بحث عن كعب بن مالك - بحث علمى عن كعب بن مالك,سيرة كعب بن مالك جهاد بالسيف والكلمة
لا يختلف مؤرخو الأدب على أن كعب بن مالك الأنصاري كان أحد الشعراء الثلاثة الكبار الذين جاهدوا في سبيل الدعوة الإسلامية ووقفوا إلى جانب الدين الجديد، وناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودافعوا عنه في مواجهة الهجمات الشرسة المسعورة التي قادها ضده شعراء الوثنية والشرك في مكة، أما الشاعران الآخران فهما حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة.
وكعب بن مالك شاعر خزرجي، فأبوه مالك بن أبي كعب، وأمه ليلى بنت زيد بن ثعلبة، وكلاهما، الأب والأم، من بني سلمة من الخزرج.
ولم يعثر مؤرخو الأدب المعاصرون على شعر ينسب لكعب بن مالك في الجاهلية، ويرى البعض أن شعره الجاهلي ضاع مع ما ضاع من شعر غيره من الشعراء، ويرى آخرون عدم وجود شعر له في الجاهلية يستحق التسجيل، لكن ما رواه ابن هشام عن كعب بن مالك يؤكد أنه كان شاعرا معروفا في الجاهلية. حيث يروى ان كعباً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه قبل الهجرة ومعه أحد الأنصار، وكان العباس يجلس إلى جوار النبي، يقول كعب: دخلنا فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا فضل؟ قال نعم: هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟
قال: نعم.
وتحدثنا الروايات أن معظم المؤرخين ذكروا أن كعبا توفي حوالي سنة خمسين هجرية عن سبعة وسبعين عاما، ومعنى ذلك أنه ولد قبل الهجرة بحوالي سبعة وعشرين عاما.
يقول الشاعر والأديب صلاح الدين السباعي: إذا صح ما رواه ابن هشام وصح معه أن كعبا عاش سبعة وسبعين عاما، وأنه توفي سنة خمسين هجرية فمعنى ذلك أننا أمام شاعر يتمتع بموهبة نادرة كشفت عن نفسها في مرحلة مبكرة جدا من حياته، وأتاحت لصاحبها أن يعبر من خلالها عن أفكاره وأحاسيسه بشعره قبل الإسلام، وهو بلا شك شعر بلغ من الجودة درجة نقلته خارج حدود المدينة وحققت له من الذيوع والانتشار على ألسنة الرواة ما حمله إلى مكة، وأتاح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرفه، وأن يستفسر عن شخصية صاحبه.
وهذا يدعم الرأي القائل إن لكعب شعرا جيدا قبل إسلامه، وان هذا الشعر قد فقد كما فقد كثير من إنتاج الشعراء العرب.
دفاع عن الحق
ما يهمنا هنا هو إنتاج كعب بن مالك بعد أن هداه الله إلى الإسلام، وفي ديوان كعب الذي حققه الأديب الدكتور سامي مكي نجد أنفسنا أمام شعر لا يكاد صاحبه يخرج به عن الدائرة الإسلامية إلا نادرا فالمحور الأساسي الذي يدور عليه معظم ما في الديوان من شعر هو الإسلام بشرائعه وتعاليمه وقيمه الإنسانية العليا.
ففي قول كعب على سبيل المثال:
وكان رسول الله قد قال أقبلوا
فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
تأثر بالمعنى القرآني في قول الحق سبحانه “وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب”.
وكذلك قوله:
بأن الله ليس له شريك
وأن الله مولى المؤمنينا
مأخوذ من قوله تعالى: “لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين”.
وقوله تعالى: “والله ولي المؤمنين”.
أما قوله:
نطيع نبينا ونطيع ربا
هو الرحمن كان بنا رؤوفا
فقد نظر فيه إلى قوله تعالى: “ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد”.
ولعل شيوع المعاني الإسلامية في شعر كعب، كما يقول صلاح الدين السباعي، كان يرجع إلى إيمانه القوي من ناحية وإلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرشده إلى هذه المعاني من ناحية أخرى، وكان كعب شديد الاعتزاز بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراه يفتخر بذلك قائلا: “ما أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا في شعره غيري”.
ومن أمثلة ذلك أن كعبا عندما افتخر بأن قومه يدافعون عن دينهم بالكتائب العظيمة التي اعتادت القتال وذلك في قوله:
مدافعنا عن ديننا كل فخمة
مذربة فيها القوانس تلمع
فإن صدر البيت كان “مدافعنا عن جذمنا كل فخمة” فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام كما جاء في الأغاني لا تقل عن جذمنا ولكن قل عن ديننا.
وهكذا خرج البيت بفضل توجيه النبي من دائرة الروح الجاهلية التي تعتمد في الفخر على الأنساب إلى الروح الإسلامية التي تعتمد على الدفاع عن العقيدة والقيم الفاضلة.
وكما سيطرت المعاني الإسلامية على شعر كعب فإن ألفاظه وعباراته كانت متأثرة إلى حد كبير بالمعجم الإسلامي والمصطلحات الجديدة التي استحدثها الإسلام.
ومن ذلك مثلا قوله:
نصرنا رسول الله إذ حل بيننا
وبيض اليماني المثقفة السمر
ولفظ النبوة في قوله:
قرم تمكن من ذؤابة هاشم
حيث النبوة والندى والسؤدد
ولفظ “جهنم” ولفظ “الجنان” في قوله:
شتان من هو في جهنم ثاويا
أبدا ومن هو في الجنان مخلد
ولفظ “كفور” في قوله:
فأمسوا وفود النار في مستقرها
وكل كفور في جهنم صائر.
منزلة رفيعة
ولكعب بن مالك منزلة شعرية رفيعة جعلته موضع اهتمام المشتغلين بالأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا، وقد شهد له القدماء بعلو المنزلة ووصفوا شعره بالجودة، فقد قرر ابن سلام انه أحد شعراء الخزرج الفحول، ووصفه بأنه شاعر مجيد، وقال عنه ابن عبد البر: إن له أشعارا حسانا جدا في المغازي وغيرها، كما وصفه البغدادي بأنه شاعر مطبوع، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تستحسن شعره وترويه.
وأمام إجماع القدماء على أن شعر كعب يتسم بالجودة، فلعله من المفيد أن ننتقل بين عدد من قصائده نستمتع بما في أبياتها من رقة وعذوبة وبما تحمله إلينا عبر الزمن من أصداء جليلة، ونفحات عطرة، وإشعاعات مقدسة أشرقت على العالم مع بزوغ فجر الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.. قال في يوم أُحد:
أبلغ قريشا وخير القول أصدقه
والصدق عند ذوي الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم
أهل اللواء ففيم يكثر القيل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا
والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفها
فرأي من خالف الإسلام تضليل
وقال في يوم الخندق:
لقد علم الأحزاب حين تألبوا
علينا وراموا ديننا ما نوادع
يذودوننا عن ديننا ونذودهم
عن الكفر والرحمن راء وسامع
إذا غايظونا في مقام أعاننا
على غيظهم نصر من الله واسع
وذلك حفظ الله فينا وفضله
علينا ومن لم يحفظ الله ضائع
هدانا لدين الحق واختاره لنا
ولله فوق الصانعين صنائع
وقال في الفخر:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا
حب النبي محمد إيانا
وقال أيضا:
ونحن أناس لا نرى القتل سبة
على كل من يحمي الذمار ويمنع
ولكننا نقلي الفرار ولا نرى
الفرار لمن يرجو العواقب ينفع
جلاد على ريب الحوادث لا ترى
على هالك عينا لنا الدهر تدمع
وقال يرثي الرسول صلى الله عليه وسلم:
وباكية حراء تحزن بالبكا
وتلطم منها خدها والمقلدا
على هالك بعد النبي محمد
ولو علمت لم تبك إلا محمدا
فجعنا بخير الناس حيا وميتا
وأدناه من رب البرية مقعدا
لقد ورثت أخلاقه المجد والتقى
فلم تلقه إلا رشيدا ومرشدا
وقال يرثي حمزة:
ولقد هددت لفقد حمزة هدة
ظلت بنات الجوف منها ترعد
ولو انه فجعت حراء بمثله
لرأيت رأس صخورها يتبدد
وكما كان كعب بن مالك شاعرا فذا كان قائدا شجاعا، فقد شارك في معظم غزوات الرسول عليه السلام ما عدا غزوتي بدر وتبوك.
كما كان كعب بن مالك صحابيا جليلا يروي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام ومجاهدا صادقا في ذوده عن النبي، ومقاتلا جريئا مخلصا في الدفاع عن الإسلام من خلال العديد من الغزوات التي شارك فيها.
التائب الصادق
كعب بن مالك
إنه الصحابي الجليل كعب بن مالك -رضي الله عنه-، صاحب التوبة الصادقة، وكان كعب قد أسلم حين سمع بالإسلام، فأتى مكة، وبايع النبي ( في بيعة العقبة الثانية، فلما هاجر الرسول ( وأصحابه آخى النبي بينه وبين طلحة بن عبيد الله.
وكان كعب شاعرًا مجيدًا، وخاصة في مجال المغازي والحروب الإسلامية، وكان واحدًا من شعراء الرسول ( الثلاثة الذين يردون عنه الأذى بقصائدهم، وهم: كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، فكان كعب يخوفهم بالحرب، وكان حسان يهجوهم بالأنساب، وكان عبد الله يعيرهم بالكفر.
وقد جاء كعب إلى النبي ( فقال: يا رسول الله، ماذا ترى في الشعر؟ فقال رسول الله (: (المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه)
[ابن عبد البر].
وكان لكعب مواقف مشهودة في غزوة أحد، حين دعاه النبي ( وألبسه ملابسه التي يلبسها في الحرب، ولبس النبي ( ملابس كعب الحربية، يقول كعب: لما انكشفنا يوم أحد كنت أول من عرف رسول الله ( وبشرت به المؤمنين حيًّا سويًّا، وأنا في الشِّعْب، وقد جرح سبعة عشر جرحًا. [ابن هشام]، وكان المشركون يوجهون إليه السهام ظنًّا منهم أنه رسول الله (.
وكان كعب قد تخلف عن غزوة تبوك التي سمي جيشها بجيش العسرة، والسبب في هذه التسمية أن المسلمين مروا بصعوبات كثيرة في تمويل الجيش؛ حيث إن العدد كان كبيرًا، وعدتهم كانت ضئيلة، وقد تخلف المنافقون عن هذه الغزوة بدون أعذار.
ولما عاد المسلمون إلى المدينة دخل الرسول ( إلى المسجد أولا، وصلَّى فيه ركعتين، فدخل عليه المنافقون الذين تخلفوا عن الجهاد مع النبي (، وبدءوا يكذبون على الرسول (، ويتعللون بأعذار واهية.
ولكن كعبًا لم يكذب على النبي (، وأقر بذنبه وتقصيره في حق الله وتكاسله عن الجهاد، وفعل مثله هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، وكانا قد تخلفا أيضًا.
وبعدما سمع النبي ( كلام كعب، أمر المسلمين أن يقاطعوه وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر، فلم يكلمهم أحد من المسلمين، ولم يتعاملوا معهم.
فجلس الاثنان كل منهما في بيته يبكيان، أما كعب فلم يحبس نفسه مثلهما، بل كان يخرج للصلاة، وكان إذا سار في السوق أو غيره لا يتحدث معه أحد، وكان لكعب ابن عم يحبه حبًّا شديدًا هو الصحابي الجليل أبو قتادة -رضي الله عنه-، ولما اشتد الأمر بكعب، ذهب إلى ابن عمه أبي قتادة في بستانه وألقى عليه السلام، ولكن أبا قتادة لم يرد عليه، فقال له كعب: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله (؟ فلم يرد عليه أبو قتادة، فكرر كعب السؤال، فقال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب بالدموع وتركه.
وذات يوم، ذهب كعب إلى السوق، فإذا برجل نصراني من الشام يسأل عنه، وعندما قابله أعطاه النصراني رسالة من ملك غسان، فقرأها كعب ووجد فيها: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك محمدًا جفاك، (هجرك وتركك) ولم يجعلك الله بدار مذلة أو هوان، فالحق بنا نواسك.
وبعد أن قرأ كعب الرسالة قال في نفسه: والله إن هذه أيضا من الفتنة والابتلاء، ثم ألقى بالرسالة في النار.
ومضى على كعب وصاحبيه أربعون يومًا، وهم على تلك الحالة من الندم والبكاء والمقاطعة الكاملة من كل المسلمين، وبعدها أمرهم النبي ( أن يهجروا زوجاتهم، وظلوا على هذه الحالة عشرة أيام.
وبعد خمسين يومًا جاء الفرج، ونزلت التوبة من الله على هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين لم يكذبوا على رسول الله (، فبعد أن صلى كعب صلاة الفجر، جلس بمفرده، فسمع صوتًا ينادى من بعيد: يا كعب، أبشر يا كعب، فلما سمعها كعب خرَّ ساجدًا لله -عز وجل-، وعلم أن الله قد تاب عليه، وبلغ من شدة فرحته أنه خلع ثوبه وألبسه للرجل الذي بشره، ثم انطلق مسرعًا إلى النبي ( في المسجد، فاستقبله الصحابة وهم سعداء، وقام
طلحة بن عبيد الله من بين الحاضرين جميعًا وأسرع ليهنئ كعبًا، فلم ينسها له كعب أبدًا، وتبسم له الرسول ( وقال له: (أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك) [البخاري]، وأنزل الله فيه وفي صاحبيه قرآنًا، قال تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب} [التوبة: 118].
وكان كعب -رضي الله عنه- يقول: والله، ما مر عليَّ يوم كان خيرًا ولا أحب إليَّ من ذلك اليوم الذي بشرت فيه بتوبة الله تعالى عليَّ وعلى صاحبيّ، ثم قال للرسول (: إن من توبتي أن أتصدق بمالي كله لله ولرسوله، فقال له النبي (: (أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك) [البخاري]، فقال كعب: يا رسول الله، إن الله تعالى أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث أحسن مما ابتلاني.
وكان كعب يقول بعد ذلك: ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ( إلى يومي هذا شيئًا من الكذب، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى بقية عمري.
وكان كعب -رضي الله عنه- يقول: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أمام رسول الله ( أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فقد قال الله تعالى: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنه إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءً بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 95-96].
وهكذا كان صدق كعب سببًا في نجاته، وقبول توبة الله عليه، بينما أهلك الله المنافقين الذين كذبوا على رسول الله (، واعتذروا بالباطل، فجعلهم الله من أهل النار.
وظل كعب يجاهد في سبيل الله، ولا يتخلف عن حرب أبدًا، فحارب المرتدين في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وشارك في الفتوحات الإسلامية على عهد الفاروق عمر، وكذلك في خلافة كل من عثمان وعليّ وأول خلافة معاوية -رضي الله عنهم-، وظل على صدق إيمانه وقوة عقيدته.
وتوفي -رضي الله عنه- بالشام في خلافة معاوية سنة (50هـ) وقيل سنة
(53 هـ)، وعمره آنذاك (77) سنة ويقال: إن الله سبحانه قد ابتلاه بفقد بصره قبل وفاته، فصبر لذلك حتى ينعم بما عند الله من الجنة.
وقد روى كعب بن مالك ثلاثين حديثًا من أحاديث رسول الله (، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
موقف الإسلام من الشعر
كثيرا ما نسمع بعض الناس يردد أقوالا مفادها أن الإسلام وقف موقف المناويء من الشعر ، وان القران هاجم الشعراء لأنهم لبسوا ثابتين على العقيدة ، وأن أهواءهم تقودهم ، لكن الواقع ليس كذلك ، فعندما جاء الإسلام ، انقسم الشعراء تجاهه إلى فريقين : الفريق الأول امن به وآزره ، ودعا إلى تبني مباديء الإسلام في شعره ، والفريق الثاني وقف ضده مدافعا عن المباديء الجاهلية التي كانت سائدة حينذاك شاهرا سلاحه الشعري ضد انتصارات الدين الجديد ، وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية ودينية ،، وقد كان الفريق الأول يمثله الشعراء المسلمون الأوائل لاسيما شعراء المدينة الأنصار الذين نصروا النبي وآزروه والمهاجرين معه وآخى الرسول الكريم بين اهل المدينة المنورة وبين ضيوفهم المهاجرين وكان على راس شعراء الفريق الأول ثلاثة شعراء هم : حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة
ويمثل الفريق الثاني الشعراء الذين اثروا عدم الإسلام وهم شعراء قريش أمثال :
عبد الله بن الربعري وأبي سفيان بن الحارث وهبيرة بن أبي وهب ، ويؤيدهم في هذا الموقف شعراء اليهود الذين نكثوا عهدهم مع الرسول في حسن الجوار مثل كعب بن الاشرف والربيع بن الحقيق ومرحب اليهودي ، بالإضافة الى شعراء بعض القبائل العربية التي كانت حليفة لقريش مثل أمية بن أبي الصلت الثقفي
والإسلام مثلما هاجم بعض الشعراء لموقفهم المعادي لمبادئه وتعاليمه ، فانه اتخذ موقف المناصر والمشجع للشعراء الذين دافعوا عنه ووقفوا يصدون عنه هجوم الأعداء ، وهذا يعني أن الدين الإسلامي اتخذ ومنذ البداية مواقف تنسجم وطبيعة المرحلة التي يمر بها .... فالمواقف الإسلامية مع الشعر أو ضده حتمته المباديء
فمناصرة شعراء معينين ومعاداة شعراء آخرين لم تكن اعتباطية أو عشوائية ، بل كانت ملائمة مع الظروف السائدة يومئذ
الدين الإسلامي هاجم نوعا من الشعر في مرحلة محددة وهي مرحلة بداية الإسلام في المدينة المنورة ، حيث اتهم المشركون الرسول الكريم ( ص ) بأنه شاعر وبان حديثه شعر وانه واضع للقران ، والإسلام حينما هاجم هؤلاء لم ينه عن قول الشعر ، لكنه اتسم بالتوجيه الأخلاقي وبكثرة التهذيب لأتباعه ، والحث على مكارم الأخلاق ، لهذا يمكننا أن نقول انه شجع الشعر مع التوجيه على الخلق الرفيع والابتعاد عن سفا سف الأمور وصغائرها ، وذلك حسب مقتضيات الأحوال وطبيعة الأحداث التي رافقت الدعوة الإسلامية ، فلا يمكن النظر إلى الشعر بمعزل عن الظروف الأخرى التي أحاطت بالدين الإسلامي
لقد فند الإسلام اتهامات الأعداء للرسول الكريم بأنه من كتب القران ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ، إن هو إلا ذكر وقران مبين ) كما انه رد على موقف الشعراء المعادي بقوله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ، الم تر أنهم في كل واد يهيمون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ) نجد القران الكريم يستثني الذين امنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد تعرضهم للظلم من هجومه والقران الكريم في معرض رده على دعاوى الأعداء ( بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ) هذه الآيات تعتبر دفاعا عن القران ضد مزاعمهم انه شعر ، فهو لم يكن شعرا ، والرسول الكريم ليس بشاعر ، ولكن لماذا يحرص القران على تفنيد المزاعم القائلة بان الرسول شاعر ؟ لأن من طبيعة الشعراء المغالاة والعاطفية وأنهم يقولون ما يفعلون ، فهم يتصفون بالغلو والمبالغة ومجانبة الصواب في أكثر شعرهم ، وقد قيل بان أعذب الشعر أكذبه والكذب صفة ذميمة برأ الله رسوله الأمين الصادق منها ، ولو كان الرسول شاعرا كما ادعى المتقولون لنسب العرب بلاغته الكبيرة في تبليغ الدعوة إلى ملكة الشعر أو شيطانه ، ولا صبحوا مصيبين باتهامهم محمدا بالشعر ، فلم يرو المؤرخون بان الرسول قد نظم شعرا مع انه أفصح العرب وأشدهم بلاغة ( إني أفصح العرب بيد أني من قريش )
كان شعراء المدينة الأنصار من أشهر من وقف مع الرسول ضمن الفريق الأول ، كان حسان وكعب يردان على شعراء المهاجمين ويدافعان عن الدين الإسلامي بمثل الطريقة القديمة في الفخر والمدح والهجاء أي بذكر الوقائع والايام والماثر والأنساب ويعيرانهم بالمثالب .... أما عبد الله بن رواحة فكان يعير بالكفر وعبادة الأوثان ، فكان شعر حسان وكعب شديدا على الأعداء قبل إسلامهم ، وكان شعر عبد الله بن رواحة سهلا عليهم ، فلما أسلموا ، وفقهوا الدين تغيرت وجهات نظرهم فأصبح أشد القول عليهم شعر ابن رواحة
احتدم الصراع وأضطرم بين الفريقين المتصارعين ، وحين تم نصر الله ، وفتحت مكة دخل معظم الشعراء العرب إلى الدين الإسلامي يدافعون عنه ضد أعدائه ، ظهر بعض اللين والضعف في المستوى الفني للشعر الإسلامي ، ومرد ذلك ان الشعراء في تلك المرحلة كانوا دون مستوى الحدث ، فلم يوفقوا كثيرا في تمثل القيم الجديدة والمباديء الناصعة التي أتى بها الإسلام ، وكان لهذا أثره في خمول الشعر وضعفه ، إذا ما قورن بشعر ما قبل الإسلام ، ولهذا الضعف أسباب عديدة منها انشغال الناس بالقران وبلاغته وسمو كلماته ، وشعور المسلمين بالعجز عن مجاراته ، سواء بالشكل أو المضمون ، فانصرفوا عن قول الشعر ، وهذا ما يذكره ابن خلدون في مقدمته ، حيث يذكر ما معناه أن العرب انصرفوا عن قول الشعر أول الإسلام لانشغالهم بأمور الدين والنبوة ولاندهاشهم بأسلوب القران ونظمه ، كما إن المسلمين الذين ملأ الإيمان قلوبهم تحرجوا من النظم خشية أن ينالهم غضب الله ( الشعراء يتبعهم الغاوون ) فاثر بعض الشعراء الصمت مثل لبيد والنابغة الجعدي ، وبعضهم ضعف شعره ، لأنه ابتعد عن الهجاء المقذع والفخر الفاحش والمديح الكاذب ، والإسلام قد أبطل الدوافع الجاهلية التي تنشط الشعر ونهى عنها
إذا ما درسنا الشعر إبان تلك الفترة وجدنا بونا شاسعا بين نظم شعراء معينين في عصر ما قبل الإسلام ونظم قالوه هم أنفسهم في عصر صدر الإسلام من حيث القوة والمستوى الفني ، ومع ذلك ان هذا الكلام لايعني أن الإسلام حارب الشعر أو نهى عنه كما ذهب بعضهم مستندين إلى بعض الآيات من القران الكريم ، فان الشعر لم يحارب لذاته ، وإنما حورب بعضه ، ذلك الذي اعتمد على الأهواء والانفعالات
القضية إذن فيم يتناول الشعراء من المعاني والأغراض وقد قال الرسول : ( إنما الشعر كلام مؤلف ، فما وافق الحق فهو حسن ، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه ) أما الحديث الذي تناوله الرواة على انه تعبير معاد للشعر ونصه( لئن يمتليء جوف أحدكم قيحا ودما خير من أن يمتليء شعرا ) فان الحديث لم يرو كاملا وتكملته ( هجيت به ) وفي هذه التكملة يتضح جليا موقف الرسول من الشعر فهو لم ينه عنه ، إنما نهى عن لون معين وعن موضوعات خاصة تقوم على هجائه الذي يعني هجاء الدعوة ومحاربة الدين
من الطبيعي أن يصرف الإسلام الشعراء عن شعر العصبية وإثارة البغضاء والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد كما نهى عن الشعر الماجن البعيد عن الفضيلة ، ويمكن أن نخلص إلى القول إن الرسول أقر قول الشعر وحث عليه وأثنى على شعراء الدعوة المناصرين لها.