بحث عن الثورة المصرية وتغيير العقلية - بحث علمى عن الثورة المصرية وتغيير العقلية
هل حدثت المعجزة؟
(دراسة من وجهة نظر الآخر لنا قبل وبعد الثورة)
إعداد / محمد السنوسى الداودى محمد
باحث سياسى
مقدمة : الثورة هي الخروج عن الوضع الراهن سواء إلى وضع أفضل أو أسوأ من الوضع القائم، وللثورة تعريفات معجمية تتلخص بتعريفين ومفهومين,التعريف التقليدي القديم الذي وضع مع انطلاق الشرارة الأولى للثورة الفرنسية، وهو قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة، وقد طور الماركسيون هذا المفهوم بتعريفهم للنخب والطلائع المثقفة بطبقة قيادات العمال التي أسموها البروليتاريا. أما التعريف أو الفهم المعاصر والأكثر حداثةً هو التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته "كالقوات المسلحة"، أو من خلال شخصيات تاريخية لتحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية. والمفهوم الدارج أو الشعبي للثورة هو الانتفاض ضد الحكم الظالم و قد تكون الثورة شعبية مثل الثورة الفرنسية عام 1789 وثورات أوروبا الشرقية عام 1989 وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية في نوفمبر 2004. أو عسكرية وهي التي تسمى انقلابا مثل الانقلابات التي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيات والستينبات من القرن العشرين، أو حركة مقاومة ضد مستعمر مثل الثورة الجزائرية (1954-1962) أما الإنقلاب العسكري فهو قيام أحد العسكريين بالوثوب للسلطة من خلال قلب نظام الحكم, بغية النيل من السلطة والحصول على مكاسب شخصية من كرسي الحكم(1).
أولا : هل حدثت المعجزة؟ (تغير العقلية المصرية):
لم تكن مصر في يوم من الأيام دولة غنية في مواردها الاقتصادية فقط، ولكن ثراء مصر الحقيقي كان دائما في قدراتها البشرية المميزة ومن هنا كانت أسرار التفوق المصري في العلوم والفنون والآداب والإنتاج والتخطيط والقدرة علي مواجهة العصر.
هناك ثلاثية يقوم عليها بناء عقل الإنسان طوال تاريخه في ثوابته هي: الدين والتاريخ والفن، وحين تسقط منظومة الدين الصحيح في وسطيته تغزو مواكب التدين المشوه والمريض عقول الناس فتكون أمراض التعصب والتشدد والتطرف وكل هذه المنظومة التي تشجعها الظروف الاجتماعية من الفقر والجهل والتخلف.
وحين تسقط منظومة التاريخ تتسرب إلي عقول الشعوب أمراض كثيرة تتأكد مع غياب الذاكرة وسقوط منظومة القيم واختلال مفاهيم الانتماء وتشويه صورة الوطن وحقوق المواطنة .. وحين تسوء أحوال الفنون يتصحر وجدان الشعوب وتتراجع المساحات الخضراء فيها ويخبو صوت الضمير فلا نفرق بين نهر يجري ومستنقع نعيش فيه ولاشك أن هذه الثلاثية فى مصر قد أصابتها إنتكاسة طويلة(2).
وبالنظر إلى واقعنا المعاصر وخصوصًا قبل الثورة نجد أننا نسينا أو تناسينا القيم الروحية، والمبادئ المتأصلة فى الشعب المصرى: الوفاء والمروءة، والصدق والعفو، والشجاعة والحياء، والأمانة والرحمة، وغيرها من الأخلاق الجميلة، واتجهنا بعقولنا وأعمالنا - فى كثير من الأحيان- إلى الحياة المادية، التى تراجعت فيها منظومة القيم السابقة.
كما أننا قبل الثورة كنا أمام ظواهر عقلية متخلفة تشكلت في السنوات العجاف وكبرت علي ثقافة الجهل والتخلف وأمراض التطرف الفكري بكل أشكالها، هذه العقول نشأت في ظل الكبت السياسي والقهر المعنوي والإنتخابات المزورة ومحاولات الإستقطاب الأمني وتحريض فئات المجتمع علي بعضها البعض طمعا في كراسـي السلطة وحين تفتحت الأبواب خرجت هذه الأمراض وانتشرت في الشوارع تؤكد وجودها(3).
وبالعودة إلى أهم سمات الشخصية المصرية (التدين، التسامح، الاستقرار، الارتباط بالأرض والأسرة، الرضا، القناعة، النكتة، الدعابة، السخرية التي تجنح أحيانا للحزن، غير أنها كثيرا ما تلجأ إلي الصبر والزهد والتقوقع داخل الذات) وهو الأمر الذى يفسر الكثير من سلبيتها وتخاذلها، وطاعتها العمياء، حتي لو ظلمت وانتابها القهر والتسلط والاضطهاد، وساعد علي ذلك ندرة ثورة الشخصية المصرية علي الواقع، أما الثورات التي حدثت، فكانت متقطعة تدل علي الفردية لا الجماعية بمعناها الواسع، مع استثناءت قليلة، وبخاصة في عصرها الحديث.
وكان لنكسة 1967 أثر كبير في تغير الشخصية المصرية حيث ظهرت فيها سمة التعبير عن خداع الذات والتسليم لزعامات كاريزمية بعيدة عن التخطيط السليم، وما لبثت الشخصية المصرية تبحث عن هوية دينية تتستر بها بعد فشل الهوية القومية الاشتراكية ومن هنا بدأت التيارات الدينية نشاطها سواء كانت معتدلة أو متطرفة، إلي ذلك فقد كان لمعاهدة السلام دور ما في الارتماء في أحضان أمريكا سياسياً بما تبعته هذه الخطوة من تغيرات ثقافية واجتماعية بناء علي التفاعل مع ثقافات غربية مختلفة تستقبلها الشخصية المصرية بمشاعر متناقضة، ناهيك عن زمن الانفتاح الاقتصادي وما أحدثه من تنامي للقيم الاستهلاكية والرغبة في الثراء السريع دون جهد حقيقي وشيوع قيم الفهلوة وانتهاز الفرص والسفر لدول الخليج الذي أثر فى الشخصية المصرية بما شمله من تغيير في الأنماط الاستهلاكية والثقافية والدينية تبعا للنموذج الخليجي، ربما أدي إلي زعزعة النماذج القائمة والمستقرة منذ قرون لصالح النموذج السلفي من ناحية أو النموذج المستغرب من ناحية أخري. من جانب آخر، فإن قانون الطوارئ الذي أمتد العمل به لأكثر من 25 سنة أدي إلي شيوع حالة من القهر والخوف وانعدام الثقة بين السلطة والشعب وإطلاق يد السلطة الأمنية تعبث بأقدار المجتمع في كل صغيرة وكبيرة مما اتاح الفرصة لتغلغل الفساد الذي يحتمي بالسلطة ووصول عناصر تفتقر إلي الكفاءة والضمير إلي مراكز عليا تحت سقف الولاء والطاعة، في نفس الوقت الذي ابتعدت فيه العناصر الموهوبة والمتميزة عن مراكز التوجيه والتأثير وتحول الاغلبية إلي بقية صامتة تسعي للحصول علي لقمة العيش وتتقى شر سطوة السلطة المطلقة تحت ظل قانون الطوارئ، فلجأت إلي تعلم مهارات الفهلوة والتحايل والكذب والالتواء والتنازل عن أشياء كثيرة كان يعتز بها المصريون مثل الكرامة والضمير والصدق والشهامة واستبدل هذا بحالة من الخضوع والخداع والنفاق والتحايل ومد اليد تسولاً أو رشوة أو سرقة(4).
وقد أكد بعض الباحثين على عدد من صفات الشخصية المصرية قبل الثورة ومنها(5): • التكيف السريع والقدرة علي التلون مع الموقف ونقيضه، والإدراك في لمح البرق، وفيما يشبه الإلهام، بما هو مطلوب في هذه اللحظة، فيستجيب علي الفور، وهو قادر علي أن يعيش في أي ظروف ويتعامل مع أي شخصية، ويتباهي بأنه يستطيع أن يلاعب الجن الأحمر، ويتعامل مع ملائكة السماء والأرض في نفس الوقت دون أن يجد غضاضة ودون جهد كبير..وهذه النزعة الفهلوية هي التي أعطت المصريين القدرة علي التعايش مع حكام وولاة بلغوا غاية الظلم والقسوة، فهو إن لم يذعن فسوف يتعرض للعقاب والنقمة ولن يجني شيئا، وتحول هذا التكيف مع الزمن إلي وصولية وانتهازية.
• العلاقة الملتبسة مع السلطة، فالفهلوي برغبته الدائمة والملحة في تأكيد الذات يشعر في قرارة نفسه بالسخط علي الأوضاع التي توجد التمايز والتفرقة أيا كان نوعها، ويتفرع عن ذلك عدم اعترافه برؤسائه والتنكر لهم، مع أنه في الواقع يبدي الخضوع ويستخدم عبارات فيها مبالغة شديدة للتفخيم (أفندي وبيه وباشا وسعادة الباشا).
• الإسقاط والتهرب من المسئولية، وهي واحدة من أسلحة الفهلوي، حتي يلقي بالمسئولية علي غيره من الناس أو علي ظروف خارج نطاق الذات، تبرر ما يقع فيه من خطأ أو تقصير.
• الفردية وغلبة الأنا، وعدم التوافق مع العمل الجماعي وليس هذا من قبيل الأنانية فحسب، وإنما لتأكيد الذات وعدم تعرضـها للاحتكاك مع غيرها، مما قد يؤدي إلي مواقف تنكشف فيها الإمكانات الحقيقية.
• السلفية والميل إلي الماضي، وهو ما انعكس بوضوح علي التدين المصري، فالنماذج الشائعة في التدين والالتزام متقمصة من شخصيات السلف والعيش بروحهم، وكلما كان الرمز متشبها بشخصية السلف كلما كان أكثر تأثيرا في المصريين، وهذا نابع من بغض الحاضر ومحاولة الهروب منه.
وإذا نظرنا للمصريين أيام الثورة وتفكيرهم فى الأحـداث القائمة نجد أن صفات العقلية المصرية التى تحدثنا عنها قبل الثــورة بدأت تتغير كالتالى(6):
الصدمة:
والصدمة هنا قد تأخذ معنى إيجابيا من حيث كونها حدثا مفاجئا لم يكن في توقعات أو حسبان من أشعلوا شرارة الثورة, إذ تطورت الأمور بسرعة وخرجت عن الإطار المبدئي الذي فكروا فيه, إذ تجاوزت الثورة أحلام مفجريها, لذلك فهم لم يستوعبوا الحدث بكامل أبعاده, إذ تجاوز الحدث أحلامهم، وعلى الجانب الآخر قد تكون الصدمة حدث سلبي لأولئك الذين لا يرغبون في التغيير, فهم في هذه الحالة في وضع جديد لا يتوافقون معه إذن فنحن أمام صدمة نجاح لفريق من الشعب المصري وصدمة فشل لفريق آخر, وبالتالي نتوقع أن الفريقين يمران بحالة استثنائية من الاهتزاز وعدم القدرة على الاستيعاب.
الخوف:
وهو شعور يتبدى بأشكال مختلفة لدى الشرائح المختلفة للشعب والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث:
(1) المشاركون في الثورة:
وهؤلاء ينتابهم خوف على مصير الثورة وعلى نجاحها, ويتوجسون من محاولات إجهاضها أو الالتفاف عليها أو تفريغها من مضمونها.
(2) الصامتون:
وهؤلاء نسبة كبيرة في الشعب المصري, وهم معنيون بلقمة العيش والشعور بالأمن, ولذلك فهم يعيشون حالة خوف مما يحدث من تقلبات وتغيرات وانشقاقات وتهديدات على المستوى السياسي والأمني والاجتماعي, وهم مرعوبون من غياب الأمن وتهديدات اللصوص والبلطجية ويخشون تهديد معاشهم, ويمنعون أبناءهم وبناتهم من الذهاب للمدارس خشية اختطافهم أو الاعتداء عليهم ويتعزز الخوف لدى هؤلاء بحقيقة غياب الدور الأمني للشرطة بشكل كلي أو جزئي, فما زالت الدلائل تشير إلى ضعف الأداء الأمني وإلى توحش بعض فئات الشعب ممن استغلوا هذا الغياب وانقضوا على كل ما يمكنهم الانقضاض عليه, ولا يجد الناس من يستنجدون به في مثل هذه الظروف.
(3) المناهضون:
وهؤلاء لديهم مخاوف من نجاح الثورة وضياع مكاسبهم التي عاشوا عليها مع النظام السابق, والأخطر من ذلك أنهم يخشون الملاحقة القانونية والغضب الشعبي جراء ما اقترفوه من جرائم ومخالفات إبان حكم نظام مبارك والحزب الوطني الفاسد، وهؤلاء المناهضون يعرفون أن لديهم تاريخا مسجلا بالصوت والصورة يمكن لأي شخص أن يشاهده على الإنترنت وأن محاولات تغيير الأقنعة لديهم ستكون مفضوحة ومشينة ولذلك فهم في موقف صعب للغاية(7).
ويزيد من حالة الخوف التضخيم الإعلامي للأشباح والفزاعات مثل فلول الحزب الوطني والسلفيين والإخوان المسلمين والجهاديين العائدين من الخارج والخارجين من السجون .. كل هذا يشكل هاجسا مؤرقا لكثير من الناس خاصة من يرفضون هذه الفئات ويخافونها، والخوف ليس فقط مدعوما إعلاميا ولكنه مدعوم خارجيا من بعض القوى التي تتخوف من سيطرة تيارات بعينها على مقاليد السلطة في مصر.
والخوف ليس بالضرورة أن يكون متعلقا بأسباب نوعية لدى الناس بعد الثورة, إذ التغيير نفسه يعتبر مصدرا للخوف لدى البشر حتى ولو كان التغيير إيجابيا, فالناس جبلوا على الطمأنينة لما هو سائد والخوف من المجهول.
وعلى الرغم من مشاعر الخوف السائدة وحالة إنعدام الأمن إلا أنه من الناحية الأخرى تم كسر حاجز الخوف, واكتسب الناس جرأة غير معتادة تبدت في الكثير من الاحتجاجات والاعتراضات التي بدأ فيها صوت الشعب عاليا وربما صاخبا أكثر من اللازم.
صورة الذات:
من المؤكد أن هناك تغيرا إيجابيا في صورة الذات لدى المصريين بحيث أصبح المصري يشعر بقدرته على إحداث التغيير ويشعر بالفخر والاعتزاز أنه أنجز ثورة سلمية رائعة بهرت العالم كله, وأنه أسقط نظاما دكتاتوريا مستبدا في فترة وجيزة، والنقلة في صورة الذات واضحة جدا خاصة إذا وضعنا في الاعتبار الصورة السلبية التي كانت سائدة قبل الثورة وكانت مليئة بمشاعر الدونية والإحساس بالهوان والضعف وقلة الحيلة والمذلة والخضوع لدرجة جعلت المصريين يكرهون أنفسهم ويكرهون بعضهم بل وربما يكرهون مصريتهم ويشكلون أحلامهم خارج حدود الوطن.
الإنتماء:
على الرغم من التدهور الشديد فى هذه القيمة لدى المصريين قبل الثورة وخاصة لدى الشباب, فإن حالة الانتماء تحسنت كثيرا بعد الثورة في نظر الكثيرين من المراقبين, ويعكس هذا رفع الأعلام المصرية بكثافة عالية في المظاهرات والمسيرات, وترديد شعار "ارفع رأسك أنت مصري", واهتمام الشباب بنظافة الشوارع وتجميلها, والمطالبة باسترداد المال العام والمحافظة عليه، لقد شعر الناس أن بلدهم كانت مخطوفة وعادت إليهم, واختفت عبارة "دي بلدهم مش بلدنا", وعاد الشعور بملكية الوطن والرغبة في رفعته.
التعصب:
على الرغم من تنامي نزعات التعصب والطائفية قبل الثورة ووجود أحداث مؤسفة تتصل بهذا الأمر إلا أنه في أثناء الثورة وفي ميدان التحرير على وجه الخصوص ذابت هذه العصبيات والنزعات الطائفية ورأى الجميع هذه الحالة من التآلف بين التيارات المتصارعة, وظهر كيان وطني موحد ومتوجه نحو الهدف الأسمى وهو تخليص مصر من النظام الفاسد وإعادة بنائها بشكل صحيح ولكن للأسف لم تستمر هذه الحالة لوقت طويل بعد سقوط رأس النظام, وإنما ظهرت بعض الأحداث الطائفية التي هددت الثورة, وظهرت الدعوات الدينية من تيارات مختلفة مما كرس الكثير من المخاوف من عودة الانقسامات الفكرية والدينية والطائفية بدرجة تهدد استقرار الوطن وتهدد مكاسب الثورة, خاصة أنه حتى الآن لم تتشكل المنظومات السياسية التي تستوعب الاختلافات الطبيعية في البشر بشكل آمن(
.
الإحباط:
ربما زال قليلا بعد نجاح الثورة في زحزحة الدكتاتور وبعض أركان حكمه, إلا أن الناس شعرت بأن أشياء كثيرة ما زالت تستحق التغيير, ولكن السلطة القائمة لا تحقق طموحات الناس في هذا التغيير ولا تواكب الإيقاع الثوري السريع، وتتسم السياسة الحالية بعد الثورة بالاكتفاء بردود الأفعال المتأخرة, وهذا ما يجعل الناس يشعرون بالحاجة إلى الضغط المستمر والاستنفار الدائم للحفاظ على الثورة ولتحقيق أهدافها، إضافة إلى ذلك فإن هذه هي أول ثورة تقوم بهذا الحجم ولا تحكم بنفسها وإنما تحكم من خلال وكيل عنها, وعلى الرغم من الموقف العظيم للجيش المصري في الثورة وأنه حماها بكل معنى الكلمة, إلا أن توقعات الناس تتجاوز كثيرا ما يقدمه المجلس الأعلى للقوات المسلحة لهم, وهذه من طبيعة الثورات والتي تختلف عن طبيعة القائد العسكري الذي يعمل ألف حساب لحركته.
وإذا إستمرت حالة الإحباط هذه فإنها قد تؤدي إلى درجة من درجات اليأس التي تزرع من جديد في نفوس الناس وتختلف درجة الإحباط من فئة لأخرى، حسب رؤية كل فئة لمتطلباتها وطموحاتها ومدى تحقق تلك المتطلبات والطموحات, ولهذا يجب أن نفرق بين أولئك الذين كانوا في ميدان التحرير والمظاهرات من جانب وبين أولئك الذين ظلوا في بيوتهم من جانب آخر، والإحباط يتطور لدى بعض قطاعات الشعب في صورة حالة من الحزن والأسى, ويتطور لدى البعض الآخر في صورة غضب واحتجاج.
التوحش الشعبي:
وهو يظهر كرد فعل للقمع الطويل السابق للثورة, وللمزاج الثوري الفائر, وللتوقعات العالية في مجالات كثيرة وللاحباطات المتراكمة قبل وبعد الثورة، وهذه الحالة من التوحش تظهر في صورة احتجاجات فئوية صاخبة ومتجاوزة للحدود أحيانا, أو في صورة قطع الطرق وتهديد الناس أو في صورة أعمال عنف وبلطجة أو في صورة إعتداء على مسئولين أو في أحداث شغب طائفية أو في استعراض القوة لبعض التيارات والفئات والأشخاص، وهذه الحالة من التوحش الشعبي يخشى في حالة استمرارها أن تؤدي إلى فوضى هائلة نتيجة سقوط كل معايير القانون والأدب والاحترام, وتحطيم كل الثوابت الاجتماعية بدعوى الثورة والتغيير وتنامي ظواهر الاختلاف في المجتمع الأوسع وداخل الأسرة, وهذه وإن كانت مسألة طبيعية في حياة البشر إلا أن سخونتها وارتفاع صوتها في المجتمع المصري بعد الثورة مع غياب آليات لتنظيم الإختلاف ربما تؤدي إلى حالة من التصارع الخطر لو لم يتم ترشيدها وتوجيهها الوجهة الصحيحة, فعلى الرغم من كون الاختلاف ظاهرة إيجابية حين يكون اختلاف تنوع إلا أنه يصبح ظاهرة سلبية حين يكون اختلاف تضاد وصراع.
الشك والتخوين:
وقد بدا هذا مركزا حول رموز النظام السابق لما ارتكبوه من أعمال فساد وإفساد على مدى سنوات طويلة, إلا أن الأمر الآن أصبح يتجاوز هذه الدائرة ويتسع يوما بعد يوم ليشمل كل من بيننا وبينه خصومة شخصية أو اختلاف في الرؤية، ومن هنا أصبح كل شخص معرضا للتشكيك في وطنيته وانتمائه, ولا يعدم أحد تسجيلا صوتيا أو مرئيا يثبت به أن شخصا بعينه كان معاديا للثورة أو كان من رموز الفساد, أو هو ينتمي إلى فلول الحزب الوطني, أو كان متعاونا مع جهاز أمن الدولة, أو تربح من الفساد.
وقد أحدث هذا حالة من العداء المتبادل الذي يهدد استقرار المجتمع وأثر كثيرا على سير الحياة الطبيعية وجعل الكثيرين من رجال الأعمال ينكمشون ويخافون المساءلة بحق أو بغير حق, خاصة مع تلاحق البلاغات للنائب العام من كل حدب وصوب وانتشرت القوائم السوداء ضد كل من أدلى برأي أو بتصريح يظن أنه معاديا للثورة أو مناهضا لها, واختلط الأمر بين العداء الحقيقي للثورة والتآمر ضدها, وبين اختلاف الآراء حولها، وقد ساد شعور عام بأن الكثيرين فاسدون ومتآمرون ومناهضون, وهذا يزيد من حالة الشك والتوجس وانعدام الثقة وفقدان الأمان(9).
ضعف التربية السياسية:
تعود الناس لعقود طويلة أنهم مهمشون, وأن السياسة يختص بها قلة من الناس في قمة السلطة وعلى رؤوس الأحزاب, وأن السياسة هي نشاط نخبوي بالضرورة, وأن ممارستها دائما محفوفة بالمخاطر, وأن الانتخابات شكلية ويتم تزويرها, وأن إرادة الشعب لا وجود لها ولا تأثير، لذلك حين تغيرت الأحوال ظهرت الضرورة للكثير من التربية السياسية التي تعلي من إرادة الشعب, وتجعل صندوق الانتخابات هو الوسيلة المقبولة للتغيير, وتجعل الناس يعرفون كيف يقولون نعم أو لا في الانتخابات والاستفتاءات المختلفة, وأن لا يقعوا تحت تأثير محاولات الاستهواء والاستلاب, وأن يتكون لديهم عقل نقدي يزن الأشخاص والبرامج الانتخابية, ويعرف معاني الحرية والعدل والمساواة والمواطنة والديمقراطية.