مقدمة
تعد الهجرة أحد العناصر الثلاثة المسئولة عن التغير السكاني في مجتمع ما وهي الخصوبة والوفيات والهجرة. وتختلف الهجرة عن هذين العنصرين من عدة جوانب. فعلى العكس من كل من الخصوبة والوفيات التي يسهل جمع بيانات عنهما ومن ثم قياسهما بشكل دقيق، فإن الهجرة يصعب قياسها بمثل تلك الدرجة من الدقة لأن تدفق المهاجرين لا يتسم بالثبات من الناحية الزمنية، ومن ثم تقل معلوماتنا عن الهجرة بالمقارنة بالخصوبة والوفيات. وثانيا فاننا غالبا ما نجد أن الهجرة عرضة لرقابة قوية من جانب الدول للسيطرة عليها بالمقارنة بكل من الخصوبة والوفيات، وأخيرا، فان الهجرة من الظواهر السكانية الكفيلة بتغيير الهيكل السكاني لاي مجتمع بصورة سريعة جدا بالمقارنة بآثار كل من الخصوبة والوفيات على الهيكل السكاني والتي تحتاج الى فترة طويلة جدا من الزمن لكي تؤدي الى تغيير الهيكل السكاني.
وتعد الهجرة من الموضوعات السكانية التي نالت قدرا كبيرا من الدراسة. وعادة ما تدور تحليلات الهجرة حول كونها تتم بين الدول المتقدمة أو الدول المتخلفة، أو ما إذا كانت الهجرة داخل حدود الدولة (هجرة داخلية)
مفهوم الهجرة
يقصد بالهجرة انتقال الافراد من منطقة ما الى منطقة أخرى. سواءا كان ذلك داخل حدود الدولة، وهو ما يطلق عليه الهجرة الداخلية، أو الهجرة خارج حدود الدولة وهو ما يطلق عليه الهجرة الخارجية. وقد تتم الهجرة بشكل قانوني، أو قد تتم من خلال تسرب المهاجر الى الدولة المقصودة بطرق غير شرعية، مثل ادعاء الدخول بغرض الزيارة ثم الاستمرار في البقاء داخل الدولة بهدف العمل.
وتتم الهجرة الداخلية أساسا من المناطق التي يقل فيها الطلب على العمل الى المناطق التي تتوافر فيها فرص التوظف، أو تتوافر فيها فرص أفضل للمعيشة، ومن ثم فان النمط الغالب للهجرة الداخلية هو من المناطق الريفية الى المدن، ويلاحظ أن الهجرة الداخلية يكون الدافع من وراءها اقتصاديا بالدرجة الأولى
أما في حالة الهجرة الخارجية فقد تكون الدوافع اقتصادية، أو سياسية مثال ذلك حالة اللاجئين والهاربين والمطاردين من قبل النظم الحاكمة في دولهم، أو قد يكون الدافع علميا، من خلال سعي الفرد الى فرص تعليمية أفضل أو فرص للبحث أفضل من تلك المتوافرة له في دولته. وغالبا ما يطلق على الهجرة من هذا النوع الاخير لفظ "نزيف العقول "Brain Drain".
أما عن البعد الزمني للهجرة، فقد تتم الهجرة بشكل مؤقت وذلك حينما ينوي المهاجر الاقامة في المهجر لمدة مؤقتة ثم العودة مرة أخرى الى الوطن، أو قد تكون الهجرة دائمة حينما لا ينوي المهاجر العودة مرة أخرى الى بلده الأصلي.
وباختلاف انماط الهجرة تختلف بالتالي المكاسب التي تعود على البلد الأم من الهجرة. ففيما يتعلق بالهجرة الخارجية المؤقتة فان المهاجر كما سبق القول يكون مدفوعا أساسا بالدافع الاقتصادي، ومن ثم فانه في كافة الاحوال سيعود ومعه مدخراته الى البلد الأم. وقد يحدث في كثير من الحالات أن يكتسب المهاجر خبرات من جراء اقامته في البلد المضيف، وهذه الخبرات تضاف الى رصيد الخبرة المتوافر في البلد الأم عند عودة المهاجر، وهكذا فان نمط تدفق المكاسب سيكون من البلد المضيف الى البلد الأم في حالة كون الهجرة مؤقتة. أما في حالة الهجرة الخارجية الدائمة فأنها غالبا ما تتم على أساس انتقائي، بمعنى أن الدول المضيفة تقوم بتدقيق النظر فيمن ستمنحهم حق الاقامة الدائمة ولذلك فان معظم من يهاجرون بهذه الصورة هم من ذوي المهارات والمستويات التعليمية المرتفعة، وبحكم اقامتهم الدائمة في الخارج فانهم لا يقومون بتحويل مدخراتهم الى البلد الأم بعكس الحال في حالة الهجرة المؤقتة، وانما يحتفظون بهذه الاموال في الخارج، ولهذا السبب فان تدفق المكاسب من الهجرة يكون من البلد الام الى البلد المضيف. وتبلغ خسارة البلد الام أوجها في هذه الحالة حيث تخسر البلد بالكامل رأسمالها البشري المتمثل في الكفاءات العلمية والفنية المهاجرة.
وتبدو هناك صعوبة كبيرة من الناحية الاحصائية في تعريف المقصود بالمهاجر، ولذلك اتفق الديموجرافيون على أن المهاجر هو الشخص الذي يقيم بشكل مستمر في دولة أخرى أو في إقليم آخر لمدة أكثر من سنة، أو الذي أعلن عندما دخل الحدود عن نيته في البقاء لمدة أكثر من سنة.
أما عن خصائص المهاجرين فيلاحظ أنهم بالدرجة الأولى صغار في السن، وتميل معدلات الهجرة بين الفئات العمرية المختلفة الى التناقص مع زيادة السن. كذلك يلاحظ أن اغلبية المهاجرين بتمتعون بمستوى تعليمي مرتفع، وكذلك ذوي دخول أصلا مرتفعا نسبيا، كما أنهم عادة ما يكونون من ذوي المستوى الوظيفي المرتفع . وفي معظم الاحوال هناك فروقا جوهرية في المهاجرين حسب النوع. أذ غالبا ما تتم عملية الهجرة بواسطة الذكور في المقام الأول. وعادة ما يقوم المهاجر الذكر بالهجرة أولا ثم يقوم بعد ذلك باستقدام زوجته الى دولة المهجر. أما على مستوى الاسرة فان هجرة الاطفال صغار السن تكون أكبر حيث لا يسهل التخلي عنهم في تلك السن الصغيرة، أما الاطفال الكبار فهجرتهم أقل بسبب عدم الرغبة في التأثير على مستوى تعليمهم من خلال الانتقال من نظام تعليمي الى نظام تعليمي آخر. كذلك يلاحظ ميل غير المتزوجين الى الهجرة بشكل أكبر من ا لمتزوجين.
لماذا يهاجر السكان :
تعد نظرية عوامل الجذب وعوامل الطرد من أكثر النظريات شيوعا في تحليل الاسباب التي تدفع بالافراد الى الهجرة. وتقوم النظرية ببساطة على أن الناس تهاجر لان هناك عوامل طاردة لهم من موطنهم الاصلي، أو أن هناك عوامل جاذبة لهم في المنطقة المضيفة. ولقد وضع فكرة النظرية رافنشتاين عام 1889 الذي قام بتحليل بيانات الهجرة في انجلترا وويلز والذي استنتج أن عوامل الجذب عادة ما تكون أكثر أهمية من عوامل الطرد في تحديد قرار الهجرة، إذ أن الرغبة في تحسين المستوى المادي للفرد تكون أقوى من الرغبة في الهروب من وضع سئ في الموطن الاصلي للمهاجر. ولعلنا الآن نتذكر ما قاله ديفز في معرض حديثة عن أسباب انخفاض الخصوبة في أن الرغبة في الارتقاء بالمستوى المادي للفرد وليس الرغبة في الهروب من الفقر، هي التي تدفع بالفرد الى تحديد مستوى الخصوبة.
ومما لاشك فيه أن مجرد وجود العوامل الطاردة في الموطن الاصل لن يدفع بالفرد الى الهجرة الا أذا كان لديه علم بأن هناك فرص أفضل له في مكان آخر. على أن قرار المهاجر بالهجرة يعتمد على عملية حساب للتكلفة والعائد من عملية الهجرة، حيث يقوم المهاجر بوزن عوامل الجذب والطرد، ثم يتخذ القرار بالهجرة إذا كانت المنافع المولدة من عملية الهجرة تتعدى التكلفة المتصلة بها، على سبيل المثال فان قرار المهاجر بترك وظيفته، ومكانته في العمل لانتهاز فرصة وظيفية أفضل في البلد المضيف يتضمن عملية مقارنة بين العائد الذي يحصل عليه من الوظيفة الجديدة وبين المكانة الأعلى في العمل، والتكلفة التي يتحملها بانتزاع نفسه وأسرته من موطنه الاصلي وترك منزله، ومجتمعه الذي اعتاد الحياة فيه واصدقائه الذين اعتاد أن يكون بينهم. ومن الناحية الواقعية فان قرار المهاجر بالهجرة لا يأتي فجأة، وانما يتم خلال فترة زمنية طويلة نسبيا تبدأ من ظهور الرغبة لدى المهاجر بالهجرة، والوقت الذي يتوقع المهاجر أن يهاجر فيه، وأخيرا التوقيت الفعلي لهجرته، وعلى كل الاحوال فدائما تعتبر العوامل الاقتصادية مسئولة في المقام الأول عن الهجرة، فالدراسات التطبيقية عن الهجرة تشير الى أن العاطلين، والعمال الذين لا يشعرون بالرضاء عن وظائفهم هم غالبا الافراد الذين يميلون للهجرة.
وهناك وجهه نظر أخرى ترى أن الشخص غالبا ما يكون له مجموعة من الاهداف يسعى الى تحقيقها على مدار حياته مثل مستوى أعلى من التعليم أو وظيفة أفضل أو شراء منزل أفضل، أو حتى مجرد الحياة في محيط اجتماعي واقتصادي افضل، ولتحقيق هذه الاهداف فان الهجرة تعد أحد الخيارات المتاحة أمام الفرد لتحقيق هذه الاهداف.
نموذج هاريس تودارو
يعد نموذج هاريس تودارو للهجرة من الريف الى الحضر من الصباغات المهمة لدور العامل الاقتصادي في قرار الهجرة. أذ يقوم النموذج على افتراض أن الهجرة تعتمد أساسا على المقارنة بين مستويات الاجر في سوق العمل في الريف ومستويات الاجور في سوق العمل في الحضر. أي أن
Mt = f ( Wu - Wr )
حيث Mt = عدد المهاجرين من الريف الى الحضر في الفترة الزمنية ( t ) .
Wu = معدل الاجر في الحضر.
Wr = معدل الاجر في الريف.
وبما أنه من الممكن أن تكون هناك بطالة في المدينة، وبالتالي قد لا يستطيع كل مهاجر أن يجد وظيفة في الحضر فإن النموذج يفترض أن المهاجر يقوم بالمقارنة بين الاجر في الريف والاجر المتوقع في المدينة.
ويحسب الاجر المتوقع في المدينة على أنه يساوي احتمال الحصول على وظيفة في الحضر مضروبا في الاجر الفعلي في الحضر أي أن
Wu* = PWu.
حيث Wu* = معدل الاجر المتوقع في الحضر.
P = احتمال الحصول على وظيفة في الحضر.
Wu = الاجر الفعلي في الحضر
ولكن كيف يمكن حساب P (احتمال الحصول على وظيفة في الحضر)
إن أحد الأساليب الهامة لحساب P هي أن
P = Eu / (Eu + Uu)
حيث Eu = اعداد العمال المشتغلين مثلا في الحضر.
Uu = اعداد العمال العاطلين في الريف.
أى أن احتمال الحصول على وظيفة في الحضر يساوي نسبة العمال المشتغلين الى اجمالي عدد العمال فإذا كانت نسبة العمال المشتغلين الى اجمالي عدد العمال = 90%، فان ذلك يعني ان هناك احتمال (P) قدره 90% في أن يحصل المهاجر على وظيفة في الحضر.
ويفترض وفقا لهذه الصياغة أن كل أفراد قوة العمل في الحضر تتكافئ الفرص لديهم في الحصول على الوظائف المتاحة، مما يعني أن معدل الاجر المتوقع في الحضر Wu يساوي معدل الاجر السائد في الحضر مضروبا في معدل البطالة في الحضر وعلى ذلك فان الهجرة في أى وقت من الاوقات تعتمد على 3 عوامل.
1- الفرق بين معدل الاجر في الحضر ومعدل الاجر في الريف.
2- معدل البطالة في الحضر.
3- درجة استجابة المهاجرين للفرص المتاحة للتوظف في الحضر.
أى أن
Mt = h (PWu - Wr)
حيث Mt = الهجرة في الفترة الزمنية t
h = درجة استجابة المهاجرين
PWu = معدل الاجر المتوقع في الحضر
Wr معدل الاجر في الريف.
وطالما أن معدل الاجر المتوقع Wu*, في الحضر يزيد عن معدل الاجر الفعلي في الريف فان تيار الهجرة سوف يستمر من الريف الى الحضر، الى الحد الذي تؤدي فيه الهجرة الى تخفيض معدل الاجر في الحضر، أو أن تؤدي الهجرة الى زيادة البطالة في الحضر الى الحد الذي يجعل معدل الاجر المتوقع في الحضر Wu* = {(Eu/ Eu + Uu) . Wu} مساويا لمعدل الاجر السائد في الريف Wr.
كذلك من الممكن أن يصبح معدل الاجر السائد في الريف Wr أعلى من معدل الاجر المتوقع في الحضر Wu بسبب تيار الهجرة مما يدفع المهاجرين الى العودة مرة أخرى الى موطنهم الأصلي.
ولقد وجهت الانتقادات الى نموذج هاريس تودارو على أساس ان شرط التوازن المحدد بواسطة النموذج نادرا ما يتحقق (أى التوازن بين معدلات الاجور في الريف والحضر). فمن الامور الشائعة أن يكون معدل الاجر في الحضر أعلى من معدل الاجر في الريف بنسبة تتراوح بين 50% - 100% حتى عندما تتراوح معدلات البطالة في الحضر بين 10%-20% من قوة العمل. وعلى ذلك فمن الناحية العملية لا تؤدي الهجرة الى سد الفجوة بين الاجر المتوقع في الحضر، والاجر الفعلي في الريف على عكس ما يتوقع النموذج.
من ناحية أخرى فان العامل الاقتصادي ليس هو العامل الوحيد المؤثر على الهجرة مثلما يشير النموذج. فالدراسات توضح أن بعد المسافة بين الريف والحضر، ومدى قوة الروابط الاجتماعية بين الافراد في الريف تلعب دورا مهما في اتخاذ القرار بالهجرة. فأغلب المهاجرين الى المناطق الحضرية يأتون من المناطق الريفية المتاخمة. كذلك فان المهاجرين يميلون الى الذهاب الى المناطق التي يتواجد بها عدد كبير من أفراد أسرتهم او أفراد قريتهم أو من نفس الاصل العرقي الذي ينتمون اليه. وأخيرا فان بعض أنواع المهاجرين وبصفة خاصة الشباب عادة ما ينجذبون بأضواء المدينة الباهرة.
تكلفة الهجرة
يوضح هاريس وتودارو (Harris & Todaro) في نموذجهما للهجرة الداخلية من الريف الى المدينة أن تكلفة الهجرة ليست تقتصر على الفرد، ولكنها أيضا تشمل المجتمع ككل. أذ يفترض كل من هاريس وتودارو أن هناك تسابقا من جانب المهاجرين على الوظائف التي يتم خلقها في المدن. ففي مقابل كل وظيفة يتم خلقها في المدن من الممكن أن نجد أكثر من عامل مهاجر من الريف لكل فرصة وظيفية في المدينة، وفي مثل هذه الحالة فان تكلفة الفرصة البديلة لكل وظيفة يتم خلقها في المدينة ستكون الانتاج الخاص لعاملين أو أكثر من المهاجرين سعيا وراء تلك الوظيفة. وقد لا يقتصر الامر على ذلك، فالروابط الاسرية المتينة تجعل تكلفة الفرصة البديلة أعلى من ذلك. فالمهاجر من الريف اذا استدعى زوجته وابناءه فان تكلفة الهجرة في هذه الحالة لن تقتصر على النقص في الانتاج الناتج عن هجرة المهاجر، ولكن أيضا النقص في الانتاج الناجم عن هجرة الزوجة والأطفال الذين غالبا ما يعملون في الارض.