين إثيوبيا وواشنطن حول ما يسمى بالجماعات الإرهابية في الصومال إلا أن واشنطن ترى أن تدخل إثيوبيا عسكريا من شأنه أن يفاقم الوضع بدلا من أن يحله.
أما الجامعة العربية فقد ركزت على التوسط بين الحكومة والمحاكم الإسلامية وأطلقت مبادرة في ذلك من الخرطوم وأسفرت الجولة الأولى عن توقيع لاتفاقية إعلان مبادئ بين الطرفين في 22 من الشهر الماضي ثم نجحت مؤخرا في عقد الجولة الثانية من المحادثات بعد تعثرها وظهور بارقة أمل في التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف .
أما الاتحاد الإفريقي فقد تبنى خطة إرسال قوات إفريقية إلى الصومال للقيام بمهام حفظ السلام ومساعدة الحكومة في بسط نفوذها على كامل التراب الوطني إلا أن تحقيق هذه الخطوة مرتبط بأمرين؛ الأول موافقة مجلس الأمن الدولي على رفع الحظر المفروض على توريد السلاح والمعدات العسكرية إلى الصومال، والأمر الثاني هو الحصول على ضمانات بتمويل عملية التدخل العسكري في الصومال وهو ما لم يتوفر حتى هذه اللحظة .
وبعد كل ذلك تبقي مسألة مهمة وهي استعداد المنظمة الدولية لقبول أن تعمل القوات الإفريقية تحت مظلة الأمم المتحدة وإشراف مباشر منها وهو ما طلبه البرلمان الصومالي عند المصادقة على مشروع التدخل العسكري الإفريقي .
وهناك مخاوف من انقسام البرلمان الصومالي في حال تم التدخل العسكري الإفريقي دون مظلة الأمم المتحدة وهو ما من شأنه أن يسحب الشرعية القانونية من التدخل أصلا مما سيعطي انطباعا بأن القوات الإفريقية تدخلت لصالح طرف صومالي ضد أطراف أخرى مما قد يمهد الطريق لتصادم بين القوات الإفريقية وبين الرافضين لها وبالتالي تصبح طرفا في الحرب في الصومال وهذه النقطة هي التي أدت إلى فشل التدخل الدولي الأول في الصومال بعد أن اندلعت الحرب بين القوات الدولية والميليشيات الصومالية في شوارع مقديشو تلاها انسحاب القوات الدولية من الصومال وعودة الصومال إلى مرحلة الفوضى الأمنية والسياسية .
التيار الجهادي الصومالي هل يكون صاحب اليد الطولى ؟
كانت هناك محاولات حثيثة من قبل الدبلوماسيين الغربيين وبعض المحللين لاستقراء التنظيمات المشكلة لاتحاد المحاكم الإسلامية بقيادة الشيخ شريف شيخ أحمد، لفهم ما يجري في مقديشو، وهو تحالف غير متجانس –على حد تعبيرهم - تشكل العناصر "الراديكالية" أقلية ضمنها، أبرزها "الاتحاد الإسلامي".
يقول مدير برنامج إفريقيا في "المجموعة الدولية للأزمات" إن هذه المحاكم تشكل "حركة غير متجانسة، هناك اتجاهات معتدلة وأخرى متشددة، وهناك محاكم قدمت جملة خدمات (للسكان) وقامت بفرض النظام، وأخرى لديها برامج أكثر تطرفا..".. ونظرا لعدم تجانس المحاكم الإسلامية، فإنه "من المبكر تحديد أي اتجاه سيغلب بداخلها، المعتدل أو المتطرف"، إذ إن هناك "عدة اتجاهات مختلفة داخل هذه المجموعة"، مؤكدا أن رئيسها الشيخ شريف "المعتدل" على وشك مغادرة هذا الموقع، وأن خليفته سيقرر إن كانت المحاكم ستسلك اتجاها "راديكاليا" أم معتدلا !
ويجمع هؤلاء على أن "التيار الجهادي" أو "الاتحاد الإسلامي" ذو التوجهات السلفية، بزعامة الشيخ حسن ضاهر أويس، والذي وضعته الولايات المتحدة الأمريكية في قائمة المنظمات الإرهابية، يمثل "أقلية جيدة التسلح والتنظيم" داخل المحاكم الإسلامية، وأن بعض عناصر القاعدة قد تمكنت من تقوية وجودها داخل التيار الجهادي، تساعدهم عناصر داخل التركيبة العشائرية الصومالية المعقدة، ومنها عناصر مطلوبة من الولايات المتحدة بتهمة المشاركة في تفجير سفارتي نيروبي (كينيا) ودار السلام (تنزانيا) عام 1998، وفندق مومباسا في (كينيا).
المحاكم "تلقت المال من رجال أعمال أرادوا التخلص من زعماء الحرب"، الذين كانوا يبتزونهم ويفرضون عليهم وعلى السكان غرامات وإتاوات، في الوقت ذاته فإن ممولي الميليشيات الإسلامية "لا يريدون فرض الشريعة"، غير أن المحاكم الشرعية تقدم نفسها "بديلاً عن الفوضى من خلال نشر الإسلام في المجتمع"، وهذه -حسب المحللين- نقطة الالتقاء بينها وبين حركة "طالبان" الأفغانية التي استولت على السلطة في أفغانستان عام 1996، بسبب الاقتتال بين المجاهدين والفوضى التي حلت بالبلاد، لكنها بخلافها لا تحمل رسالة واضحة "عقائدية" كما أنها تتحرك في بلد غير متعدد المذاهب والأديان .
كما لا يستبعد ما يؤكده ثلة من الخبراء أن المحاكم قد تتجه إلى "التشدد"، ما إذا لم يفتح معها ـ أي المحاكم ـ قناة للتواصل والحوار والمفاوضات المباشرة مع الفصيل الأقوى حاليا في الصومال .. وجادل بعض أعضاء إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، أنه على الرغم من المخاوف من أن يقيم الإسلاميون نظام حكم شبيه بطالبان في الصومال، إلا أنه لن يكون من الحكمة قطع كل الاتصالات معهم، حيث يمكنهم أن يحققوا بعض الاستقرار في البلاد.
الباحث جون برندرجاست المتخصص في شؤون الصومال والخبير في منظمة مجموعة الأزمات الدولية، قال: "إنه من الأهمية بمكان أن تتحدث الولايات المتحدة مع كل القوى الفاعلة في الصومال سواء كانوا إسلاميين أو غيرهم"، وانتقد الولايات المتحدة بسبب ما وصفه بأنه "15 عاما من السياسات الفاشلة في الصومال ولتمويلها جماعة من أمراء الحروب لم يكن لها كثير من الشرعية" .
وقد كذب الشيخ شريف شيخ أحمد في تصريحات صحفية أي علاقة للمحاكم الإسلامية بما يسمى الإرهاب, واصفا المخاوف الأميركية، بأن تتحول مقديشو إلى ملاذ آمن لتنظيم القاعدة، بأنه "تطاول ووقاحة أمريكية"، وقال: "لماذا يشعر الأمريكيون بالقلق حيال التطورات الجديدة في مقديشو، هذا لأنهم غير مطلعين بصورة جيدة على الوضع أو أنهم قلقون لهزيمة أصدقائهم" .. وتابع: "لسنا معادين لأي بلد ولا نقاتل ضد مصالح أي طرف كان، لكننا نعطي الأولوية لشعب الصومال" .
وتطرق الشيخ شريف شيخ أحمد إلى مسألة فرض الشريعة الإسلامية، فقال: "الشعب الصومالي هو الذي يقرر هذه المسألة"، مضيفا "لن نملي مستقبل الصومال وستجري استشارة المجتمع المدني والمثقفين والشتات والمجتمع برمته"، وقال: "الاشتراكية جربت كوسيلة لحكم العالم، ولكنها فشلت، والديمقراطية جربت وهي تفشل، والسبيل الوحيد الآن هو الإسلام. ولكن الشعب هو الذي يقرر ذلك".
ونفى الشيخ شريف شيخ أحمد في رسالة إلى السلك الدبلوماسي أي صلة للمحاكم بالإرهاب. وقال: "لا نشاطر أهداف ووسائل المجموعات التي ترعى الإرهاب وتدعمه". وأضاف أن حركة المحاكم الإسلامية دينية وليست سياسية، وأن جناحها العسكري تشكل فقط لإنهاء التسيب الأمني المزمن .
ومما لا شك فيه أن ما يحدث الآن في الصومال، يعتبر فوزا مدويا لـ"الجهاديين" الذين كانوا وراء تأسيس هذه المحاكم، التي أرجعت الأمن والهدوء في "مقديشو" وقضت على قطاع الطرق والعصابات في بعض الأماكن التي توجد بها المحاكم، في حين يرى دبلوماسيون أجانب أن هذه المحاكم استعملها التيار الجهادي للوصول إلى الحكم.
ومن جانب آخر، عين الشيخ حسن ضاهر أويس، "عدن أشي أيرو" في يوليو 2005 على رأس الميليشيات، وهي شخصية تدربت في أفغانستان، وتعتبر الأعنف بين 400 عنصر من المجموعة الجهادية في الصومال، وقد نجا من محاولة اغتيال مدبرة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المحصلة، فإنه لم يحن بعد الوقت لتحديد الاتجاه أو التيار الأقوى الذي يمكنه التأثير أو السيطرة على اتحاد المحاكم الإسلامية ، وإن كانت اللعبة التي دأبت أمريكا على استعمالها والمتمثلة في استخدام القوة وبلا رحمة أو هوادة، والتي تحاول الآن تحريكها من خلال أثيوبيا وتدخلاتها الخفية أولا ثم المعلنة حاليا ستجعل التيار الجهادي هو صاحب اليد الطولى على أرض الصومال .
صومال الأمل والتحدي
يعتبر المحللون سيطرة المحاكم الشرعية على العاصمة الصومالية مقديشو تحولا مهما في الساحة السياسية الصومالية وأنه قد يكون بداية طي مرحلة مؤلمة ومليئة بالألام والمصائب من التاريخ الحديث للأمة الصومالية، شريطة استغلال الأطراف المعنية هذا التغير لما فيه صلاح البلاد. ويرى آخرون بأنها ربما تكون بداية موجة جديدة من الصراعات والاقتتال الأهلي؛ وفي هذه الكرة قد يكون الصراع أقسى وأسوأ من سابقاتها بسبب دخول عنصر أيديولجي ديني جديد في الصراع القبلي الصومالى .
هذه هي المرة الأولى في تاريخ الصومال القديم والحديث التي يوظف فيها العامل الديني لحسم صراع أهلي بين القبائل بينماعادة كان يتم توظيف الدين لتوحيد صفوف القبائل وتعبئتهم لمواجهة عدو أجنبي خارجي.
ويرى المراقبون أن قادة المحاكم يحتاجون إلى شخصية حكيمة تعرف متي تحارب ومتي تفاوض ومتي تلقي السلاح لبناء الوطن. لأن النصر العسكري للمحاكم في حاجة إلى تعزيزه من خلال انتصار سياسي بإعداد برنامج وطني شامل تشارك فيه جميع القوى الفاعلة في المجتمع ومن خلاله يتم إعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة التي أصبحت بؤرة التوتر والفوضى في البلاد .
ويؤكد التاريخ أن جميع الثورات التي قام بها شعب الصومال منذ الكفاح الوطني من أجل الاستقلال كانت تنتصر عسكريا ولكنها تفشل سياسيا . وكان آخرها الانتفاضة الشعبية ضد الديكتاتور السابق سياد بري وما تلاه من فشل سياسي مريع ما زلنا نشهد تداعياته المرة حتي يومنا هذا . والخطأ التاريخي نفسه قد تعيده المحاكم إذا لم تنتبه إلى أهمية إعداد خطة مشروع سياسي يكون بمثابة بوصلة لجميع تصرفاتها.
هناك إشكالية أخرى تتمثل في بنية اتحاد المحاكم الذي يتألف من تيارات شتي من شرائح المجتمع المتنوعة بما فيها جماعات إسلامية مختلفة التصور ورجال أعمال وفئات من المجتمع المدني إضافة إلى زعماء حرب بعضهم لا يزال يحتل مناطق من جنوب البلاد. جميع هذه التيارات تتفق على التخلص من نفوذ لوردات الحرب إلا أنهم يختلفون في الرؤى والأفكار والأهداف فيما سوى ذلك من استراتيجيات. والتحدي الحقيقي الأكبر يكمن في إيجاد صيغة مشتركة بين جميع هذه التيارات للعمل معا من خلال خطة مشروع تتفق فيها جميع الأطراف .
وتعد المفاوضات التي بدأها الطرفان الحكومة الانتقالية واتحاد المحاكم تعتبر بداية طيبة وخطوة أولى في الاتجاه الصحيح. حيث يبدو واضحا أن الطرفان في حاجة إلى بعضهم البعض ولا يستغني أحدهما عن الأخر. فالحكومة رغم ما يبدو عليها من الهشاشة والضعف إلا أنها تحظى باعتراف المجتمع الدولي وتتمتع بقدر من الشرعية باعتبارها نتيجة مؤتمر مصالحة وطنية استمر عامين بدعم دولي وإقليمي. وكذلك المحاكم على الرغم من عضلاتها العسكرية التي لا تقهر ولا تبارى في الوقت الحالي في الساحة السياسية الصومالية إلا أنها فى حاجة إلى غطاء شرعي معترف به ومقبول من المجتمع الدولي. وهكذا الطرفان يتكاملان ولكن قبل ذلك كله لابد من بناء الثقة بين الطرفين وذلك من خلال خلق مناخ يسوده الإخلاص وحسن نية وتبديد الشكوك والمخاوف التي يتبادلها الطرفان عبر وسائل الإعلام .
إن المبادرة العربية الأخيرة مهمة جدا رغم أنها جاءت متأخرة وبعد غياب شبه كامل عن الأزمة الصومالية. فالوساطة العربية تكتسب أهميتها بكونها تحظى بثقة واحترام جميع الأطراف وهو ما لا تتمتع به أي جهة أخرى إقليمية أو دولية بحيث تتهم بعض الأطراف بانحيازها إلى طرف ضد الطرف الآخر.
ثم إن هناك تحديات خارجية أهمها إزالة المخاوف التي أبداها المجتمع الدولي تجاه الانتصارات العسكرية للمحاكم. وفي هذا السياق تعتبر الرسالة التصالحية التي بعث بها الشيخ شريف إلي مكاتب هيئات البعثات الدبلوماسية في نيروبي والمنظمات الإقليمية والدولية ومكتب العلاقات العامة لوزارة الخارجية الأمريكية ـ تعتبر خطوة مهمة تنبئ عن مرونة سياسية يتمتع بها الشيخ حيث شرح فيها سياسات وأهداف الاتحاد مؤكدا على كونها حركة محلية لأغراض وطنية لا علاقة لها بالإرهاب ودعا إلى فتح حوار مع جميع الأطراف. كان ذلك موقفا حضاريا وأخلاقيا لاقى ترحيبا دوليا واسعا لكن ما ينتظره العالم هو تطبيق هذه الوعود على أرض الواقع .
وأخيرا، فإن الصومال الآن في مفترق طرق ومنعطف مهم وخطير، وكل شيء يعتمد على السياسات التي تنتهجها الأطراف الصومالية. إذا غلب صوت العقل على العاطفة وعلت مصلحة الأمة على المصالح الأخرى الآنية عندها ستكون الأزمة الصومالية في طريقها إلى الحل، أما إذا أعيدت نفس الأخطاء التي ارتكبت خلال السنوات الستة عشر الماضية حيث غلبت الأنانانية والعشائرية فعندها تسير الأمور إلى مسارات أخرى يصعب التنبؤ بعواقبها الوخيمة.
الصومال يوسع خرق الشرق الأوسط الأمريكي الجديد
من عجائب السياسة أن كل محاولات المحافظين المسيحيين الجدد المتطرفين في إدارة أمريكا للسيطرة على مناطق العالم المختلفة تفشل بعوامل لا قبل لهم بها ولا توقع لمسارها .. ففي الوقت الذي كانوا يستعدون فيه لتغيير نظام حكم عدوهم اللدود في أمريكا الجنوبية (كوبا) ويتهيؤون لمرحلة ما بعد كاسترو، ظهر لهم زعيم جنوبي جديد معادي لخطط الهيمنة الأمريكية في فنزويلا هو هوجو شافيز الذي يتحول تدريجيا إلى كاسترو فنزويلا .
وفي الوقت الذي سعوا فيه لتفصيل ثوب جديد لشرق أوسط خال من المقاومة والإسلاميين، ظهر لهم المقاومون في العراق وحماس في فلسطين، وأصبحت خطط الشرق الأوسط الجديد المخصص ليتبوأ فيه الصهاينة مكانة القيادة نوع من الحلم في ذهن مريديه .
وضمن سلسلة الفشل الأمريكية هذه جاءت سيطرة الإسلاميين على مزيد من المناطق في الصومال وتحول البلاد إلى دول تديرها قوات المحاكم الإسلامية لتخرق ثوب الشرق الأوسط الأمريكي الجديد وتغير من خريطة المنطقة إستراتيجيا بما يضر بالمصالح الأمريكية .
ففي غضون مدة قصيرة لا تتعدى شهرين وسع الإسلاميون من نطاق سيطرتهم علي الصومال وأصبحوا يستولون على المدن واحدة تلو الأخرى وبدون قتال في أحيان كثيرة، حيث يسلم لهم المسؤولون السابقون والقبائل أسلحتهم وعتادهم، وفي غضون مدة قصيرة أصبحوا هم الحاكم الفعلي في البلاد مقابل حكومة ورئيس دولة معزول قرب الحدود الإثيوبية .
ومع أن هذه السيطرة التي ارتضاها غالبية الصوماليين عن طيب خاطر جاءت لرغبة الجميع في نوع من الاستقرار والهدوء بعد فترات طويلة من الحروب التي تسبب فيها أمراء الحرب الذين تمولهم الولايات المتحدة لضمان أن يظل الصومال مواليا لها، فقد أغضبت هذه السيطرة للإسلاميين، الولايات المتحدة وأنصارها من دول الجوار خصوصا إثيوبيا التي تحارب الصومال منذ قرون بسبب الصراع التقليدي القديم بين الجارتين، بسبب الخشية من تأثير تصاعد نفوذ الإسلاميين في الصومال على الأقلية المسلمة في إثيوبيا .
ولهذا لم يكن مستغربا أن يحدث تنسيق أمريكي – إثيوبي عاجل من أجل التحرك لحصار هذه السيطرة الإسلامية في الصومال، أو تدخل قوات أثيوبية إلى الصومال وتحذر المحاكم الصومالية من التقدم نحو مدينة بيداوا التي يتحصن بها الرئيس الصومالي وحكومته، أو يجري على نطاق واسع تشويه صورة المحاكم الإسلامية وتصويرها علي أنها طالبان أخرى وأن زعيمها "إرهابي"، بهدف حشد المعارضين الصوماليين ضدها .
أيضا لم يكن مستغربا أن يقدم العشرات من أعضاء الحكومة الصومالية استقالتهم خلال الأسابيع الماضية إلى (رئيس الوزراء) علي محمد جيدي لأنه – حسب قولهم – "مدعوم من القوات الإثيوبية" المنتشرة في الصومال لحماية الحكومة من تقدم الميليشيات الإسلامية التي سيطرت على مقديشو وعدد من المناطق جنوب الصومال ، كما أن الحكومة الصومالية الانتقالية التي تشكلت عام 2004 عاجزة عن فرض النظام وهي لا تسيطر إلا على منطقة بيداوة حيث اتخذت مقرا لها .
وما يلفت الأنظار – وسيكون له دور حاسم في مواجهة المخطط الأمريكي لشرق أوسط وإفريقيا جديدة موالية للغرب – أن الإسلاميين وسعوا نطاق سيطرتهم في وسط الصومال بعد استسلام ميليشيات محلية لم تقاومهم بل تعهدت بمساعدتهم على فرض الشريعة في هذا البلد الذي يشهد حربا أهلية منذ العام 1991 .
حيث سلمت ميليشيات تابعة لقبيلة (هوية) وهي أبرز قبيلة صومالية 50 آلية على الأقل كلها مجهزة بأسلحة رشاشة إلى المجلس الإسلامي الأعلى في الصومال في مدينة أدادو بمنطقة جالجود (وسط)، وهو ما عده (زعيم المجلس الإسلامي الأعلى) الشيخ حسن ضاهر أويس تطورا هاما يعكس رغبة الصوماليين في عودة الهدوء والاستقرار، ورغبتهم في أن تحكمهم الشريعة الإسلامية .
وقد أدت سلسلة الانتصارات لأن يسيطر الإسلاميون على العاصمة الصومالية وعلى جزء كبير من جنوب البلاد وجزء من وسط البلاد، كما بسطت المحاكم سيطرتها على منطقة (موجود) شمال منطقة جالجود حيث وضعت حدا لأعمال القرصنة في مرفأ مدينة هراديري الواقعة على بعد 300 كلم شمال مقديشو.
وأزعج هذا بالطبع إثيوبيا التي أرسلت قواتها داخل حدود الصومال لتحمي الحكومة الصومالية الموالية لها في بيداوة، والتي تعهدت لاحقا "بسحق" مليشيا المحاكم الإسلامية الصومالية القوية بعدما هددت المحاكم الإسلامية بشن الجهاد ضد قوات أديس أبابا لاتهامها بإرسال قوات لحماية الحكومة الصومالية الانتقالية الضعيفة حيث كشف شهود عيان توغل للقوات الإثيوبية في مدينة صومالية ثانية قريبة من بيداوة مقر الحكومة الانتقالية لحمايتها من أي تقدم للإسلاميين نحو المدينة .
وكان زعيم الإسلاميين الصوماليين الشيخ حسن ضاهر أويس قد دعا الصوماليين إلى "الجهاد" ضد إثيوبيا متهما جيشها "باجتياح" الصومال التي تشهد حربا أهلية منذ 1991، وخرج سكان مقديشو لدعم الشيخ أويس وإدانة التحرك الإثيوبي الذي وصفه بعضهم بأنه عمل استفزازي متعمد خصوصا أن هناك محاولات لإجراء محادثات سلام بين الإسلاميين والحكومة واتفاق هدنة واعتراف متبادل تم توقيعه في الخرطوم في 22 يونيو الماضي .
ويبدو أن التحرك الإثيوبي ونشر قوات في المنطقة الحدودية داخل الصومال (250 جندي وفق الصوماليين) جاء بغرض استعراض العضلات وترهيب المحاكم من الزحف تجاه بيدواة خاصة أن سيطرة قوات المحاكم تهدد قوة إثيوبيا الإقليمية في المنطقة من جهة وتهدد في الوقت نفسه الأمن الإثيوبي بسبب الخشية من أن يشجع هذا الأقلية الإسلامية علي زيادة مطالبها ، كما أن هذا يهدد بدوره المصالح الأمريكية في المنطقة المتوافقة مع المصالح الإثيوبية .