المبحث الثالث:-
من أضرار الربا في قروض الحكومات من أهالي بلادها
وهذه القروض هي التي تأخذها الحكومات من أهالي بلادها لأغراض مثمرة أو غير مثمرة.
فهي على قسمين: نوع يكون لأغراض غير مثمرة ونوع يكون لأغراض مثمرة([36]).
ونتناول الآن كل قسم بالبحث لنعرف مضار الربا فيه:-
المطلب الأول
في قروض الحكومات من أهالي بلادها لأغراض غير مثمرة:-
كالحروب: أما هذا النوع فإن الربا عليه لا يختلف في شكله من الربا الذي يتقاضاه المرابون من مدينيهم الأفراد، بل هو شر منه وأكثر قذراً لأنه ليس معنى هذا النوع من الربا إلا أن ثمة رجلاً من كفله المجتمع ورباه وأخذ بيده حتى أصبح قادراً على الكسب ودافع عنه الأخطار وحماه من المضار والخسائر، وقام نظامه المدني والسياسي والاقتصادي بجميع الخدمات التي تيسر له أن يكسب معاشه وهو آمن وداع فأصبح يأبى أن يقرض مجتمعه شيئاً من ماله بغير الربا، حتى ولا عند الحاجات التي ليس من شأنها أن ترجع بشيء من الربح المالي، والتي تتوقف على تحققها مصلحته نفسه مع مصلحة غيره من أبناء المجتمع.
تراه يقول لمجتمعه الذي كفله ورباه : لا بد لي أن اتقاضاك أجري سنوياً على ما تقترض مني من المال، سواء أكسبت منه ربحاً أم لم تكسب.
أَقْذِرْ بهذا الوضع من المعاملة وأَبْشِعْ عندما تتعرض البلاد لحرب، ويمسي نفس هذا المرابي وماله وعرضه مع نفوس غيره من أفراد المجتمع وأموالهم وأعراضهم عرضة للخطر.
ومن المعلوم أن كل شيء في الخزانة ينفق في مثل هذه الحالات، وأنه لا ينفق لغرض ينحصر في نجاحه أو إخفاقه موت هذا المرابي وحياته أيضاً مع موت سائر أفراد المجتمع وحياتهم.
ومن أجل ذلك يكون جميع أفراد المجتمع يضحون فيه بمهجهم وأرواحهم وأوقاتهم وجهودهم ولا يتساءل أحد منهم عما سينال من الربح سنوياً على ما يبذل من روحه وأوقاته وجهوده للدفاع عن البلاد، إلا هذا المرابي فإنه يرفع رأسه من جمعهم ولا يرضى بإقراض شيء من ماله إلا على شرط أن ينال الربح على ماله بحساب كذا وكذا في المائة سنوياً، وألا يزال يناله مادامت الأمة بجميع أفرادها لا تصفيه حسابه وتؤدي إليه آخر قرش من رأس ماله ولو طالت هذه المدة إلى قرن كامل بل إلى عدة قرون، ويصر على أن ينهال هذا الربح على خزنته حتى من جيوب أولئك الذين يجرحون لدفاعهم عن بلادهم في أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم، ويصابون في أولادهم وإخوانهم وأزواجهم عبثاً فهل تستحق مثل هذه الفئة أن يكفلها المجتمع ويسمنها بإيكالها الربا؟!!([37]).
المطلب الثاني
من أضرار الربا في قروض الحكومات من أهالي بلادها لأغراض مثمرة:-
يتسبب الربا في هذا النوع من القروض في مضار وخيمة في اقتصاد البلاد منها ما يلي:-
1. إصابة الحكومات بأزمات مالية شديدة:-
إن القروض التي تأخذها الحكومات لأغراضها المثمرة، تأخذها عامة لآجال طويلة، ولكن لا تكون أي حكومة، عندما تأخذ هذه القروض بسعر سنوي معين، على علم بما سيطرأ على أحوال بلادها الداخلي والشؤون الدولية الخارجية من التطورات والحوادث خلال العشرين أو الثلاثين سنة الآتية، ولا تدري هل ستعود عليها هذه الأغراض التي تأخذ لها هذه القروض بشيء من الربح أم لا؟.
وكثيراً ما تخطئ هذه الحكومات في مقاييسها وقلما تعود عليها مشاريعها وأعمالها بالربح على حسب سعر الربا فضلاً عن أن تعود عليها بربح أكثر.
فكل هذا من الأسباب الهامة والعوامل الأساسية التي تصيب الحكومات بأزمات مالية شديدة يستعصي عليها معها إيفاء رأس المال الديون السالفة وأقساط الربا فضلاً عن أن تنفق مزيداً من المال على مشاريع مثمرة جديدة([38]).
2. عدم إنفاق الحكومة الأموال في مشاريع مفيدة إن كانت نسبة ربحها أقل من الربا المفروض عليها:-
إن سعر الربا في السوق يقرر حداً للربح من المال، لا تستعد أي حكومة أن تنفق أموالها في عمل يرجع عليها بربح دونه، ولو كان ذلك العمل في منتهى الإفادة والنفع بالنسبة للجمهور في البلاد، فعمارة البقاع غير العامرة وإصلاح الأراضي القاحلة، وتهيئة الماء للري في البقاع الجدبة، وإنشاء الشوارع في القرى وحفظ صحة سكانها… وما إلى هذا من الأعمال النافعة الأخرى بالنسبة للبلاد وعامة سكانها، فمهما تكن بالغة في أهميتها في حد ذاته ومهما يلحق بالبلاد من الضرر بعدم وجودها، فإن أي حكومة لا تكاد تنفق فيها شيئاً من مالها مادامت لا ترجوا منها ربحاً مساوياً لسعر الربا في السوق أو أكثر منه([39]).
3. فرض الضرائب والمكوس على أهالي البلاد:-
إن الحقيقة في باب مثل هذه الأعمال والمشاريع التي تستقرض الحكومة المال بالربا للإنفاق فيها أن الحكومة إنما تلقي وزر رباها على عامة أهالي البلاد وتستجلبه من جيب كل واحد منهم بفرض الضرائب والمكوس عليهم ولا تزال تؤدى إلى الرأسماليين إلى مدة مديدة من الزمن آلافاً مؤلفة من الليرات في كل سنة.
فإذا كانت الحكومة تشرع اليوم مثلاً في مشروع كبير للري، وتنفق فيه خمسين مليون ليرة باستقراضها بسعر (6%)، فعليها – بحكم هذا الحساب- أن تؤدي في كل سنة ثلاثة ملايين من الليرات إلى الرأسماليين.
ومن الظاهر أن ليس بيد الحكومة ينبوع ينفجر لها بمثل هذا القدر الكبير من المال فهي تلقي وزره على الفلاحين الذين ينتفعون من هذا المشروع، ولا بد –على هذا- أن يكون هناك في كل ما يؤدي هؤلاء الفلاحون إلى الحكومة من المال جزء لأداء هذا الربا.
كما أن الظاهر كذلك أن هؤلاء الفلاحين لا يؤدون هذا الربا من جيوب أنفسهم، بل يلقون وزره على قيمة حاصل أراضيهم كأن هذا الربا يُؤخذ على وجه غير مباشر من كل من يشتري الغلة من السوق ليعد منه الخبز في بيته من أهالي البلاد([40]).
4. جريان الأموال من الفقراء إلى الأغنياء:-
وتتمة للأثر السابق: إذا عجزت الحكومة مثلاً، عن تسديد هذا الدين إلى خمسين سنة فإنها لن تنفك إلى نصف قرن تقوم بواجب جمع "الاكتتاب" من الفقراء وتساعد به الأغنياء في بلادها، ولن تكون منزلتها في هذا الشأن مختلفة عن منزلة كاتب الحسابات المرابي فكل هذا مما يجعل الثروة في الاقتصاد الاجتماعي تجري من الفقراء إلى الأغنياء، مع أن الذي يقتضيه فلاح الجماعة ومصلحتها هو أن يكون جريان الثروة من الأغنياء إلى الفقراء([41]).
وأخيراً إن هذه المضار والمفاسد لا توجد في الربا الذي تؤديه الحكومة على قروض تأخذها لأغراضها المثمرة فحسب، بل هي توجد أيضاً في جميع المعاملات الربوية التي يتعامل بها أصحاب التجارة والصناعة والحرف الأخرى، لأن من الظاهر أن كل تاجر أو صانع أو زارع لا يؤدي الربا إلى المرابي من جيبه، بل يلقي وزره على أثمان بضائعه ومنتجاته وحاصلات أرضه ويجمعه فلساً فلساً من جيوب عامة الأهالي "اكتتابا" منهم لمساعدة أصحاب الملايين وعشرات الملايين.
الحق أن أكثر من يستحق المساعدة في هذا النظام المنكس الغاشم هو أغنى من في البلاد من أصحاب الثراء والأموال، وأن أكثر من يجب عليه أن يساعد هذا "المسكين" هو من لا يكسب بعرق جبينه ووصله سواد ليله ببياض نهاره إلى ليرة أو بعض ليرة حيث الحرام عليه أن يشتري بها رغيفاً يمسك به رمق حياته وحياة أهله وأولاده المتضورين جوعاً قبل أن يُخرج من هذا الرغيف حق ذلك "المسكين" المتمول الذي يستحق المرحمة والمعونة أكثر من غيره([42]).
المبحث الرابع:-
من أضرار الربا في قروض الحكومات من الخارج
وهي القروض التي تأخذها الحكومات من المرابين من خارج بلادها([43]).
إن مثل هذه القروض تكون عامة لمبالغ عظيمة قد تبلغ أحياناً آلاف الملايين… والحكومات عامة تأخذ هذه القروض في أحوال تهجم فيها على بلادها أزمات غير عادية لا تكاد تكفي وسائل البلاد المالية لتقوم في وجهها وتكشف غمتها، فتتجه إذن للاستقراض من الخارج طمعاً في ترقية وسائلها بمزيد من السرعة إذا أنفقت مقداراً عظيماً من المال في مشاريعها وأعمالها الإنشائية، ثم إن هذه القروض تؤخذ عامة بسعر يتراوح بين(6-7) و(9-10%) سنوياً، أي أن الربا عليها كثيراً ما يبلغ مئات الملايين سنوياً…!!
إن المتمولين والمرابين في سوق المال الدولية يقرضون مثل هذه الحكومات أموالهم بتوسيط حكوماتهم بينهم وبينها ويرتهنون منها إحدى وسائل دخلها المهمة كالجمرك أو التنبول أو السكر أو الملح، ضماناً منها بوفاء قروضها إليهم.
إن هذا النوع من القروض الربوية يحمل في نفسه جميع المفاسد والسيئات والمضار التي سلف فيها القول آنفاً…
ولكن بالإضافة إلى جميع هذه المفاسد والمضار يحمل هذا النوع في نفسه مفسدةً هي أشد خطراً وأكثر مضرة على الإنسانية من سائرها هي:-
" أن الأمم بجميع ما تشتمل عليه من الأفراد والطوائف تختل ميزانيتها وحالتها الاقتصادية لأجل هذا النوع من القروض"
مما يؤثر تأثيراً غير محمود في الوضع الاقتصادي للدنيا كلها، ويغرس بذور العداوة والبغضاء بين أمم الأرض وشعوبها، وليس إلا من فضل هذه القروض أن شباب الأمم البائسة عندما تتكسر قلوبهم في آخر الأمر يبدءون بالإقبال على فلسفات سياسية واجتماعية واقتصادية متطرفة والبحث عن الحل لمصائبهم وكوارثهم .. بطريق ثورات دامية وحروب ضارية.
من الظاهر أن كل حكومة إذا لم تكن وسائلها المالية كافية في رفع مصائبها وقضاء حاجاتها، فإن لها أن تؤدي كل سنة ربا مقداره عشرات ومئات الملايين… مع أدائها قسطاً من أقساط دينه، ولا سيما إذا كان دائنها ارتهن منها وسيلة كبيرة من وسائلها المالية وضيق نطاق دخلها عما كان عليه من قبل.
ومن ثَمَّ إن حكومةً تستقرض مبلغاً عظيماً من المال بهذا الطريق، قلما تزول مصائبها في معظم الأحيان، لأنها كثيراً ما تلتجئ لتصفية أقساط قروضها ورباها إلى فرض الضرائب الفادحة على رؤوس سكان بلادها والإقلال من نفقاتها، مما يزيد من قلق الأهالي ويسعر نار اضطرابهم في جانب لأنهم لا يستعيضون عما ينفقون من المال مالاً يعادله، وفي الجانب الآخر يستعصي على الحكومة أن تبقى مؤدية أقساط القروض والربا في الميعاد على ما تكلف به الجمهور وفوق طاقتهم في أداء الضرائب.
ثم إذا بدأ التقصير عن البلاء في أداء قروضها، بدأ قارضوها يرمونها بقلة الأمانة وأكل مال الغير بالحرام وبدأت جرائدهم …. بإيماء منهم، تطعن فيها، حتى يؤول الأمر إلى أن تتوسط حكومتهم بينهم وبينها ولا تقتصر على الضغط والإرهاب السياسي عليها لمصلحة رأسمالها فقط، بل تستغل مصائبها ونكباتها لمصالحها السياسية أيضاً، فتحاول حكومة البلاد المدينة النجاة من هذه الأزمة بالزيادة من ضرائبها على سكان بلادها وتقل من نفقاتها ولكن ذلك يؤثر تأثيراً لا تحمد عواقبه في أهاليها ويحدث في طبيعتهم النزق والطيش لأجل ما يتقبلون فيه بصفة دائمة من الأوزار المالية والأزمات الاقتصادية المتصاعدة، فيزيدهم طعن المقترضين في الخارج وضغطهم السياسي غضباً وزمجرة، مما يفضي بهم أخيراً إلى عدم الثقة بالمدبرين المعتدلين في بلادهم ويستعر في صدورهم نار الغضب والحنق ويجعلهم يتبعون المتطرفين الذين يتبرءون إلى الميدان يتحدون أصحاب تلك الديون يقولون: (أنزلونا عن مطالبكم واستردوا منا أموالكم إن كنتم على ذلك من القادرين).
وهنا يبلغ شر الربا وفتنته منتهاها، فهل لرجلٍ من ذوي الفهم والتعقل بعد كل هذا، أن يشك في فداحة شرور الربا ومفاسده وويلاته على المجتمع الإنساني، ويتردد في الاعتراف بأن الربا سيئة يجب تحريمها بتاتاً؟.
وهل لرجلٍ بعد أن شاهد مضار الربا ونتائجه، على ما بيناها آنفاً، أن يرتاب في صدق قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:-
"الربا سبعون جزءاً أيسرها أن ينكح الرجل أمه" ([44]) . ([45]). والحمد لله رب العالمين .
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) تفسير الرازي : 7 / 94 .
([2]) سبق تخريجه .
([3]) تفسير الرازي : 7 / 94 . بتصرف .
([4]) تفسير المراغي : 3 / 58 .
([5]) محاسن التأويل : 3 / 710 .
([6]) انظر ما سبق في الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 118 – 120 .
([7]) نقلاً من كتاب التدابير الواقية : 58 .
([8]) التدابير الواقية من الربا : 84 – 85 . بتصرف يسير .
([9]) الربا خطره وسبيل الخلاص منه : 33 . بتصرف .
([10]) نفلاً عن التدابير الواقية من الربا : 87 .
([11]) انظر هذا الأثر في التدابير الواقية من الربا : 85 – 87 .
([12]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 123 – 124 .
([13]) نقلاً من التدابير الواقية : 89 .
([14]) إعلام الموقعين : 2 / 103 . وانظر هذا الأثر في التدابير الواقية : 87 – 89 .
([15]) تفسير الرازي : 7 / 87 .
([16]) انظر هذا الأثر في التدابير الواقية : 82 – 84 .
([17]) تفسير الرازي : 7 / 87 .
([18]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 120 –121 .
([19]) السابق : 122 – 123 .
([20]) تفسير المراغي : 3 / 58 – 59 .
([21]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 129 –130 .
([22]) كتب هذا الكلام بتاريخ 1408 هـ .
([23]) السابق : 124 – 128 .
([24]) السابق : 128 – 129 .
([25]) تحريم الربا تنظيم اقتصادي : 16 .
([26]) الربا للمودودي : 58 – 59 . بتصرف .
([27]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 132 .
([28]) هذا المبحث اعتمدت فيه على كتاب الربا للمودودي وقمت بترتيبه وتقسيمه على النقاط التي سأذكرها .
([29]) الربا للمودودي : 59 .
([30])الربا للمودودي : 59 – 60 .
([31]) السابق : 61 – 62 .
([32]) السابق : 62 .
([33]) السابق : 63 . بتصرف يسير .
([34]) السابق : 63 – 64 .
([35]) السابق : 64 – 66 . بتصرف .
([36]) السابق : 66 . بتصرف .
([37]) السابق : 66 – 67 .
([38]) السابق : 68 .
([39]) السابق : 68 – 69 .
([40]) السابق : 69 – 70 .
([41]) السابق : 70 .
([42]) السابق : 70 –71 .
([43]) السابق : 71 .
([44]) سبق تخريجه .
([45]) الربا للمودودي : 71 – 74 . مختصراً .
دليل البحوث الإسلامية تاريخ الإنشاء 1422هـ