بحث عن الفتنة الطائفية وتاريخ الفتنة الطائفية فى مصر - بحث مفصل عن الفتنة الطائفية وتاريخ الفتنة الطائفية فى مصر
مقــدمــــــــة:
عندما دخل الإسلام مصر حرر المسيحيين من الاضطهاد الرومانى وكان ذلك أحد العوامل فى قبول المصريين مسلمين ومسيحيين للغة العربية، فأصبحت اللغة السائدة لدى الجميع مما صنع نوعاً من التصور والوعى والتفكير المشترك.
وقد وقفت الكنيسة المصرية ضد عمليات التبشير الأوروبى, حتى أن البابا كيرلس اشترى مطبعة ليواجه بها منشورات التبشير الذى رآه خطراً على الأرثوذكسية المصرية قبل أن يكون خطراً على الإسلام، كما وقف بطريرك الأقباط مثل مشايخ الإسلام وحاخام اليهود مع الثورة العرابية عام 1882 فى صراعها مع الخديوى توفيق.
وفى يوم 24 يوليو 1965 قام قداسة البابا كيرلس السادس بوضع حجر أساس الكاتدرائية الجديدة للأقباط بحضور رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر الذى كانت تربطه به علاقة مودة متميزة وفى ذلك اليوم أمر الرئيس جمال عبد الناصر بصرف 100 ألف جنيه مساهمة من الدولة فى البناء, وفى 25 يونيو 1968 قام الرئيس جمال عبد الناصر مع قداسة البابا كيرلس السادس بإفتتاحها, وقد حضر الإفتتاح الإمبراطور هيلا سلاسى إمبراطور أثيوبيا وممثلى مختلف الكنائس، وقد عبر الجميع عن مشاعر الفرحة والبهجة لهذا الحدث.
الفتنة بدأت مع السادات:
ولكن الأمور تغيرت فيما بعد وخاصة منذ عام 1972، وبدأت أحداث الفتنة الطائفية تتكرر بدءاً من حادث الخانكة عام 1972، ومرورا بحادث الزاوية الحمراء 1981.
كان السادات يريد إرضاء الأمريكان لأنه كان يرى أن 99% من أوراق اللعبة فى يدها.. فقام بعمل تعديلات دستورية كان من شأنها أن جعل مدة الحكم فترتان.. وقام بتحويل النظام الإقتصادى للدولة من إشتراكية روسية إلى رأسمالية أمريكية.. وقام بعمل الإنفتاح.. وكان من بين ما قام به إرضاءاً لأمريكا أن قام بإخراج الجماعات الإسلامية من السجون الناصرية.. حتى يقال أن فى مصر حرية دينية.. وحتى تقوم هذه الجماعات بإهالة التراب على أى ذكرى جيدة لعبد الناصر فتزول ذكرى عبد الناصر من وجدان الناس وبالتالى يكتسب السادات شرعيته فى الحكم.. وكان من بين ما قامت به الجماعات الإسلامية أنها قامت بتكفير فئات كثيرة من المجتمع من بينها المسيحيون ومن الطبيعى أن يرد بعض المسيحيون على هذا الهجوم بتعقل ويرد البعض على الهجوم بهجوم مماثل.. ووللمسيحيين الحق فى الحالتين.. فمن يدقق تاريخيا فى ظاهرة التكفير أثناء السبعينات وبعدها يكتشف أنها تمت برعاية رسمية، وكان ذلك انقلابا مبكرا فى التوجه الفكرى والأيديولوجى للنظام السياسى, وتعزيزا للانقلاب السياسى الذى سبقه ضد دولة عبد الناصر فى 13 أيار (مايو) 1971 الذى سمى "إنقلاب مايو".
وأخذت حوادث الفتنة الطائفية تحدث وتتكرر، ونكاد نقول إنه منذ عام 1972 حدثت مئات الحوادث الطائفية المعلنة وغير المعلنة، الكبيرة والصغيرة، وفى كل مرة تتم معالجة المسألة بنفس الطريقة على طريقة دفن الرؤوس فى الرمال دون البحث عن الأسباب الحقيقة ومحاولة علاجها.
عند التأمل فى تاريخ الفتنة الطائفية فى مصر سنجد أن حادثة حرق كنيسة الخانكة بالقليوبية عام 1972 فى عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات كانت من الشرارات الأولى لحدوث بما يسمى "نزاع دينى طائفى"، وقد بدأت المشكلة عندما حاول بعض الأقباط تحويل منزلهم بالخانكة إلى كنيسة، مما أدى إلى مواجهات مع المسلمين، فأسرع البابا شنودة الثالث (بابا الأقباط الأرثوذكس) وأرسل وفدا كنسيا لإقامة الشعائر الكنسية فى المنزل محل النزاع كنوع من التحدى للرئيس الراحل حيث كانت العلاقة متوترة بينهما آنذاك.. وإنتهى الأمر بلجنة تقصى حقائق شكلها البرلمان برئاسة الدكتور جمال العطيفى, زارت أماكن الأحداث، والتقى مع الشيخ محمد الفحام شيخ الأزهر فى ذلك الوقت والبابا شنودة الثالث، وأصدرت تقريرا فى نهاية عملها استطاع احتواء الأزمة بسلام.
ثم توالت أحداث الفتنة ووصلت لمرحلة التهديد بالخطر فى أحداث الزاوية الحمراء بالقاهرة فى 1981 فى أعقاب زيارة السادات للقدس المحتلة، وتوقيعه لمعاهدة كامب ديفيد، حيث بدأت الأحداث بصدام مع كل رموز مصر السياسية والدينية، بمن فيهم البابا شنودة، الذى عُزل بعد ذلك، فيما عرف بأحداث أيلول (سبتمبر) 1981، ولم تتراجع الاحتكاكات، وتعددت مواقع الصدام واتسعت، وعكست نموا مضطردا لنشاط الجماعات المتطرفة، وزيادة واضحة فى وتيرة استحلال أموال المسيحيين وممتلكاتهم، فتم السطو على محلات الذهب وغيره، وصحب ذلك سقوط قتلى وجرحى, مثل الذى حدث فى قرية الكشح بالصعيد، واستفحل الأمر منذ أن أصبح ملف الفتنة ملفا أمنيا، يختص به جهاز أمن الدولة، مع أنه ملف وطنى وسياسى من الدرجة الأولى, وقد واكبت أحداث الخانكة بروز محمد عثمان إسماعيل أحد مساعدى السادات، والذى كان على إتصال بالمرشد العام الثالث للإخوان المسلمين الشيخ عمر التلمسانى حيث طلب من التلمسانى دفع الإخوان للتصدى للمعارضة، وكانت وقتها ترفع شعار الحرب ضد الدولة الصهيونية، وإزالة آثار العدوان، إلا أن الشيخ التلمسانى بحرصه وذكائه المعهود، لم يقع فى الفخ، ورفض قبول المهمة. فما كان من محمد عثمان اسماعيل إلا أن أخذ المهمة على عاتقه، وتبنى فكرة إنشاء جماعات إسلامية فى الجامعات ووفر لها التمويل والتدريب والتسليح، بالجنازير والسنج والأسلحة البيضاء واللكمات الحديدية، وأطلقها على الطلبة المعارضين, وقد عقد الاجتماع الأول للترويج لهذه الفكرة فى مقر اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى, على كورنيش النيل بالقاهرة، فى بدايات 1972.
المسألة القبطية:
كما نشأ مع السبعينيات ما يمكن أن نسميه بالمسألة القبطية، والتى تدور حول حق بناء الكنائس، ونسبة التمثيل فى الأجهزة الحكومية، وعدم التمييز بين الأقباط والمسلمين فى الوظائف . . . إلخ.
أياً كان الأمر فإن مثل هذه المشاكل يمكن مناقشتها فى المجتمعات المدنية من خلال الأحزاب على سبيل المثال، وأن يشارك فيها الجميع، ولكنها تحولت إلى مطالب مرفوعة من الكنيسة التى يجب على المسيحيين على عكس شيخ الأزهر الذى لا تلزم طاعته المسلمين مما يؤدى عملياً إلى إنقسام البلد إلى حزبين كبيرين، حزب مسيحى أرثوذكسى بقيادة البطريك وحزب إسلامى بقيادة رئيس الجمهورية.
ولعل هذا فى حد ذاته أحد الأسباب الهامة فى ظهور المسألة الطائفية بمصر، وفى الواقع فإن ممارسة البطريرك للسياسة يخالف عقائد الكنيسة ويؤدى إلى وقوعها فى الحرج ويخالف التراث القبطى المصرى التقليدى, وهو ما لم يُعرف فى تاريخنا إلا بعد صعود البابا شنودة لسدة البطريركية عام 1971.
الاستقواء بأمريكا:
فى ذلك الوقت قامت أجهزة أميركية وبعثات تبشيرية فى مصر, كما ضغطت أمريكا أكثر من مرة على الحكومة المصرية فى بخصوص المسألة القبطية وبعثات التبشير، مما المسلمين المصريون والمسيحيون أيضأ بأن هناك من يريد استغلال المسألة، وانتظر الجميع أن تتخذ الكنيسة المصرية موقفاً حازماً من ذلك فلم يحدث ذلك، مما جعل هناك شعور عام بأن هناك استقواء من المسيحيين فى مصر بالأميركان.
وقد لفت العديد من المسيحيين ومنهم الأستاذ جمال أسعد وهو مسيحى أرثوذكسى مصرى نظر الكنيسة المصرية عدة مرات إلى ذلك وحذر من هذا الشعور بالإستقواء، ولكنه لم يجد من الكنيسة سوى الهجوم عليه بل والتشكيك فى مسيحيته.
كما نجد أن هناك جماعات مسيحية مصرية فى المهجر تدعى أن مصر محتلة من العرب، وأنه ينبغى إخراج المحتلين العرب من مصر، وتعقد هذه الجماعات مؤتمرات تقول فيها ذلك علناً بدعم معروف ومكشوف من منظمات يهودية وصهيونية وأميركية وكنسية غربية، ووصل الأمر بهؤلاء إلى حد تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بدعوى وجود اضطهاد فى مصر للمسيحيين.
كل هذا بالطبع يؤدى إلى شعور سئ لدى المصريين عموماً والمسلمين منهم خصوصاً تجاه الكنيسة المصرية، ولا يمكن بالطبع هنا للعقلاء من الطرفين أن يدافعوا عن موقف الكنيسة ما لم تصدر قرارات حرمان لرموز جماعات المهجر التى تسلك هذا السلوك.
ومثالاً على إستقواء الكنيسة بالخارج فإن السيدة وفاء قسطنطين مثلاً حين أسلمت وهذا حقها، إضطرت الحكومة فى النهاية إلى تسليمها إلى الكنيسة التى قامت بحبسها داخل أحد الأديرة، مما ترك شعوراً سئ لدى المسلمين, حيث يتم مخالفة موضوع حرية العقيدة دائماً لصالح الكنيسة، ولأن الكنيسة أصبحت دولة داخل دولة، لدرجة أن أحد الكتاب العلمانيين علق على الأمر بقوله "إن الحكومة المصرية ليس لها سفارة فى دير وادى النطرون"!!
وهكذا فإنه حين تحدث أحداث طائفية ويتم اعتقال مسيحيين ومسلمين فإن البابا يصوم من أجل إطلاق سراح المسيحيين فيتم الإفراج عنهم وتتردد الحكومة فى الإفراج عن المسلمين، وقد وصف أحد الكتاب الإسلاميين وهو الدكتور محمد عباس ذلك بقوله إن المسلمين فى مصر يعاملون كأقلية.
بالنسبة لأحداث نجع حمادى: فيجب أن نراجع الأسباب حتى نصل إلى العلاج .. والسبب الرئيسى لهذه الفتنة أو بودار الفتنة الطائفية على ما أعتقد .. وعلى ما وصل إليه تفكيرى .. هو سوء الحياة الإقتصادية .. فحين كانت الحياة الإقتصادية أيام الملكية وأيام محمد نجيب وعبد الناصر جيدة.. كان المسلمون والمسيحيون يعيشون فى سلام .. أما وقد ساءت الحياة الإقتصادية بدءاً من عصر السادات وما ترتب عليه من حركة الإنفتاح الإقتصادى .. جعل ذلك كلاً من المسلمون والمسيحيون ينظر كلاً منهما إلى الآخر .. أو إلى ما فى يد الآخر .. فيشتكى المسلمون من سوء معاملة الحكومة لهم وأن الحكومة تنحاز للمسيحيون لإرضاء أمريكا التى تريد أن يعيش المسيحيون فى سلام فى مصر .. ويشتكى المسيحيون من عدم إهتمام الحكومة بهم أو بدور عباداتهم لأنها حكومة إسلامية لدولة إسلامية.. مما نتج عن ذلك كراهية بين كثيرين (وليس الكل) فى كلا الطرفين للآخر.. كان هذا هو أهم الأسباب من وجهة نظرى .. أما عن العلاج .. فهو قرصين من الحياة الكريمة لكلا الطرفين ثلاث مرات فى اليوم بعد الأكل.. فهل تستطيع حكومة مصر اللئيمة أن توفر لشعب مصر حياة كريمة؟
في النصف الثاني من هذا العام تسارعت وتيرة الأحداث الطائفية المصرية ، بدءا من قصة كاميليا شحاته التي مضت كأنها مسلسل تلفزيوني امتد شهورا حافلة بالمفاجآت والإثارة والمنعطفات الدرامية . ثم ظهرت في أغسطس أزمة مطرانية مغاغة في المنيا بسبب تراخيص بناء الكنائس ، وتتقدم هذه الأيام أزمة التصريحات التي أدلى بها لقناة الجزيرة الأمين العام السابق لاتحاد علماء المسلمين د. محمد سليم العوا حين إدعى في حديثه أن الكنائس المصرية " مخازن للأسلحة " ! ثم تصريحات الأنبا بيشوى سكرتير المجمع المقدس الذي قال إن" الأقباط أصل البلد" وأن " المسلمين مجرد ضيوف عليهم " ، والحقيقة أن تصريحات العوا وبيشوى على حد سواء هي نموذج للتعامل مع أخطر القضايا من دون أي شعور عميق بالمسئولية القومية والسياسية . فلم يكن لدي العوا أي دليل على تخزين الكنائس للسلاح وإلا لتقدم ببلاغ للنيابة ، أما حديث بيشوي عن " أصل البلد " فمردود عليه بأن البلد " أصل الكل " ومنشأهم جميعا مسلمين وأقباط .
أقول ليست المشكلة فقط في تسارع وتيرة الأحداث الطائفية ، ولكن في استمرارها دون توقف مثل شريط سينمائي متفجر مليء بمشاهد المظاهرات والبيانات والغضب، ثم في طبيعة تلك الأحداث وردود الأفعال التي صارت تشرب لحظة بعد الأخرى من وحل الكراهية والتأهب للعنف . الأسوأ من كل ذلك أن أبطال الشريط السينمائي المتفجر – على ما يبدو - لا يتجهون بقصتهم إلي " نهاية سعيدة " ، وما من شيء يبشر بتطور إيجابي . هناك بالطبع أصوات قليلة عاقلة هنا وهناك ، لكنها تبدو مثل متر صغير من الإسفلت في طريق سفر طويل موحل بالكامل ، ومليء بالحفر والمطبات . ولا ينتبه أحد إلي أن الأحداث الطائفية التي تبدو في تكرارها متشابهة إنما تأخذ في الإختلاف من داخلها ، وتتشبع في باطنها – مرة بعد الأخرى – بمضون مختلف عدائي ، وأشد ميلا للعزلة ، والمواجهة ، مما يثير مخاوف الكثيرين من انعطاف الطائفية إلي طريق لا يدري أحد بم ينتهي . وقد كتبت من قبل كتابا كاملا في ذلك الموضوع بعنوان " الباب المغلق " ، ولا أحب أن أكرر شيئا مما جاء فيه ، فقط أقول إن علينا كما عند مواجهة أي مرض أن نبدأ بتخفيض درجة الحرارة ، بوقف الاشتباكات ، والبيانات وغير ذلك ، ثم ننظر بعد ذلك في المرض ذاته ، وحينئذ سنرى أن مرض الفتنة الطائفية تعبير عن الفتنة الاقتصادية والفتنة السياسية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والثقافية والتنموية . وفي كل تلك الفتن لا يستطيع المواطن البسيط أن يصل لحل ، وأحيانا لا يمكنه حتى فهم المسألة ، لماذا ترتفع أسعار السلع ؟ ولماذا استحال الحصول على مسكن ؟ ، لماذا تزداد البطالة ؟ وكيف نتجنبها ؟ أما في الموضوع الديني ، فإن المواطن يصبح عالما فجأة بكل شيء ، ويستطيع هنا تحديدا ، أن يشتبك ، وأن يظهر فاعليته ، وقدرته على التغيير الذي يعجز عنه في المجالات الأخرى . وإذا أردنا حقا للفتنة الطائفية الدينية أن تتوارى فإن علينا إطلاق أوسع الحريات الديمقراطية ليجد المواطن نفسه " سياسيا " وليس " دينيا " . علينا أن نشرع في تغيير المناخ العام بدءا من المدرسة والتعليم ، وأن نبتدع مادة دينية جديدة تقوم على إظهار التعاليم والروح المشتركة بين الإسلام والمسيحية ، وأن نكرر للتلاميذ أن عبارة " الله محبة " هي أخت " الله الرحمن الرحيم " ، وعلينا أن نبدل التشريعات التي تقيد بناء الكنائس ، وأن نفسح للأقباط مساحة مماثلة في وسائل الإعلام خاصة التلفزيون ، وغير ذلك . وربما يجدي عقد مؤتمر وطني عام ، غير رسمي ، يتقدم فيه الأقباط بتصورهم عن مشاكلهم ، ويتقدم فيه المسلمون بتصورهم ، وينتهي لشيء مشترك ، شيء يعيدنا إلي قول أحمد شوقي وهو يخاطب الوطن : " ولو أني دعيت لكنت ديني .. عليه أقابل الحتم المجابا " ، ويعيدنا إلي ثوابت الحركة الوطنية التي رسخت أن " الدين لله والوطن للجميع " .
التفسير السياسى للفتنه الطائفيه فى مصر
في سنة 1798م شهدت بلاد مصر الحملة الفرنسية الشهيرة التي كانت علامة فارقة في تاريخ مصر والمنطقة العربية بأسرها، إذ تسببت هذه الحملة في إطلاق شرارة ما عرف بالفتنة الطائفية في مصر، وهي الفتنة التي ما زالت تعاني منها البلاد حتى وقتنا الحاضر، بل تمثل أغلظ الملفات الداخلية التي تواجه الحكومات المصرية على مر العصور.
- مسلمو مصر تعايشوا مع أقباطها في نسيج وطني واحد ومتماسك منذ الفتح الإسلامي، وعلى مر العصور بلا أدنى مشكلة، ولم يسجل التاريخ خلال قرون الحكم الإسلامي ثورات للأقباط سوى مرات قليلة جدًّا، وكانت لأسباب مادية بحتة، لا علاقة للدين والاضطهاد بها من قريب أو من بعيد.
- لذلك كانت صدمة المسلمين في مصر قاسية ومؤلمة لما رأوا المعلم يعقوب بن حنا التاجر الشهير يضع نفسه وأمواله الطائلة -ولاحظ التشابه بين شخصية يعقوب حنا وأحد المليارديرات النصارى المشهورين اليوم- تحت تصرف الحملة الفرنسية، وشكل فرقة مكونة من ألفين من أقباط مصر التحقت بالجيش الفرنسي وشاركت في محاربة المصريين، وكان لها الدور الأبرز في قمع ثورة القاهرة الثانية سنة 1800م، وهي التي هدمت حي بولاق معقل الثوار على رءوس النساء والأطفال حتى يستسلم الثوار، هذه الصدمة أوجدت ولأول مرة الفتنة الطائفية في مصر.
- هذه الفتنة أخذت تداعياتها يومًا بعد يوم في الازدياد حتى وصل الأمر لئن تكون سببًا مباشرًا للاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م بدعوى حماية الأقباط في أعقاب سلسلة من التوترات الطائفية بدأت بمعركة العربجي والمالطي في الإسكندرية، وسقط خلالها عشرات القتلى والجرحى.
- هذه التقدمة التاريخية لجذور الفتنة الطائفية في مصر تكشف لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن السبب الحقيقي لهذه الفتن في مصر، هو سبب سياسي في المقام الأول، ففي كل مرة كانت تثور فيها فتنة طائفية كانت ثمة دوافع سياسية تقف خلفها، ففرنسا أرادت أن توظفها لتكريس احتلالها لمصر وتقضي بها على ثورة المصريين ضدها، وتفك لحمة الشعب المصري لكسر صموده ورفضه للمحتل الفرنسي..
والإنجليز استخدموا نفس الورقة من أجل تبرير عدوانهم على مصر واحتلالها، وما زالت اللعبة مستمرة، فكل مرة تثور فيها الفتنة الطائفية في مصر تكون السياسة الغائب الحاضر في هذا المشهد البغيض، ومن ثم لا بد من محاولة تفسير أحداث الفتنة الطائفية الأخيرة التي وقعت في مصر تفسيرًا سياسيًّا يضع الأمور في نصابها، ويكشف الأقنعة عن الأدوار المريبة التي تلعبها العديد من الأطراف الموجودة على ساحة الأحداث في مصر.
ومن خلال سياق الأحداث الأخيرة التي وقعت في مصر بعد الثورة نجد أن الفتنة الطائفية قد أصبحت أخطر وأنكى أدوات الثورة المضادة، ومن أكبر معول هدم استقرار وأمن البلاد التي تعاني بالفعل اضطرابًا واهتزازًا داخليًّا من جراء التخلص من آثار العهد البائد، فعلى الرغم من المشهد الوطني الرائع الذي ضربه ثوار التحرير في التعايش والاشتراك والوحدة في الهدف والمصير، إلا أن المشهد سرعان ما تحول إلى صورة درامية ومأساوية تترجمت في سبع مشاهد للفتنة في نواحي متفرقة من البلاد، فسالت الدماء وأزهقت الأرواح واحترقت البنايات، وتفسير الأمر على أنه مجرد عداوة دينية يدفعنا لا محالة نحو هاوية التقسيم الجغرافي على أساس ديني مثلما حدث بين الهند وباكستان قديمًا، وشمال السودان وجنوبه حديثًا.
- إن الوقوف على الأسباب الحقيقية لمثل هذه التوترات الطائفية، يضع روشتة العلاج الصحيحة، ومعرفة أصل الداء هو الطريق الأصوب والأسرع لوضع الدواء، ومن خلال استقراء سير الأحداث في مصر بعد الثورة نستطيع أن نضع محورين لفهم الفتن الطائفية المتكررة في مصر وهي حسب رؤيتنا كالآتي:
المحور الأول: الكنيسة وجلباب مبارك :
- "يا مبارك فينك فينك، السلفيين بينا وبينك"، "يسرقنا يسرقنا بس نعيش في أمن وأمان" هذه عينة من هتافات النصارى المعتصمين أمام القضاء العالي وميدان التحرير وماسبيرو، وهي هتافات تكشف عن الشعور القبطي الحقيقي وليس الإعلامي من رحيل النظام البائد، ففي ظل نظام المشلوح مبارك، كانت الكنيسة المصرية موضع عناية خاصة ومميزة من جانب مبارك وزمرته، وكان كافة المسئولين المصريين يسارعون بتقديم فروض الطاعة والمحبة للبابا شنودة ورعيته..
هذه الرعاية والاهتمام الكبير جعلت الأقلية القبطية في عهد مبارك، واحدة من أسعد وأغنى وأقوى الأقليات على مستوى العالم، وعلى الرغم من الدعايات الكاذبة والأباطيل السمجة التي دأب الأقباط على ترديدها؛ بأنهم مضطهدون من نظام مبارك، إلا أن الواقع يشهد لهم برفاهية غير مسبوقة، وحقوق كثيرة تتجاوز كثيرًا الرقم الفعلي لهذه الأقلية (قرابة الـ6 مليون على أكثر التقديرات تفاؤلاً).
- لذلك كان من الطبيعي أن يكون البابا شنودة من أكثر الناس وفاء لمبارك، فقد حرم على شعبه القبطي الأرثوذكسي! الاشتراك في المظاهرات، والذي شهد مظاهرات ميدان التحرير لم يتجاوز عددهم المائتي متظاهر وجلهم من أتباع الكنائس الأخرى، وبعض الرهبان المعارضين لشنودة.. ولما تنحى مبارك كان شنودة من أشد الناس حزنًا على رحيله، للدرجة التي وصلت لإصابته بالاكتئاب النفسي والسفر للخارج من أجل النقاهة والاستجمام من آثار صدمة تنحي مبارك، كما أنه الوحيد الذي كان يداوم على الاتصال بمبارك في شرم الشيخ والسؤال على أحواله وصحته، عرفانًا منه وشكرًا لمبارك على خدماته الجليلة للشعب القبطي..
وعلى ما يبدو أن رأس الكنيسة المصرية لم يعي جيدًا ما جرى في مصر من ثورة تغيير شاملة، فظل يمارس نفس دوره التحريضي للأقلية القبطية للحفاظ على مكانتها ووضعها الامتيازي أيام مبارك، فالكنيسة أيام مبارك كانت خطًّا أحمر لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه والمساس به، كانت دولة داخل الدولة، كانت فوق القانون، لا يجرؤ أحد على دخولها بصفته الرسمية أبدًا، إلا إذا سمح له البابا بذلك، حتى موظفي الخدمات والمرافق العامة لا يستطيع أحد منهم أن يطالب الكنيسة، أي كنيسة، بقراءة عدادات أو سداد فواتير أو متابعة أداء، لأنها كانت فوق الجميع..
الكنيسة كانت فوق أحكام القانون، لا تطبق عليها أية أحكام قضائية مهما كانت درجة المحكمة التي أصدرت تلك الأحكام، لأنها ببساطة كانت دولة داخل الدولة، وبالتالي لما أرادت الحكومة والأجهزة الأمنية والسياسية أن تمارس دورها الجديد في متابعة سائر مؤسسات الدولة وهيئاتها القائمة بما فيها المؤسسات الدينية ومنها الكنيسة، أظهرت الكنيسة رفضًا لذلك بشدة، فعندما استدعت النيابة العامة كاميليا شحاتة مفجرة الأحداث الأخيرة للتحقيق، رفضت الكنيسة الأمر القضائي، إذ كيف ينفذونه وهم فوق القانون..
وحادثة إمبابة الأخيرة التي فجرها في الأساس رفض كهنة الكنيسة دخول رجال الأمن ومن معهم من المسلمين لتفتيش المبنى الإداري التابع للكنيسة، بنفس المنطق السقيم، نحن فوق الدولة والقانون، فدفاع الكنيسة المستميت على مكانتها ونفوذها واستقلاليتها عن الدولة هو الذي يقود لحدوث مثل هذه الاستفزازات التي تؤدي بدورها لأمثال هذه الفتن البغيضة، بل يقود لدرجة التآمر على الدولة والاستقواء بالخارج، وهو أمر في غاية الخطورة، ولا ينبغي أن يمر بسلام، وعلى المجلس العسكري التصدي بحزم لهؤلاء الذين اعتصموا أمام السفارة الأمريكية طلبًا للتدخل الأمريكي؛ لأن هذا الاعتصام ما هو إلا مشروع خيانة للدولة والوطن لا بد أن يئده العقلاء مبكرًا.
المحور الثاني: تأجيل الانتخابات :
- المتابع لدفتر أحوال مصر بعد الثورة يلمح تحولاً جذريًّا في الصراع بين القوى السياسية الموجودة على الساحة، هذا التحول قد بدأ بعد نتيجة التعديلات الدستورية والتي أظهرت اكتساحًا للتيار الإسلامي المصوت بنعم، أمام التيار العلماني والكنيسة المصرية المصوت بلا، بصورة كشفت عن الحجم الحقيقي لكل فريق، ومدى تأثيره في الشارع والناخب المصري، فبعد ظهور النتيجة اندلعت سلسلة متواصلة من الهجوم الإعلامي الشرس ضد التيار الإسلامي ممثلاً في التيار السلفي على وجه الخصوص، لأسباب قد يكون التيار السلفي نفسه جزءًا منها، كما سبق وأسلفنا في مقالة "التفسير السياسي في الهجوم على السلفية".
- الهجوم العلماني الشرس الذي أخذت وتيرته في التزايد يومًا بعد يوم، كان يهدف في النهاية للوصول إلى نتيجة محددة وهي حتمية تأجيل الانتخابات التشريعية المزمع عقدها في سبتمبر القادم، لأن استحقاقات عقد الانتخابات في هذا الموعد كانت ستأتي بمجلس يسيطر عليه الإسلاميون تمامًا، ومما أجج مخاوف العلمانيين والكنيسة من مستقبل النفوذ العلماني والكنسي في مصر، تراجع الإخوان عن وعدهم السابق بأنهم سيخوضوا الانتخابات بنسبة 30% من الكراسي، حيث أعلن الإخوان بأنهم سيخوضون الانتخابات بنسبة 50%، هذا غير الدوائر التي سينافس عليها السلفيون والجماعة الإسلامية والمستقلون..
وكما هو معروف أن الثقل الانتخابي للإخوان متمركز في شمال البلاد، في حين أن الثقل الانتخابي للسلفيين والجماعة الإسلامية متمركز في الجنوب، والمحصلة أن أكثر من 60% من المجلس سيكون في قبضة الإسلاميين، وبالتالي سينعكس ذلك على تشكيلة الحكومة، وكتابة الدستور، والرئيس الجديد للبلاد، لذلك فإن تحالف العلمانيين والكنيسة بما يملكونه من أدوات التأثير ووسائل الإعلام المتنوعة سيعملون جميعًا على الدفع ناحية التصعيد وتوتر العلاقات بين الأقباط والمسلمين..
والناظر لأهم الصحف والمواقع الإلكترونية التي لها دور كبير في التأثير والتهييج نجدها مملوكة لرجال أعمال أقباط من المعروفين بعداوتهم الشديدة للتيارات الإسلامية، فمثلا: المصري اليوم واليوم السابع وقناة otv، مملوكة لساويرس، والدستور مملوكة لرضا إدوار، هذه الوسائل تستخدم لتأجيج الفتنة، وإبراز الجاني في صورة الضحية، والتعتيم على الأخبار التي تفضح موقف الكنيسة والأقباط، فمثلاً مذبحة كرداسة التي ذبحت فيها أسرة مسلمة بأكملها على يد أقباط بسبب إسلام فتاة منهم، جرى التعتيم عليها تمامًا..
في حين أن الفتنة التي وقعت في أبي قرقاص بالصعيد تسبب فيها نصراني اسمه (علاء رضا) كتب اسمه في موقع اليوم السابع وصحف ساويرس باسم (علاء الدين رضا) ليوحي للقارئ أنه مسلم، في حين أنه قبطي وقتل اثنين من المسلمين، وأحداث إمبابة والأخيرة لم يكن للسلفيين فيها ناقة ولا جمل، والنصارى هم من خطف الفتاة المسلمة، وهم من بدأ بإطلاق النار، وهم من قام بقطع الطرق بعد ذلك، ثم يخرج سيناريو الحادث بصورة مغايرة تمامًا ليصبح المسلمون هم المدانون والمجرمون..
ولا تجرؤ صحيفة واحدة على إثارة تساؤلات من جنس: من أين أتى السلاح الكثيف المخزن في الكنيسة؟ ولماذا خطفوا الفتاة؟ ولماذا أطلقوا النار على وفد التهدئة؟ ولماذا حتى الآن لا تنفذ أحكام القضاء؟ وأسئلة كثيرة سكتت عليها وسائل الإعلام المأجورة التي ما زالت لا تجيد إلا دور المحرض الخبيث.
حقيقة نحن الآن أمام اختبار مصيري يحدد بصورة كبيرة شكل مصر في المرحلة القادمة، والمجلس العسكري بوصفه متوليًا لزمام الأمور في مصر، عليه تبعة كبيرة، فالتيار العلماني والكنيسة مدعومين بأجندة خارجية يدفعان البلد ناحية الهاوية، وكلاهما ما زال يعيش في أجواء الحكم البائد، حيث كانت للمكائد والمؤامرات والتحريض سوق رائجة، وما المؤتمر الذي عقد بالأمس برياسة الاستشاري "ممدوح حمزة" أحد أقطاب الليبرالية في مصر، والذي ضم غلاة العلمانيين من كل مشرب ومذهب، ومهاجمة المجلس العسكري والضغط عليه من أجل إعلان علمانية الدولة باسم "المدنية"، ببعيد عما يجري من محاولات فرض الأجندة العلمانية على مصر المسلمة..
والمجلس العسكري لا بد أن يلتفت جيدًا لمحاولات الكنيسة الإبقاء على نفوذها ومكانتها السامية أيام مبارك، حيث الدولة داخل الدولة والخط الأحمر الذي لا يقترب منه أحد، ولا ننسى أن نذكر المجلس العسكري أن السماح للعلمانيين وبابا الكنيسة بتحقيق أجندتهم الخاصة في زعزعة استقرار مصر واستهداف أمنها سيعيد البلاد حتمًا مرة أخرى لأيام النظام البائد، وهي أيام لو قدر لها وعادت لباطن الأرض خير من ظهرها حينها.