بحث عن كوسوفا الحقيقة المرة - بحث مفصل عن كوسوفا الحقيقة المرة كامل بالتنسيق
بمناسبة اقتراب الذكرى الأولى للتدخل الدولي في يوغوسلافيا / كوسوفا كثرت التصريحات والتعليقات والتوقعات حول رصيد هذا الإقليم ذي الأغلبية الألبانية المسلمة الذي كان وراء أكبر مأساة حرب تعرفها أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد حول احتمالات "الوضع القائم" و"الوضع القادم".
كوسوفا.. الماضي والمستقبل
اشتعلت أزمة كوسوفا في العام 1999م عندما تدخلت قوات الجيش اليوغسلافي- وقتذاك- لضرب سكان الإقليم الألبان الذين طالبوا باستقلال الإقليم، وقد ارتكب اليوغسلاف في الإقليم فظائع وصلت إلى مستويات مماثلة لما ارتكبه الصرب ضد المسلمين خلال حرب البوسنة التي لم تكن قد هدأت بعد الأمر الذي دفع المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلنطي إلى التدخل في الإقليم من خلال شنِّ عملية عسكرية انتهت بوقف الانتهاكات اليوغسلافية ضد سكان الإقليم ووضع كوسوفا تحت إدارة الأمم المتحدة منذ ذلك العام.
وقد تشكلت مجموعة اتصال دولية لمتابعة ملف الإقليم تضم في عضويتها كلاًّ من الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، كما تمَّ تعيين مارتي أهيتساري مبعوثًا دوليًّا لكوسوفا، ولم تفِ مجموعة الاتصال بالتعهد الذي أطلقته بالتوصل إلى حلٍّ للأزمة في الإقليم في نهاية العام الماضي 2006م؛ حيث وقع تطورٌ سياسيٌّ كبيرٌ في المنطقة، وهو انفصال الجبل الأسود "مونتينجرو" عن جمهورية صربيا ومونتينجرو التي ورثت الاتحاد اليوغسلافي السابق، مما أسفرَ عن وقوع الإقليم في الدولة الجديدة، وهي دولة صربيا والتي نشط فيها الحزب القومي الصربي الذي يتخذ موقفًا خاصًّا من إقليم كوسوفا فماذا هو هذا الموقف..؟!
الحزب القومي الصربي يتخذ موقفًا رافضًا تمامًا لاستقلال كوسوفا، وكان قد طالب الحكومة الصربية في يوليو الماضي بالتدخل عسكريًّا في الإقليم إذا فكَّر في الاستقلال وأعلن زعيم الحزب توميسلاف نيكوليتش أن الحزب سيقوم بالتحرك في الشارع لإسقاط الحكومة الصربية إذا لم تتخذ أي إجراءٍ في حالة إعلان كوسوفا الاستقلال، ويجد المتطرفون القوميون الدعم الكافي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن رفضه التام لأية محاولات استقلالية من جانب الإقليم لكنه أعلن أنه سيقبل بأي موقفٍ يتوافق عليه الصرب والألبان.
لذا فإنَّ صعودَ الحزب في المشهد السياسي الصربي وفوزه بالانتخابات التشريعية الأخيرة يعني تضرر الجهود الدولية المبذولة لحل أزمة كوسوفا من أكثر من جهة، وأولى تلك المشكلات إنه في حالة تشكيل الحزب للحكومة من خلال ائتلاف مع بعض الأحزاب الصغيرة فإنَّ المفاوضات بين الحكومة الصربية والمجتمع الدولي حول مستقبل كوسوفا سوف تتوقف تمامًا؛ مما يعني إطالة أمد معاناة أهل كوسوفا في ظل الانتهاكات التي يقوم بها الصرب ضدهم، وحتى في حالة عدم تشكيل الحزب ومشاركته في ائتلاف حكومي تكون فيه قدرته محدودة فإنَّ تلك الحكومة المفترضة لن تكون قادرةً على اتخاذ قرارات حاسمة في مسألة حق كوسوفا في الاستقلال أو على الأقل منحه الحكم الذاتي خشيةَ خروج الحزب القومي الصربي من الائتلاف الحكومي؛ مما يُدخل البلاد في حالةٍ من الفراغ السياسي تقود إلى انتخاباتٍ مبكرة قد يحقق فيها الحزب انتصارًا يجعله قادرًا على تشكيل الحكومة بصورةٍ منفردة.
أيضًا فإنه سواء كان الحزب في داخل الحكومة أم خارجها فإن انتصاره السياسي في الانتخابات سيدفع أنصاره إلى التصعيد من خطابهم السياسي، مستندين إلى تحولهم لقوةٍ سياسيةٍ كبيرةٍ في البرلمان والحياة السياسية الصربية بصفةٍ عامة؛ الأمر الذي قد يتحول في جزءٍ منه إلى ممارسات عدوانية ضد مسلمي كوسوفا تتمثل في تزايد أعمال العصابات التي يعاني منها أهل الإقليم في الفترة الحالية وتهدف إلى إرهاب سكان الإقليم ومنعهم من التفكير في الاستقلال أو حتى الحكم الذاتي.
ومما يدعم توجهات التيار القومي المتطرف في صربيا صدور دستور صربيا الجديد بعد الانفصال عن الجبل الأسود، وهو الدستور الذي يعتبر كوسوفا جزءًا لا يتجزَّأ من صربيا، وكان محل انتقادٍ كبيرٍ من سكان الإقليم.
على الرغم من أن مستقبل كوسوفا بلغ اليوم المرحلة الأكثر حسما منذ اندلاع الأزمة في عام 1999، فإنه من الواضح ألا شيء قد أنجز واقعيا على مدار الأعوام الثمانية السابقة لحل أزمة كوسوفا.
ويعود السبب في هذا الفشل تحديدا إلى القوى الغربية المركزية التي كانت العائق الأساسي أمام إيجاد حل للأزمة حيث غاب عنها حسن التصور والابتكار والفاعلية. وبدت جهود هذه الدول كأنها نوع من الإجراءات التعسفية والنزوات الذاتية؛ لأنها أغمضت أعينها عن دراسة الواقع على الأرض وقدمت من الحلول ما يخدم مصالحها الخاصة بأكثر مما يخدم شعبي كوسوفو وصربيا.
وفي الوقت ذاته، تملكت نبرة الغضب واستحضار الماضي كلا من برشتينا وبلجراد، وبدلا من أن يطرحا مبادرتهما الخاصة، انتظرتا القوى الغربية لتمدهما بالإجابات على المشكلات الحاسمة. ونتيجة لذلك بقيت قضية كوسوفا ضمن الأزمات المجمدة التي تنتظر حلا إلى درجة يمكن القول معها أن خروج الأزمة عن هذه الحالة الجامدة قد يكون بعودة العنف مجددا إذا لم يقدم الطرفان فعلا ذاتيا خاصا بهما.
ومنذ أن أصبحت قضية كوسوفا في عهدة الأمم المتحدة ومجموعة الاتصال الدولية، فتحت نوافذ للفرص يمكن استغلالها لحل هذه الأزمة. لكن هذه النوافذ لن تبقى مفتوحة طويلا إذا لم تتمكن بلجراد وبرشتينا من الاتفاق على تسوية مرضية وحل وسط للأزمة التي قد تعود لمرحلة الصراع العنيف إذا أعلنت برشتينا الاستقلال من جانب واحد، كما أنه من الضروري لكل من بلجراد وبرشتينا -إذا أرادتا استغلال هذه الفرص- أن تدركا وجود ست حقائق صعبة على أرض الواقع حتى وإن لم ترق هذه الحقائق لهذا الطرف أو ذاك.
ست حقائق ماثلة
أولا: موت خطة المبعوث الدولي إلى كوسوفا "مارتي أهتيساري" (تتضمن هذه الخطة اقتراحا بمنح الإقليم استقلالا تحت إشراف مدني وعسكري دولي. وقد ناقشها مجلس الأمن في شهر إبريل الماضي 2007، لكن لم يصدر قرار دولي بها بسبب المعارضة الروسية؛ الأمر الذي دعا إلى تشكيل ترويكا لبحث حل لمستقبل إقليم كوسوفا).
ورغم حديث بعض أعضاء الأمم المتحدة عن إحياء أجزاء من هذه الخطة؛ فالأحداث الآن قد تجاوزتها باعتبارها في الأصل مقترحا أوليا من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، يقوم على خلق نوع من التجمعات الإثنية "المشتركة" في كوسوفا عبر فرض الحل على الطرفين، الصرب والألبان، وهو حل يتجنب الواقع على الأرض تحقيقا لمصالح هذه الدول على حساب مصالح من يعيشون في هذه المنطقة. ولا يعني انهيار خطة أهتيساري سوى ضرورة أن تدرك أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون الغربيون ألا أمل في الحل دون اعتبار الصرب والألبان شريكين حقيقين في أية مفاوضات جادة.
ثانيا: تضاؤل التأثير الأمريكي عن ذي قبل، وصعوبة قيام أمريكا بفرض حل على أعضاء مجموعة الاتصال. فالتعليقات الواردة حديثا على لسان "فولفجانج إيشينجر" ممثل الاتحاد الأوروبي و"بوتسان خارتشينكو" ممثل روسيا في مجموعة الترويكا -تضم إلى جوارهما أمريكا- التي أوفدت مؤخرا (أواخر يوليو 2007) إلى كوسوفا لبحث الواقع الميداني هناك والتوسط من أجل الوصول لاتفاق بشأن مستقبلها، أكدت "أن لا شيء مستحيل.. وكل شيء يمكن أن يحل على مائدة التفاوض". ويعد هذا الموقف تطورا إيجابيا يشير إلى موقف روسيا والاتحاد الأوروبي القائم على مد الفترة التفاوضية لأبعد من المائة والعشرين يوما التي حددها مجلس الأمن الدولي لمناقشة القضية، وتنتهي في 10 ديسمبر 2007.
وإذا حدث ذلك، فربما تلجأ الولايات المتحدة بطريقة انفرادية للسعي لإعلان كوسوفا المستقلة، لكن هذا يحمل مخاطرة كبرى ويسبب توترات مع الحلفاء الأوروبيين؛ لأن بناء دولة جديدة والاعتراف الدولي بها يتطلب موافقة الأمم المتحدة. وبالنظر إلى الكارثة الأمريكية الراهنة في العراق، فلا يمكن لأمريكا أن تغض الطرف عن القانون الدولي خاصة لدى الاعتراف الدولي بدولة جديدة.
ثالثا: لا تزال بلجراد وبرشتينا حبيستين للكره المتبادل، وتنظر كل منهما للقضية باعتبارها مباراة صفرية الطابع. وإذا لم ينكسر هذا الحاجز النفسي، فمن المؤكد أن تعود وتيرة العنف بسرعة، فكافة مستويات السلطة في المجتمع الألباني تصر على استقلال كوسوفو -وفق الحدود الحالية- ولن تتراجع برشتينا عن هذا الموقف، بينما الحل الوحيد المقبول من بلجراد هو اعتبار كوسوفا مقاطعة صربية حتى وإن حظيت بما هو أكثر من الحكم الذاتي.
وواقعيا، فقد نص الدستور الصربي الجديد على أن كوسوفو مقاطعة صربية، لكن في ذات الوقت هناك وميض من الأمل في تراجع بلجراد عن هذا الموقف المتصلب بعد أن أعلن بعض المسئولين إمكانية العدول عن هذا الموقف.
رابعا: موت التعدد الإثني في كوسوفو، إذ تشير الدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي والأحاديث المتواترة عن العامة بالمنطقة إلى أن غالبية الصرب والألبان لا يريدون العيش معا في مجتمع واحد أو أن يحكما بواسطة حكومة من المجموعة الإثنية الأخرى.
ولا يدرك صانعو السياسة الغربيون الساذجون اليوم هذه الحقيقة، فهم يرون ألا وجود الآن للدولة الإثنية في أوروبا.. تلك الدولة التي عرفتها أوروبا في القرن الماضي بعد الحرب العالمية الأولى مع انهيار الإمبراطوريات النمساوية/المجرية والألمانية والعثمانية، وعرفتها مرة أخرى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا بعد نهاية الحرب الباردة، وبالتالي يتغاضون، وبمثالية وأمنيات غير مبررة، عن حقيقة أن الإثنيات تعد عاملا جوهريا في بناء المجتمعات السياسية في غرب البلقان حتى اليوم.
خامسا: إن تجدد العنف داخل وحول كوسوفو مجددا سيؤدي لعودة التدخل العسكري الخارجي من لدن أمريكا والاتحاد الأوروبي اللذين لن يسمحا بإبقاء غرب البلقان مرة أخرى خارج السيطرة، وهذا تلقائيا سيؤدي إلى بقاء قواعد الناتو في كوسوفو كما يقترح البعض في صربيا. بيد أن تحمل الأوروبيين عبء اتخاذ رد فعل عسكري جديد، علاوة على بقاء عدد من القوات الأمريكية المحدودة في قاعدة "بوندستيل"، ورغم أنه سيكون أساسا للفصل بين المناطق العسكرية الألبانية والصربية، فإن هذا التواجد العسكري لن يدوم للأبد، كما أن اعتماد هذا الخيار سيقود إلى فشل الجهود لإيجاد حل سياسي دائم، ولن يحل كذلك مشكلة الأمن بالمنطقة.
سادسا: إن قضية كوسوفو هي في التحليل الأخير قضية إثنية وقضية سيادة على الأرض. وهذه حقيقة يعتبرها بعض المسئولين والدارسين من خارج المنطقة عابرة، ويجادلون في ذلك بالقول إن كيان المنطقة سيذوب يوما ما داخل الاتحاد الأوروبي حيث تصبح مفاهيم الدولة والسيادة أقل أهمية. ويقيم هؤلاء رأيهم على أن تأسيس الاتحاد الأوروبي أنهى آلاف السنين من العنف القومي والإثني اللذين قاما على المفهوم التقليدي لسيادة الدولة، والتي أصبحت غير ذي مضمون جدي في شمال وغربي أوروبا الآن. لكن للأسف يعد هذا إخفاقا في فهم منطق الدولة والسيادة في غرب البلقان؛ لأن الدول في هذه المنطقة لا تزال تعتمد المفهوم التقليدي لكل من الدولة والسيادة بل ويفهم غالبية الناس هناك أن عضوية الاتحاد الأوروبي -إذا حدثت- والاستفادة الكاملة من عوائد هذا الانضمام تتطلب فترة من الزمن؛ لأنه لا بد من تحقيق العديد من الاشتراطات على المستوى الوطني وعلى مستوى الترتيبات الإقليمية.
نحو طريق للحل
إن هذه الحقائق الست إذا ما سلّم بها القادة السياسيون في كوسوفو وصربيا، فإنه يمكنهم التأسيس لتسوية دائمة لمستقبل كوسوفو وإيجاد مقايضات وتساومات ضمن اتفاق يقوم على أربعة مرتكزات أساسية، وهي:
أولا: يحتاج الطرفان القبول بالتفاوض حول تقسيم الإقليم، وذلك بتعديل الخط الحدودي الحالي ليصبح تقسيم الأراضي أكثر "توازنا" للطرفين. وبالرغم من أن المسئولين الصرب لم يقروا رسميا بمبدأ التقسيم، كما ترفض برشتينا بحزم أي تعديلات حدودية، لكن على برشتينا أن تدرك حجم المخاطر واحتمال عودة العنف إذا ما قررت إعلان الاستقلال أحاديا عن صربيا حتى حدود شمال نهر إيبار (نهر يفصل كوسوفو إلى قسمين).
ويقول المنطق أن التقسيم أو الحدود الجديدة لا بد وأن تؤسس وفق مسار نهر إيبار بحيث يبقى الجزء الشمالي تابعا لصربيا والجنوبي يصبح لدولة الألبان المستقلة، بل إن هذا التقسيم يجب قبوله من الطرفين بالنظر إلى الواقع الإثني بالإقليم.
لكن الملاحظ حتى الآن أن الطرفين الأمريكي والأوروبي لم يخصصا خلال المفاوضات الجارية أي نقاش أو طرح حول تعديل الحدود، ويبدو أنهما لا يستوعبان حقيقة أن الحدود داخل أوروبا تغيرت على مدار ألفي عام لأسباب متعددة، وأنه بالإمكان تغيير الوضع النسبي للحدود بشكل سلمي -إذا ما توافرت الرغبة السياسية- كما حدث في أجزاء في أوروبا الوسطى وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق بعد نهاية الحرب الباردة.
ثانيا: إن التقسيم وترسيم الحدود بالطبع ليس إجراءً كافيا، حيث من المؤكد أن ثمة مخاضا عنيفا سيصاحب هذا التعديل من قبل المعارضين من الطرفين؛ فهناك من يعتقد على الجانبين أن المناطق المحيطة بنهر إيبار "مقدسة" ولها مكانة تاريخية، ولا يمكن التنازل عن أي جزء منها. ويتوقع كذلك أن يصر بعض السكان من الجانبين على البقاء داخل المجتمع الإثني الآخر.
ويستلزم ذلك قيام أطراف الترويكا، ومن خلال الأمم المتحدة، بضمان الأمن في هذه المناطق وفرض عقوبات على الحكومة التي لن توفر الحماية المطلوبة للأقليات، أو التي قد تلحق بهم ضررا ما أو تميز ضدهم، كما يمكن تأسيس صندوق مالي لمساعدة من يختار العيش داخل المجتمع الإثني الآخر على الارتباط به حياتيا وسياسيا.
ثالثا: تحتاج التسوية الابتكارية أن تأخذ بعين الاعتبار واقع الحدود المشابهة في غرب البلقان. وهنا بالتحديد تظهر مشكلة جمهورية سربسكا ( الجزء الصربي من البوسنة، وتعرف بالجمهورية البوسنية الصربية)؛ فقادة ومواطنو سربسكا لا يريدون العيش في البوسنة، ولو وجدوا وسيلة ملائمة لغادروها منذ سنوات عديدة، وفضلوا إما الاستقلال أو أن يكونوا جزءا من صربيا.
وفي هذه الحالة يجب على بانيا لوكا "عاصمة البوسنة" وبلجراد أن ينقاشا إمكانية الارتباط بين سربسكا وصربيا وتحت أية ظروف، وهذا يكون باعتماد الخيار الديمقراطي لسكان سربسكا.
وعلى الرغم من أن نفس المنطق سيتم استدعاؤه بالنسبة لعلاقة منطقة وادي بريسيفو ( منطقة بجنوب صربيا غالبية سكانها من الألبان) بكوسوفو المستقلة فيما بعد، فإن ذلك لن ينطبق على جنوب مقدونيا حيث اتفاق أوهريد للسلام ( وقع في 13 أغسطس 2001 بين الجيش المقدوني والمقاتلين الألبان لحل مشكلات الأقلية الألبانية) حتى الآن يقدم حلا للمشكلة العرقية هناك، كما لا ينطبق ذلك على إقليمي ساندجاك أو فويفودينا (وهما إقليمان صربيان يتمتعان بحكم ذاتي) حيث لا تثور بهما مسألة الاستقلال عن صربيا.
رابعا: بمجرد وضع اللمسات السياسية والأمنية على الاتفاق بين بلجراد وبرشتينا، يجب التفاوض سريعا حول سبل التعاون الاقتصادي؛ لأن ضعف التعاون الاقتصادي الإقليمي من شأنه أن يزرع بذور عدم الاستقرار في كوسوفو وصربيا وما حولهما، خاصة أن المؤشرات تقول أن كلتيهما يعاني من ارتفاع معدلات البطالة وتراجع الدخل القومي وزيادة الدين الخارجي...إلخ.
ويستلزم تحقيق هذا التعاون أن تتعرف بلجراد وبرشتينا على المساحات الأكثر قابلية لتطوير الاقتصاد في كلتيهما وتعزيز خطط الشراكة الاقتصادية في قطاعات معينة مثل الطاقة الهيدروإلكترونية في كوسوفو، واستخراج المعادن على جانبي الحدود، وإقامة برامج للتعاون الزراعي جنوبي صربيا وكوسوفو. وإزاء هذه الخطوة سيمكن للاتحاد الأوروبي أن يقدم مساعدات فنية ومالية.
وفي الحاصل الأخير، فإن الاستقرار في جنوبي شرق أوروبا (منذ عام 1999) يعتبر ضعيفا بعض الشيء، إلا أن اتباع المسار رقم 2 القائم على دعم التنمية الاقتصادية سوف يعزز فرص إقامة برامج منتجة وفعالة بين صربيا وكوسوفو.
وقد أعلنت روسيا أنها ستمارس في مجلس الأمن الدولي حق النقض "الفيتو" بشأن القرار الذي يؤيد إعلان استقلال كوسوفا من جانب واحد, إذا أعلن الناتو والاتحاد الأوروبي عن نيتهما في كيفية تقسيم صربيا، مستخفين بكافة الآليات القانونية المشروعة المتوفرة لدى الأمم المتحدة؛ فإنهما يتجاوزان بذلك القانون الدولي.
واعتبر وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" أنه من واجب الأمين العام للأمم المتحدة وبعثة المنظمة الدولية في كوسوفا تهيئة الظروف لتحقيق التسوية السياسية، وقال: "إنهما ملزمان بالإعلان عن عدم شرعية قرار قادة كوسوفا بشأن إعلان الاستقلال من جانب واحد". وفي سياق ذي صلة، أعرب مسئولون في كوسوفا عن نيتهم إعلان الاستقلال عن صربيا خلال أسابيع؛ وذلك في أعقاب فشل المحادثات التي جرت في الأمم المتحدة بشأن تقرير المستقبل السياسي للإقليم.
وقال رئيس الأغلبية الألبانية من سكان كوسوفا فاتمير سيجديو، تأكيده بأن الاستقلال هو الخيار الوحيد, مضيفاً:" إننا نعتبر أيضًا أن الاستقلال نتيجة وخاتمة لدورة هامة خضنا غمارها، وأصبحت الآن وراءنا لذلك فنحن جاهزون سوية مع أصدقائنا لاتخاذ خطواتنا نحو إعلان مستقبلي لاستقلال كوسوفو"، مشيرًا إلى أن استقلال كوسوفو ليس موجّهًا ضد أحد، ولن يسبب الضرر أو الأذى لأحد".
وتأتي تصريحات سيجديو في الوقت الذي أعرب فيه كل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عن اعتقادهما بأن فرص التوصل إلى تسوية بين الأطراف المعنية بشأن تقرير المستقبل السياسي للإقليم استنفدت؛ وبالتالي يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتولى زمام الأمور المتعلقة بمستقبل كوسوفا من الآن فصاعدًا.
ودعت سلوفينيا الاتحاد الأوروبي إلى الاستعداد لقيادة كوسوفا نحو طريق الاستقلال بعد فشل مجلس الأمن الدولي في الاتفاق حول مستقبل الإقليم, وقال وزير الخارجية السلوفيني دميتريج روبل، الذي ستتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد في يناير المقبل، إن على الاتحاد وكوسوفا "الاتفاق على ما سيحصل بداية من الآن، علينا أن نكون عقلاء، لكن بعض المسارات لا يمكن إيقافها".
وأضاف روبل في مؤتمر صحافي ببروكسل: "إننا مستعدون للاعتراف بالأمر الواقع القائم بغربي البلقان"، متوقعًا أن يتم إيجاد حل لوضع الإقليم في نهاية يونيو المقبل على أبعد تقدير, وأعربت 20 دولة من 27 من أعضاء الاتحاد عن استعدادها للاعتراف باستقلال كوسوفا تحت رقابة دولية، وهو ما تضمنه تقرير المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتي أهتيساري في خطته التي رفضتها روسيا في الأمم المتحدة بيوليو الماضي, وبالمقابل تعارض روسيا أي استقلال أحادي الجانب، كما هددت صربيا بتنفيذ "خطط عمل" سرية ضد كوسوفا وفرض حصار على الإقليم.
ولهذا كان من الطبيعي أن يرفض الرئيس الصربي بوريس تاديتش استقلال إقليم كوسوفا بعد الكشف عن تفاصيل مشروع الأمم المتحدة الذي يسمح بانفصال الإقليم عن صربيا تدريجيا ، وهدد قادة الصرب المتطرفين بمنع هذا الاستقلال واستئناف حرب الإبادة ضد المسلمين ، كما عارضت الكنيسة الأرثوذكسية الصربية أيضا خطة الأمم المتحدة التي وضعها (أهتيساري) ، معتبرة أنه لا يمكن لوسيط الأمم المتحدة تحديد مصير الإقليم، مشيرة إلى أن كوسوفا جزء لا يتجزأ من صربيا ! .
بل أن الصرب يركزون في رفضهم لخطة الأمم المتحدة علي مزاعم أن كوسوفا بها أهم الأديرة المسيحية وتراثهم التاريخي ، ومع أن خطة مبعوث الأمم المتحدة وعدت بالتغلب علي هذا بتحديد 40 منطقة وموقعا من كوسوفا ستعطي الحكم الذاتي (!) لمجرد أن بها أديرة مسيحية ، فهم يرفضون بإصرار هذه الخطة .
والمشكلة الأن أن خطة الأمم المتحدة الخاص بكوسوفا مفترض أن يتم عرضها علي مجلس الأمن للموافقة عليها ، وهنا من المؤكد أن روسيا – حامية المسيحية الأرثوذوكسية في أوروبا الشرقية – سوف تستخدم حق الفيتو لمنع حصول كوسوفا علي هذا الاستقلال النسبي عن صربيا ، ما يعني تجميد المشكلة كما هي .
الاستقلال الإسلامي في أوروبا ..ممنوع !
القضية أصبح واضحة بالتالي ولا تحتاج لتفسيرات سياسية ، فلأن الأمر يتعلق بمسلمين – وفي أوروبا- فمحظور عليهم الاستقلال ، تماما مثلما حدث مع البوسنة التي حولوها إلي كيان مشترك بين الصرب والكروات والبوسنة وذات حكم طائفي ثلاثي علماني رغم أن غالبية السكان مسلمون (90%) ، ولهذا بدأت المحاولات الصربية – مدعومة بالكنائس الارثوزوكسية في روسيا وباقي دول أوروبا الشرقية لإجهاض خطة الأمم المتحدة وإثارة العراقيل في وجهها .
ومع أن هذا الاعتراف الأممي الدولي بضرورة أن يكون هناك نوع من الاستقلال الذاتي لإقليم كوسوفا المسلم تأخر كثيرا لأكثر من 8 سنوات ، منذ انتهاء حرب الإبادة الصربية ضد مسلمي كوسوفا بعدما اجبر حلف شمال الأطلسي القوات الصربية على الانسحاب منه عام 1999 ، خصوصا أن المفاوضات الجارية منذ ذاك الحين بين الطرفين لم تفض إلى أي اتفاق ، فهناك من يستكثر علي مسلمي الإقليم الاستقلال .
والأغرب أن التحذيرات الصربية والمسيحية الشرقية عموما عادت لتكرر نفس النغمة الخبيثة التي قيلت عن البوسنة ، من أن كوسوفا قد تتحول لمرتع للمتطرفين لو استقلت ، وربما تنظيم القاعدة لاحقا بهدف تخويف الأوروبيين من السماح بأي مبادرات انفصالية قد تؤدي لاستقلال الإقليم لاحقا ، وربما تساعد حملة الإرهاب الفكري هذه - في ظل غيبة أي دور إسلامي مساند – في تراجع الأوروبيين ، خصوصا أن خطة المبعوث الاممي تفادى – وهو أمر غريب - الإشارة إلى أية رموز لاستقلال الإقليم عن صربيا رغم أنها وضعت لبنة هذا الاستقلال .
وربما يزيد المخاوف الأوروبية والصربية أن الزعيم الكوسوفي الأكثر اعتدالا من وجهة نظرهم ( روجوفا) قد توفي العام الماضي ، وأصبحت هناك مخاوف من سيطرة عناصر إسلامية من قادة جيش التحرير الكوسوفي السابق علي الإقليم.
وقد ظهرت هذه المخاوف حينما دعا الغرب المسئولين الكوسوفيين إلى سرعة اختيار خليفة للرئيس الراحل روجوفا، وأن يكونوا على مستوى اختيار الشخص المناسب لإكمال الطريق الذي بدأه روجوفا مع المجتمع الدولي، في إشارة للابتعاد عن الشخصيات التي يمكن أن يكون عليها تحفظات إقليمية خاصةً من قبل حكومة بلجراد الصربية، أو دوليا خاصةً من قبل روسيا والصين والاتحاد الأوربي ، والمقصود بذلك هم قادة جيش التحرير الكوسوفي السابق والذين تحولوا للعمل في الميدان السياسي بناء على طلب “المجتمع الدولي” نفسه .
إذ أكدت التجربة عدم قبول قوى إقليمية ودولية لصعود أي من هؤلاء الإسلاميين لأعلى منصب في السلطة الكوسوفية، كما حدث في بدايات العام 2005 عقب تمكن “راموش هاراديناي”، وهو أحد قادة جيش التحرير السابق ورئيس حزب (الرابطة) من أجل مستقبل كوسوفا، من تشكيل الحكومة الكوسوفية الجديدة بعد نجاحه في انتخابات ديمقراطية أشاد بها رئيس الإدارة المدنية المؤقتة التابعة للأمم المتحدة نفسها، بينما أعلن الغرب تحفظه على هذه الحكومة على لسان عدد من المسئولين، منهم “خافيير سولانا” منسق الاتحاد الأوربي للشئون الخارجية والأمنية .
وعلى الفور تقدمت رئيسة محكمة جرائم الحرب المتعلقة بيوغسلافيا السابقة في لاهاي بطلب اعتقال رئيس الوزراء الكوسوفي الجديد بناء على اتهامات -لم تثبت بعد- تقدمت بها حكومة بلجراد الصربية؛ الأمر الذي يعكس القيود علي كوسوفا من قبل الصرب والأوروبيين علي السواء ، خصوصا أن هناك تخوف من مطالبة هؤلاء الإسلاميين بالاستقلال الكامل وعدم موافقتهم على أي حلول وسط مع حكومة بلجراد .
ومع أن الغرب نجح في تنحية رئيس الوزراء الكوسوفي الإسلامي (راموش) رغم أنه جاء بانتخابات حرة - كعادة الغرب في التنكر للديمقراطية لو جاءت بمن لا يرضون عنه – ليحل محله (بيرم قسومي) الذي قدم استقالته بضغط من الائتلاف الحاكم الذي رشح قائد جيش تحرير كوسوفو سابقا الجنرال أغيم تشيكو لشغل المنصب حاليا ، فالصرب يعتبرون أن مجرد تعيين أحد من جيش تحرير كوسوفا في منصب كبير أمر مقلق يساعد علي استقلال كوسوفا في النهاية .
تأصيل الأزمة
وترجع قصة الأزمة في الإقليم إلى عام 1989 حينما قام الرئيس الصربي السابق “سلوبودان ميلوسيفيتش” بإلغاء ميزة الحكم الذاتي لكوسوفا والذي منحه إياها الرئيس اليوغسلافي الأسبق “تيتو” عام 1974؛ الأمر الذي دفع مسلمي كوسوفا إلى الرد على ذلك بإجراء استفتاء عام حول استقلال الإقليم في سبتمبر 1991 حيث صوت لصالح الاستقلال 99% ممن شارك به، وبناء عليه، تمت انتخابات رئاسية كوسوفية نجح فيها “إبراهيم روجوفا” الأستاذ السابق بكلية الدراسات الألبانية بجامعة برشتينا في مقدمة لتحقيق الكوسوفيين حلمهم الاستقلال بالطرق السلمية والدبلوماسية .
وقد عارضت صربيا كل هذه الأمور لأنها لا ترغب في استقلال كوسوفا الذي يقضي على حلم التوسع الصربي؛ ما دفع مجموعات من الشباب الكوسوفيين إلى تكوين “جيش تحرير كوسوفا” الذي أخذ في شن حرب عصابات ضد جيش الاحتلال وقوات الشرطة الصربية المتواجدة بالإقليم عام 1998/ 1999 وقد ردت صربيا بحملات إبادة شديدة في المناطق التي ينطلق منها جيش التحرير الكوسوفي، من ثم لم تجد أوربا وأمريكا بُدًّا من التدخل عسكريا ضد صربيا للقضاء على هذه الحملات بعد أن فشلت جهود التفاوض السلمي التي كان آخرها مفاوضات “رامبوييه” مطلع عام 1999 نتيجة لتعنت الجانب الصربي مقابل قبول ألبان كوسوفو للشروط الدولية لحل هذا النزاع، وهو ما تحقق بالضربات الجوية من حلف الناتو لصربيا في مارس 1999 إلى أن دخلت القوات البرية لحلف الناتو إقليم كوسوفا في 9 يونيو 1999، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ كوسوفا لا يكون الحكم فيها للطرف الصربي أو للجانب الألباني المسلم وإنما لإدارة مدنية دولية مؤقتة تابعة للأمم المتحدة.
وتبلغ مساحة إقليم كوسوفا حوالي 11,000 كم، وعدد سكانه 2,500,000، وتبلغ نسبة المسلمين الألبان داخل كوسوفو حوالي 92%، والأقليات هناك (8%) تشمل الصرب والمونتنيغري والبوسنيين والغجر والأتراك ، ويعتبر الإسلام هو الدين الرسمي داخل الإقليم حيث تبلغ نسبة المسلمين وسط الألبان حوالي 99%، كما أن هناك أقلية ألبانية صغيرة جدا تعتنق المذهب الكاثوليكي تتمركز في شمال كوسوفا .
لا يرى مسلمو كوسوفا حلا نهائيا لإقليمهم غير الاستقلال التام، بينما تسوف صربيا وتريد منحهم : ”شيئا أكثر من الحكم الذاتي وأقل من الاستقلال”، ما يعني أن بلجراد لا تريد منح السيادة لسكان الإقليم ، ومع أن خطة الأمم المتحدة جاءت وسطا بين رغبات الطرفين ، فهي لا تزال مرفوضة من الصرب رغم ترحيب المسلمين بها ، ولكن دخول دول كبري علي خط تحديد مصير الإقليم - خاصة روسيا التي تزعم أن بعض أقاليمها المسلمة قد تطالب بالمثل مثل أوسيتيا الشمالية – ربما يعرقل هذه الخطط .
الاستقلال لم يكن واردًا