أضرار السحر الدينية
لا يشك عاقلٌ حين يرى استطالة الشعوذة وهيمنتها على الأمم والشعوب، وحين يلاحظ التعظيم الحاصل للسحرة والمشعوذين، أننا أمام ظاهرةٍ قديمةٍ حديثة لها آثارها الكارثيّة في مختلف المجالات، فالسحرُ جريمةٌ بكل ما تعنيه هذه الكلمة، جريمةٌ في حق النفس، وجريمةٌ في حق الأمّة، وجريمة في حق الإنسانيّة، وفوق ذلك: جريمةٌ في حق الله تبارك وتعالى.
وعلاوةً على الأضرار الاقتصاديّة والمجتمعيّة التي تسببها هذه المظاهر المنحرفة عن سواء الصراط، فإن لها أضراراً يمكن وصفها بالدينيّة، ونعني بذلك: أثرها على تديّن الناس ومدى التزامهم بأحكام الشرع، فضلاً عن مبيانتها للكثير من المفاهيم الشرعيّة التي حرص الإسلام على توضيحها وتجليتها، وسوف نتطرّق في هذه العجالة إلى شيءٍ من هذه الأضرار ومدى انحرافها وضلالها.
تعظيم السحر والسحرة
حينما يؤُلف الفعل الرباني والسنن الإلهيّة وتعتاد النفوس عليهما، فإنه يضعف أثر التدبّر فيهما، ويتناسى الناس حقائقهما، فعلى الرغم من تكرار ما يراه الناس في أنفسهم، وفيمن حولهم من تدبيرٍ أمور الكون وكشف الضرّ وإجابةِ الداعين وشفاء المرضى، يتناسى بعض الناس كلّ ذلك تحت سطوة السحرِ وألاعيبه وقدرتِه المحدودة على الإتيان بما هو مخالفٌ للمعهود، فإن صدق الساحر في مرّةٍ من بين مائة مرّة في ادعاءِ معرفة الغيب، تناسى الناس في تلك اللحظة كلّ ما مرّ من الآيات والأحاديث التي تقصرُ علم الغيب على علاّم الغيوب، وبالمثل: إذا أجرى الله الشفاء على يد ساحرٍ أو وجد إنسانٌ ضالّتَه عندَه، يتوارى اليقين بـ: {وإذا مرضتُ فهو يشفين} (الشعراء:80)، ولا يلتفتُ أحدٌ إلى حقيقة استعانة الساحر بالجن والشياطين،وأمام هذا الانهزام وذاك الانبهار يتولّد التعظيم للسحر والإجلال للساحر ورفعِ مكانته بين الناس، ليس عند عامة الناس وبسطائهم، بل عند مفكّريهم ومثقّفيهم وقادتهم كذلك، ومن لا يصدّق فعليه بالرجوع إلى الصحف العالميّة التي كشفت عن وجود مستشارين من أهل الدجل والخرافة والتنجيم والسحر، عند عدد من الساسة والقادة المعروفين!.
وهذا التعظيم المنحرف للسحرةِ يدفعُ الناس بالضرورة إلى طرقِ أبوابهم، والبحث عنهم، و"الهجرة" إليهم، لو جاز التعبير، وتتبّعهم من بلادٍ إلى أخرى، والبعض قد يدفع أموالاً طائلةً حتى يُسمح له بزيارةِ أحدهم أملاً منه في الخلاص والشفاء.
كلّ هذا يكونُ من الناس في الوقتِ الذي بشّر الله تعالى عبادَه بأن أبوابه مفتوحةٌ للسائلين في أي وقتٍ من ليلٍ أو نهار، ليس بينه وبين عبادِه واسطةٌ، ولا يُحتاج لمخاطبته أو مناجاتِه إلى شفاعة، والكلام في ذلك يقودنا إلى النقطة التالية، وهي:
السحرُ وعدم إجلال الله تعالى
إن من يقصد أبواب السحرةِ لا يبالي عظمة ربه، يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابِه المبين: {ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا} (نوح:13-14)، وهذا حقٌّ، إذ كيف يوقّر الله، ويقدره حق قدرِه من يلجأُ إلى ساحرٍ عند حلول البلاء ونزول الضرّاء؟ ويُترك من بيدِه الأمرُ كلّه، وإليه يرجع الأمر كلّه؟ فليس ثمّة فرقٌ بين الذاهبين إلى السحرةِ، والذاهبين إلى الأصنام من جهةِ اللجوء إلى من لا يستحق التعظيم أو الإجلال.
ولنا في قول نبي الله إلياس عليه السلام خير شاهدٍ وأجمل حجّةٍ على المفتونين بأحوال السحرة والمشعوذين: {أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين} (الشعراء:125-126)، فكيف يترك دعاء الله، الذي خلق الخلق، وأحسن خلقهم، ورباهم فأحسن تربيتهم، وأدر عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ثم يُتوجّه ويُقصد من لا يضر ولا ينفع، ولا يخلق ولا يرزق، وهل هذا إلا من أعظم الضلال والسفه والغي؟
السحر ومصادمته للعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر
من المعلوم أن الدنيا دارُ ابتلاء واختبار، ومن طبيعتها وجود المكارِه بأنواعها، فيكون اختبار الله جل جلاله لعباده بها بحسب ما تقتضيه حكمته؛ لينظر كيف نعمل بعد ذلك، وما هو الموقف والتصرّف تجاه هذه البلايا: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} (البقرة:155).
يقول الشيخ السعدي: "أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرّت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. وهذه فائدة المحن".
ومن حكم الله في الابتلاء، أن يتقرّب العبدُ من مولاه وخالقه، وأن يتيقّن ألا ملجأ من الله إلا إليه، فيزيده ذلك قرباً من الله وتعلّقاً به ودعاءً له، وإذا كان المرء ولابد واقعٌ في المعاصي ولو صغرت –إذ لا عصمة له-، فيكون في البلاء نوعٌ من التمحيص والتطهير من الذنوب: {وليمحص الله الذين آمنوا} (آل عمران:141)، فإذا كان القضاء لا يُردّ إلا بالدعاء كما صحّ بذلك الحديث، وإذا كان الله قد وعد عبادَه بالإجابة بعد الدعاء: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر:60)، {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة:186)، فإن هذه الاستجابة بما فيها من دفعٍ للبلاء وإزالةٍ للكربة قد تتخلّف بسبب وجود ما يمنع من تحقّقها، أو لوجود فوائد من حصول التأخير في الإجابة، فلو أن كل إنسان يعطى الإجابة في الحال، لفاتت الكثير من المصالح، ولتحقّقت بعض المفاسد، إذْ قد يدعو المرء بما يكون فيه هلاكُه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يرفع عنه من السوء مثلها) أخرجه أحمد. والدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة، فقد تتخلّف الإثابة لعدم اكتمال الشروط أو لوجود مانع، وكذلك الدعاء.
إذا تبيّن ما سبق، نستطيع أن نفهم كيف يكون في السحر منافاةٌ لعقيدة القضاء والقدر، فإن من يلجأ إلى السحرةِ قد يكون سببُ ذهابِه إليه تطاول البلاء واستمرارِه أياماً عديدة، مع غفلةٍ عن الحكمة الإلهيّة في البلاء وكيفيّة تصريف الأمور، ومع نسيانٍ بما أكّدت عليه الشريعة وجعلتْه من قواعدها المتينة أن كلّ قضاء الله خير، وليس الشرّ في التقدير الإلهي، وإن كان في المقدور -موضع حدوث القدر- كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) رواه مسلم، وإننا لنسمع كثيراً ممن يذهبون إلى السحرة، يلتمسون منهم الشفاء، وهم يقولون: "دعوتُ فلم يُستجب لي" ويبرّرون: "ما تركتُ دعاءً نبويًّا إلا ودعوتُ به، ولا ذكراً إلا والتزمتُه، ولا شريطاً للرقية إلا وسمعتُه، ولا راقياً إلا وقصدتُه، فلم يتزحزح البلاء عن مكانِه" وهنا يبدأُ الضعف البشريُّ يلعبُ لعبتَه القذرة ليسوّل للنفسِ قصدَ السحرةِ والمشعوذين، وأصلُ هذا البلاءِ كلّهِ هو ضعف التصوّر، وقلّة اليقين بهذا الركن من أركان الإيمان.
السحر وقلّة التوكّل على الله
تتحقّق النجاة، حين ينعقد قلب العبد على الإيمان واليقين، ويُملأ بالتوكل على الله تعالى، ولا يتعلق بسبب مهما كان، ولا يرجو غير الله تعالى، ولا يخاف سواه، حينها فقط ترتاح نفسه، ويهدأ باله، وينشرح صدره، ويطمئن قلبه، ولا يخشى أحدًا، ولا يخاف حدثاً، مهما اشتدّت الخطوب، وأظلمت الدروب، وتاهت الخُطى. هكذا هو المؤمن الصادق، والمنطلقات إذا كانت سليمة فالنتائج قويمة: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة:51). أما من يذهب إلى السحرةِ فيقينُه بالله مهزوز، وثقتُه بالله على أرضٍ رخوة، وإلا فكيف يلجأ الضعيف إلى الضعيف، وكيف يطلب الفقير من الفقير، ثم يترك الغني الحميد؟: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} (فاطر:15).
تعلق القلب بالخرافات والأساطير
هناك شيءٌ يسمّى في علم النفس بــ"الكاريزما"، والمقصود بها: الجاذبية الكبيرة، والحضور الطاغي الذي يتمتع به بعض الأشخاص، والقدرة على التأثير في الآخرين وإبهارهم، وهذا هو الوتر الذي يلعبُ به السحرةُ والعرّافين؛ ليتمكّنوا من جعلِ الآخرين يرتبطوا بهم جسديًّا وروحيًّا.
ومبادئ "الهالة" التي يصنعها الساحر تتمثّل في عدمِ القدرة على الوصول إليه إلا بشق الأنفس، فلابد من وجود وسيطٍ أو سكرتير، ولابد من مواعيد بعيدة المدى؛ للإيحاء بوجود جمعٍ غفير من العملاء، ولا بد من مكانٍ تمّت هندستُه بأيدٍ مهرةٍ من صنّاع الديكور لصنعِ الرهبةِ والغموض والإيحاء بالقوّة والطغيان السحري، وأمام هذه التدابير تتهاوى السدود بين الساحر وبين جمهوره، ويتعلّق القلب بكلّ ما يطلبُ منهم مهما كان الطلب غريباً، أو غير قابلٍ للتفسير، وحتى لو كانت التعاويذ السحرية غير مفهومةٍ، فإن المريد على استعدادٍ تامٍّ للعنايةِ بها والتعلّق بها، رجاءَ أن تكون ملاذَه مما يحذر، ووسيلتَه فيما يطلب، بل لن نبعد عن الحقيقة كثيراً إن قلنا: إن الاستعداد القلبي والوجداني لقاصدي السحرة والمشعوذين أن يداوموا على الأذكار المشروعة والأوراد الصحيحة الموثوقة يكاد يضمحل، مقابل تعلّقهم بتلك الطلاسم السحريّة، فأي خرقٍ للعقيدةِ أكثر من ذلك؟
وجود الوساوس في حياة المسحور
نحن نعلمُ من السنّة أن أحد أنواع السحر هو سحر التخييل، والمقصود به: حدوث التلبيس الذي يعتقده المشاهد حقيقةً، وهو ليس بحقيقة، فيتراءى له أنّه قد جامعَ زوجتَه، وهو لم يفعل ذلك، وقد يرى زوجتَه قبيحةً، وهي ليست كذلك، بل قد يرى خيالاتٍ تتراءى لناظريه، والواقع أنها أوهام لا وجود لها، فيبدأ الشكّ يتعاظم في نفسه وفي قدرتِه على التمييز بين الحقيقة والوهم، وفي بعض الأحيان –وعلى ندرةٍ- قد يكون للسحرِ أثرٌ في حدوث الوساوس في العبادات.
وإذ نقرّر هذه القضيّة، فإننا لا نخلط بين ما سبق ذكره وبين أنواعٍ من الأمراضِ النفسيّة والسلوكيّة التي لها ذات الأعراض، وتسمّى في علم النفس: بالاضطرابات الذهانية، والتي يفقد فيها المريض الاستبصار، ويعيش في عالم من الأوهام والأفكار الخاطئة، وحتى وساوس النظافة والوضوء، فإن أغلبها لا علاقة له بالسحر، والمرجع في تحديد ذلك الأطباء النفسيون والرقاةٍ معاً.
السحر والشرك بالله
السحر سببٌ في انتشار الأمور الشركيّة في الأمّة، إذ لا تكاد تخلو مظاهر السحر من أنواع الكفر، سواءٌ من طالب السحر، أم من الساحرِ نفسِه:
- أما الساحر فلا يمكن أن تكون له قدراتٌ سحريّة، ولا مجال للترقّي في درجاتِه، حتى يكون له اتصالٌ مباشرٌ بالجن والشياطين، ومن قواعد هذا العالم: لزوم أن يقوم الساحر بتقديم بعض الطقوس المليئة بأقبح أنواع الكفر والتدنيس للمقدسات واقتراف المحرّمات، وكلما كان التدنيس أفظع كانت خدمات الشياطين أوسع، وقد سمعنا كيف يقوم بعض السحرة بالذبحِ للشيطان أو دعوتِه من دون الله، وسمعنا من يقوم بالدوس على المصحف أو تلطيخه بالنجاسات والقاذورات، أو رميهِ في المرحاض، نعوذ بالله من كلّ ذلك، ونعتذر عن ذكر تلك الأمور صراحةً حتى يتبيّن الناس مدى فظاعة وجُرْم من يقصد السحرة. فإذا كفرَ الساحرُ خدمَه الشيطان بأن يخبره ببعض الأمور الغيبيّة، أو يعينه ببعض الأمور السحرية التي لا يقدر عليها البشر، كالطيران في الهواء، أو المشي على الماء، ومن هنا يتضح سرّ الوصف القرآني للسحر بالكفر في قوله سبحانه: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} (البقرة:102).
- وأما طالب السحر: فعادةً ما يطلب الساحر منه الاحتفاظ برقيةٍ سحريّةٍ مربوطةٍ بإحكام، وفي داخلها استغاثةٌ بملوك الجن وسادة الشياطين، وقد تحتوي على آياتٍ محرّفة، أو مصحفٍ ملوّثٍ بدم الحيض، وقد يطلب الساحر منه أن يأتي بحيواناتٍ معيّنةٍ كقطٍ أسود أو ديك أو غيرهما، يتم ذبحها في الظلام.
وبعد هذه الجولة السريعة في أضرار السحر على الدين والنفس، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: أبعد كلّ هذا، يصرّ البعض على الذهاب إلى السحرة؟ وصدق الله حيث قال: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج:46).