المبحث الأول: تعريف الربا:
الربا في اللغة الفضل والزيادة، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] وقوله سبحانه: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] وهو مقصور على الأشهر. وهو من الباب الأول، ويثنى على (ربوان) وينسب إليه فيقال (ربوي) على أصله.
والربا في الاصطلاح الفقهي:
عند الحنفية (فضل خال عن عوض بمعيار شرعي مشروط لأحد المتعاقدين في المعاوضة). وعند الشافعية: (عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما) وعند الحنبلية: (الزيادة في أشياء مخصوصة) والمالكية في تعريفهم للربا لا يخرجون عن هذه التعاريف.
ومن التعاريف يتضح أن الربا إنما هو الزيادة الخالية عن عوض مقابل، فلو كانت زيادة يقابلها عوض لم تكن ربا. وكذلك فإن الربا خاص بالمعاوضات، أما الهبة فلا يجري فيها الربا.
والربا لا يكون إلا مشروطاً، فلو زاد أحد المتبايعين الآخر دون شرط لم يكن ربا.
وكذلك فإن الزيادة فيه لا تتحقق إلا إذا كان العوضان منضبطين بمعيار شرعي وهو الكيل أو الوزن لا غير.
المبحث الثاني: حكم الربا من حيث الوصف الشرعي القائم به:
الربا محرم باتفاق الفقهاء من غير خلاف، قليلاً كان أو كثيراً، وقد ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
1- دليل الكتاب: ففي آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278-279].
2- دليل السنة: ففي أحاديث كثيرة مستفيضة منها:
أ- ما رواه جابر -رضي الله عنه- قال: (لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم. وروى الخمسة مثله عن ابن مسعود.
ب- ما رواه ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وان أربى الربا عرض الرجل المسلم) رواه ابن ماجه مختصراً، والحاكم بتمامه وصححه.
جـ- ما رواه الدارقطني، والبيهقي، وأحمد، عن عبدة الله بن حنظلة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (درهم ربا يأكله ابن آدم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية).
3- وأما الإجماع فهو محكي عن جميع الفقهاء في كل العصور، لم يشذ منهم واحد، حتى أن الماوردي قال: (إنه لم يحل في شريعة قط) لقوله تعالى: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه) يعني في الكتب السابقة.
المبحث الثالث: حكم الربا في البيع من حيث الأثر النوعي المترتب عليه:
ذهب الحنفية إلى أن اشتراط الربا في المعاوضات مفسد لها، وقد تقدم أن العقد الفاسد يثبت به الملك عند الحنفية خلافاً للعقد الباطل، إلا أنه ملك خبيث، لا يجوز الانتفاع به معه، وهو عقد واجب الفسخ وعلى هذا يكون بين الربا والعقد الفاسد عموم وخصوص مطلق، فكل عقد ربوي فاسد ولا عكس.
وذهب الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى أن الربا في المعاوضات مبطل لها، ذلك أن الجمهور لا يفرقون بين الفساد والبطلان في العقود، وقد تقدم ذلك، فيكون العقد الربوي عندهم كأنه لم يكن، فلا ينتج عنه ملك ما.
الفصل الثاني: الأموال التي تجري فيها الربا، وعلة الربا:
المبحث الأول: الأموال التي يجري فيها الربا:
اتفق الفقهاء على جريان الربا في أموال معينة، واختلفوا في جريانه في أموال أخرى، وذلك على الوجه الآتي:
أ- اتفقوا على أن الربا يجري في الأموال التالية، وهي ستة: الذهب، والفضة، والبن، والشعير، والتمر، والملح. وذلك إذا استجمعت شرائط الربا. ودليلهم على ذلك:
1- ما رواه عبادة بن الصامت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُن بالبُن، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) متفق عليه.
2- ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تُشفَّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِقَ إلا مثلاً بمثل ولا تُشِفَّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) متفق عليه.
3- ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا) رواه مسلم والنسائي وأحمد.
4- ما رواه أبو سعيد الخدري وأبو هريرة -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أكُل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تفعل بع الجَمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك) متفق عليه. وفي رواية لمسلم (وكذلك الميزان).
والتمر الجنيب هو التمر الجيد، والتمر الجَمْع هو التمر الذي اختلط فيه الجيد بغيره فكان من أصناف متفاوتة في الجودة، وقيل هو التمر الرديء، والمعنيان متقاربان، لأن المختلط ملحق بالرديء في السعر غالباً: ومعنى رواية مسلم (وكذلك الميزان) أي وكذلك ما بيع بالميزان، فإنه في الحكم مثل ما بيع بالمكيال.
فإن هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها مما جاء في معناها يدل دلالة صريحة على حرمة التفاضل في بيع الأموال الستة كل بجنسه، وعلى حرمة الأجل فيه، ولذلك أجمع جماهير العلماء منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا على جريان الربا فيها، وذلك إن بيعت بجنسها، كبيع الذهب بالذهب والملح بالملح ... متفاضلاً في الحال، أو غير متفاضل ولكن إلى أجل، لصراحة النصوص السابقة.
إلا ما روي عن بعض التابعين من عدم جريان ربا الفضل فيها وفي غيرها من الأموال، وهو خلاف قول الجماهير فلا نعمل به.
ب- واختلفوا في جريان الربا فيما عدا هذه الأنواع الستة من المال وذلك على مذهبين:
أولاً: مذهب الظاهرية، وهو عدم جريان الربا في غير هذه الأموال الستة، لأن جريان الربا فيها كان تعبدياً غير معلل، فلا يقاس عليها غيرها فيه، وهذا المذهب مروي عن عطاء وقتادة.
ثانياً: مذهب جماهير العلماء غير الظاهرية، وفيهم أئمة المذاهب الأربعة، وهو أن الربا يجري في غير هذه الأموال الستة كما يجري فيها، ذلك أن التحريم فيها معلل، فيقاس عليها غيرها.
إلا أن هؤلاء العلماء اختلفوا في العلة التي يتعدى بها الحكم إلى غير هذه الأموال، ذلك أن العلة غير منصوص عليها، ولا بد لاستخراجها من الاجتهاد وبذل الجهد.
المبحث الثاني: علة الربا:
اختلف الجماهير في علة الربا إلى أربعة مذاهب كالآتي:
1- مذهب الحنفية: وهو أن علة التحريم في هذه الأموال وصفان هما: القدر (وهو الكيل أو الوزن)، والجنس. ذلك أن هذه الأموال الستة بعضها موزون كالذهب والفضة، وبعضها مكيل، كالبن والشعير، وليس فيها غير مقدر.
وقد نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تحريم بيع الجنس بجنسه فيها متفاضلاً، فكان على التحريم الجنس مع القدر. وعلى ذلك إذا باع صاعاً من حنطة بصاع منها ناجزاً جاز، لانعدام أحد وصفي العلة، وهو التفاضل في القدر. فإذا باعه بصاعين حرم لقيام الوصفين وهما: التفاضل في القدر مع اتحاد الجنس، ولا يؤثر في ذلك أن يكون الصاعان قيمتهما كقيمة الصاع الواحد المقابل لرداءتهما وجودة الصاع، فإن الجودة في أموال الربا ساقطة الاعتبار. فيكون الاعتبار للوزن والكيل دون القيمة. وذلك لصراحة الحديث الشريف المتقدم: بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً).
وكذلك الحكم في كل مكيل أو موزون، كأنواع الخضار، والمعادن، والسوائل التي تباع بالكيل أو الوزن، فأنها أموال ربوية قياساً على الأموال الستة.
وأما الأقمشة التي تباع ذرعاً، والأدوات التي تباع عداً، فإنها مما لا يجري فيه الربا عندهم لانعدام الكيل أو الوزن فيها وهما القدر الوارد في الأموال الستة فلا يزاد عليه. فلو باع بطيخة ببطيختين أو بيضة ببيضتين جاز، إذا كان العرف يجري على بيعه بالعدد، ولو باع طناً من البطيخ بطنين منه لم يجز إذا كان العرف جار على بيعه بالوزن، لأنه في المرة الأولى غير مقدر بالمقدار المحرم، وفي الثانية مقدر به.
ولا يتم التحريم عند الحنفية في البيع المنجز إلا باجتماع وصفي العلة معاً، فإذا وجد أحد الوصفين دون الآخر لم يحرم البيع الحال، وأما البيع لأجل، وهو (النَّساء) فإنه يحرم بوصف واحد.
2- مذهب الشافعية: وهو أن علة الربا إنما هي الثمنية، أو الطعم، ذلك أن الذهب والفضة ثمنان، والأنواع الأربعة الأخرى مطعومة، فكانت العلة في تحريم الربا فيها ذلك. والجنس شرط التحريم في كل، فإذا باع حنطة بحنطة حرم التفاضل وكذلك كل مطعوم إذا بيع بجنسه، والطعام عندهم هو كل ما قصد للغذاء كاللحم، أو التفكه بالفواكه، أو لسلامة البدن كالأدوية، فإنها كلها مطعومة في حق الربا.
فإذا بيع بخلاف جنسه، لم يحرم ما دام البيع منجزاً، لاختلال شرط التحريم وهو اتحاد الجنس بين البدلين.
وكذلك إذا باع فضة بفضة منجزاً، فإنه محرم إلا إذا تساويا وزناً، وكذلك الذهب بالذهب للثمنية في كل واتحاد الجنس.
فإذا باع حديداً بحديد متفاضلاً لم يحرم، لانعدام العلة، وهي الطعم أو الثمنية.
3- مذهب المالكية: وهو أن علة الربا إنما هي الطعمية مع الاقتيات والادخار في الأنواع الأربعة، والثمنية في الذهب والفضة مع الجنس.
والطعمية عندهم معناها كل ما يطعمه الناس للتفكه، أو التداوي، أو التغذي أو غير ذلك.
وأما الاقتيات عندهم، فيشمل كل مأكول يصلح البدن بالاكتفاء به، ويكون في معنى المقتات به عندهم ما هو ضروري لحفظ المقتات به كالملح.
وأما الادخار فمعناه إمكان استبقاء المطعوم إلى الأمد المبتغى منه عادة، ولا حد لذلك على ظاهر المذهب، بل هو في كل شيء يحسبه.
وأما الجنس فإنه أحد وصفي العلة، ولا يحرم التفاضل إلا معه، إلا أنه ينزل منزلة الجنس الواحد الجنس المقارب على المعتمد. فالبن والشعير والسلت جنس واحد في الربا، لتقارب منفعتها، فيحرم لذلك بيع بعضها ببعض متفاضلاً كبيع البر بالبر نفسه متفاضلاً تماماً.
هذا في البيع المنجز، أما البيع إلى أجل (النَّساء) فإن علة التحريم فيه إلى جانب الجنس الطعم مطلقاً سواء أكان مقتاتاً به أو لا، مدخراً أو لا. بشرط أن يكون طعماً لغير التداوين فإذا كان للتداوي لم يجر فيه النَّساء.
وعلى هذا لو باع فاكهة طازجة بفاكهة من جنسها حرم النساء، وجاز التفاضل، فحرمة النساء للطعم، وإباحة التفاضل لانتفاء الادخار وهكذا ...
4- مذهب الحنبلية: وأما الحنبلية فقد ثبت عنهم ثلاث روايات في علة الربا.
أولاها- كمذهب الحنفية، وهي القدر مع الجنس وهي الأشهر عندهم.
وثانيها- كمذهب الشافعية، وهي الطعم أو الثمنية، مع الجنس.
وثالثها- الثمنية، أو الطعم مع القدر الشرعي إذا اتحد الجنس، وعلى هذا فلا ربا في مطعوم إلا إذا كان مكيلاً أو موزوناً، خلافاً للرواية الثانية السابقة فإنها تكتفي بالطعم وحده للتحريم.
مواضع الاتفاق بين المذاهب الأربعة في علة الربا:
ومن تتبع ما تقدم ندرك أن هنالك اتفاقاً بين أكثر المذاهب في بعض النقاط واختلافاً في نقاط أخرى.
فمحل الاتفاق في علة الربا هو نقطتان:
1- اتحاد الجنس، فإنه أحد أوصاف علة الربا عند الحنفية والمالكية والحنبلية، وهو شرط العلة عند الشافعية فلا ربا مع اختلاف الجنس، إلا أن المالكية -كما تقدم- يقيمون الجنس المقارب مقام الجنس الواحد في التحريم.
2- الثمنية، فإنها أحد أوصاف علة الربا أيضاً عند الأئمة الثلاثة إلا الحنفية، فإذا اجتمعت مع الجنس حرم التفاضل والنساء باتفاق الثلاثة، وذا انفردت عنه حل التفاضل وحرم النساء.
ومحل الاختلاف بينهم هو:
1- أن الحنفية حرموا الربا عند اتحاد الجنس في كل مقدر مكيلاً كان أو موزوناً. وتبعهم في ذلك الحنبلية في الأشهر من روايات ثلاث عنهم دون المالكية والشافعية.
2- أن الشافعية استبدلوا القدر لدى الحنفية بالطعم، وزادوا عليه الثمنية، وتبعهم في ذلك الحنبلية في رواية ثانية عنهم.
3- أن المالكية استبدلوا القدر بالطعم مع الاقتيات والادخار في ربا الفضل، واكتفوا بالطعمية وحدها في ربا النسيئة. هذا إلى جانب الثمنية فإنها أحد أوصاف علة الربا عندهم كالشافعية.
وعلى هذا إذا باع إنسان مثقال ذهب بمثقالي ذهب كان ربا في الحال والنساء عند الجميع. عند الثلاثة للثمنية مع الجنس، وعند الحنفية للقدر مع الجنس.
فإذا باع فضة بذهب، حل التفاضل وحرم النساء بالاتفاق أيضاً، لاتفاقهم على أن النساء يحرم بأحد أوصاف علة ربا الفضل، وهو هنا القدر عند الحنفية، والثمنية عند الثلاثة.
فإذا باع حنطة بحنطة حرم التفاضل والنساء بالاتفاق أيضاً لاتحاد القدر مع الجنس عند الحنفية، وللطعم مع الجنس عند الشافعية، وللطعم والادخار والاقتيات مع الجنس عند المالكية، لأن الحنطة من المطعوم المقتات به المدخر.
وإذا باع حديداً بنحاس، حل التفاضل والنساء عند الشافعية والمالكية لانعدام علة الربا، وحل التفاضل وحرم النساء عند الحنفية والحنبلية لوجود القدر وحده وهو الوزن هنا، وهكذا ...
المبحث الأول: أنواع الربا:
قسم الجمهور وفيهم الحنفية الربا إلى نوعين: ربا الفضل، وربا النساء، والفضل في اللغة الزيادة، والنساء التأخير.
1- ربا الفضل:
وعلى هذا فربا الفضل عندهم هو (زيادة عين مال شرطت في عقد بيع على المعيار الشرعي "وهو الوزن أو الكيل" عند اتحاد الجنس) أي ما يستجمع وصفي علة الربا وهما القدر والجنس، فإذا باع المقدر بخلاف جنسه كالبن بالشعير متفاضلاً حالاً لم يحرم، لانعدام الجنس، وهو أحد وصفي علة الربا، وإن كان يحرم بيعه كذلك نساء (مؤجلاً) لأن النساء يحرم بأحد وصفي علة الربا. وهو هنا القدر، فإن كُلاً من الحنطة والشعير مكيل.
هذا والعبرة في القدر عند جمهور الفقهاء ما ثبت عن الشارع، أو ما كان متعارفاً عند تنزل النص، وهو عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فما كان من السلع مكيلاً في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتبر مكيلاً دائماً وإن تعارف الناس بيعه وزناً أو جزافاً كالحنطة والشعير ...، وما كان في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- موزوناً اعتبر موزوناً دائماً ولو تغير العرف كالملح، أما ما لم يثبت فيه عرف قديم في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فالعبرة فيه لعرف الناس وقت التعامل، كالخضار بأنواعها .... فلو جرى العرف الآن ببيع الحنطة وزناً والشعير كيلاً فباع حنطة بشعير نساء لم يجن لاتحاد القدر، ذلك أن كلا النوعين مكيل شرعاً ولا عبرة بتغير العرف.
وذهب البعض إلى أن العبرة في القدر للعرف مطلقاً، فإذا جرى بيع الحنطة الآن وزناً كانت موزونة وهكذا ...
2- ربا النساء:
أما ربا النساء فهو : (فضل العين على الدين وفضل الحلول على الأجل) وذلك عند اتحاد القدر أو اتحاد الجنس.
فإذا باع صاعاً من بر بصاع من بر مؤجلاً لم يصح لزيادة الصاع الأول عن الصاع الثاني في الحقيقة، وإن لم يبد ذلك ظاهراً. لأن الصاع المعجل في العرف أكثر ثمناً من الصاع المؤجل، فكان فيه زيادة فمنع، ولهذا لم تشترط فيه الزيادة الظاهرة بخلاف البيع المعجل، فإنه يشترط للتحريم فيه الزيادة الظاهرة، لعدم وجود الأجل فيه.
وذهب الشافعية إلى أن الربا أنواع ثلاثة، ربا الفضل، وربا النساء، وربا اليد، فربا الفضل والنساء عندهم كمثيليهما عند الجمهور، وربا اليد عندهم يكون في البيع الذي لم يشترط فيه الأجل ولكن تأخر فيه فعلاً قبض أحد البدلين، وهو عند الحنفية كالبيع المنجز، لا يجري فيه الربا إلا بزيادة أحد البدلين عن الآخر في العقد، فان تساويا فلا ربا لعدم اشتراط الأجل.
ولذلك فإننا نجد أن الجميع متفقون تقريباً في تقسيم الربا إلى نوعين هما: الفضل والنساء، فالفضل ما فضل فيه أحد البدلين عن الآخر في القدر في بيع منجز، والثاني ما فضل فيه أحد البدلين عن الآخر في القيمة المقابلة بالأجل في بيع مؤجل. فإذا أجله من غير شرط كان كالمنجز عند الحنفية وكالنسبة عند الشافعية.
وقد اتفق الفقهاء على أن ربا النساء يحرم بوجود أحد وصفي علة الربا، أما الفضل فلا يحرم إلا بوجود وصفي العلة معاً: وهما عند الحنفية القدر مع الجنس.
وعند الشافعية الجنس مع الثمنية. أو الجنس مع الطعم.
وعند المالكية الجنس مع الطعم والاقتيات والادخار، أو الجنس مع الثمنية.
المبحث الثاني: شرائط جريان الربا:
لا يجري الربا في المعاوضات ولا تحرم به إلا إذا توافرت فيها شرائط هي:
أ- أن يكون بدلا المعاوضة التي يتحقق فيها الربا معصومين، أي مملوكين ملكاً لا يجوز الاعتداء عليه وسلخه عن صاحبه بغير حق مشروع، فلو كان البدلان أو أحدهما مباحاً غير معصوم، كمال الحربي.
فقد ذهب جمهور الحنفية إلى أنه لا يجري الربا فيه إذا كان المسلم هو الآخذ. بل تصح المعاوضة مع قيامه، فإذا كان المسلم هو المعطي لم يجز.
وذهب الجمهور وبعض الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك، وأن الربا يجري وتحرم المعاوضة متى توافرت علة الربا فيها، سواء أكان البدلان معصومين أو لا، وسواء أكان المسلم هو الآخذ للربا أو المعطي له.
وعلى هذا لو دخل تاجر مسلم إلى دار الحرب فعامل أهل تلك الدار من غير المسلمين بمعاوضات كسب منهم فيها بعض المال عن طريق اشتراط الربا. فإنه يجوز عند جمهور الحنفية ولا يحرم على التاجر المسلم ذلك. لعدم عصمة مال أهل دار الحرب من غير المسلمين.
ولا يجوز عند جمهور الفقهاء لأنه لا يشترط لجريان الربا عنده عصمة البدلين.
ومثله إذا أسر أحد المسلمين في دار الحرب فباع منهم شيئاً أو أشترى بربا فإنه يجوز عند جمهور الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء. أما الذمي فإن ماله معصوم بالاتفاق. وكذلك المستأمن، فلا يجوز التعامل بالربا معهما. ولا عبرة باختلاف الدِّين، لأن اتحاد الدين ليس شرطاً من شروط جريان الربا بالاتفاق.
الأدلة:
1- استدل بعض الحنفية والجمهور لمذهبهم بأدلة منها:
أ- إن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق الكفار، لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال. فاشتراط الربا في البيع لهم موجب لفساده، كما في بيع المسلم للمسلم تماماً.
ب- عموم الأخبار التي جاءت بتحريم الربا، مثل قوله تعالى: {وحرم الربا} وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] فإنها تعم المعاملة مع المسلم وغير المسلم، ولا مخصص لها، فتبقى على عمومها.
2- واستدل جمهور الحنفية لمذهبهم بأدلة منها:
أ- إن مال الحربي مال غير معصوم، وهو مباح في نفسه، إلا أن المسلم ممنوع من تملكه بغير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بذله الكافر باختياره ورضاه، فقد زال هذا المعنى، فكان الآخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وإنه مشروع مثبت للملك كالاستيلاء على الحطب والحشيش في البرية قبل إحرازه من قبل أحد، فإنه جائز، فكذلك الزيادة هنا.
ب- بما روي عن مكحول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب) وهو حديث مرسل، والمرسل حجة عند الحنفية.
أن لا يكون بدلا المعاوضة معاً ملكاً لأحد المتبايعين. كبيع الشريك المفاوض مع شريكه مثل ذلك، فإنه لا يحرم لامتلاكهما معاً البدلين. وكذلك الشريكان شركة عنان إذا تبايعا مع بعضهما من مال الشركة، فإنه لا يجري فيه الربا، لاستوائهما في امتلاك البدلين، فلو باعا من غير مال الشركة جرى فيه الربا.
جـ- عدم الخلو عن احتمال التفاضل، وذلك كمن باع المال الربوي بجنسه مجازفة -أي بغير وزن أو كيل- بأن باع صبرة بُن بصبرة بُن، أو بكيل معين منه، فإنه لا يجوز لاحتمال التفاضل بينهما في الكيل، أو لعدم الخلو عن احتمال التفاضل، فإن احتمال التفاضل في المعاوضة مفسد لها مثل تحققه فيها.
وقد ورد في النهي عن ذلك حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر) رواه مسلم والنسائي.
كما ورد عن ابن مسعود موقوفاً عليه قوله: (ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا وقد غلب الحرام والحلال). ومنه أخذ الفقهاء القاعدة الفقهية الشهيرة (إذا تعارض المانع والمقتضي يقدم المانع).
وكذلك لو باع طناً من حنطة بطن من حنطة، فإنه لا يجوز لأن الحنطة تباع شرعاً كيلاً ولا يدرى إن كان طن الحنطة الأول يساوي طن الحنطة الثاني كيلاً أو لا، فكان كبيع المجازفة، وخالف في ذلك بعض الحنفية بالجواز، لأن القدر عندهم يختلف باختلاف العرف.
وعلى هذا لا يجوز بيع المزابنة والمحاقلة، والمزابنة هي في اللغة والاصطلاح بيع التمر على رؤوس الشجر بمثل وزنه من التمر المجذوذ خرصاً وتخميناً، كأن يبيع ما على هذه الشجرة من تمر بعشرين صاعاً من تمر مجذوذ، فإنه لا يجوز لعدم الجزم بتساوي المقدارين، وكذلك بيع الزبيب بالعنب على وجه لا يدري فيه أيهما أكثر.
والمحاقلة بيع الحب في سنبله بمثل كيله خرصاً، فإنه مثل التمر، تجهل فيه المساواة في القدر فلا يجوز.
وقد ثبت النهي عن ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد روي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قوله: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله) متفق عليه.