بحث عن 5 يونيو ذكرى النكسة - بحث مفصل عن 5 يونيو ذكرى النكسة كامل بالتنسيق
تمهيد
إحدى عشرة سنة هي الفترة الزمنية التي فصلت حرب السويس عام 1956 عن حرب يونيو/حزيران 1967. وخلال هذه الفترة طورت الدول العربية وكذلك إسرائيل من قدراتها العسكرية وميزان قواها. وتتفق المصادر في العديد من المعطيات الإحصائية حول ميزان القوى العسكري قبل حرب يونيو/حزيران 1967، وإن كانت تختلف في بعض الجزئيات. وتجمع بلا استثناء على أن عدد وعدة الجيوش العربية في الجبهات الثلاث كانت أكثر من عدد وعدة الجيش الإسرئيلي.
وتذهب تلك المصادر إلى أن الاختلاف الأساسي بين الجيوش يكمن في كفاءة الجيش الإسرائيلي في استخدام الأسلحة والمعدات والمقدرة التنظيمية والقيادية وتوظيفها عكس الجيوش العربية الثلاثة.
ما من شك بأن وصف سيختلف طموحات الإسرائيليين وتقديرهم لأنفسهم -عشية حرب 1967- يمكن أن يكون بوصلة لفهم سلوك الإسرائيليين أثناء الحرب وبعدها، بل ومعياراً لقياس مدى تغلغل الأفكار السائدة للزعماء ومصممي الرأي العام الإسرائيليين في نفوس الإسرائليين العاديين.
فقد اعتمدت هذه الأفكار على أساسين بارزين وهما:
تصوير إسرائيل على أنها دولة غربية نيرة.
التميّز الكيفي عن شعوب المنطقة علمياً وحضارياً.
لقد مررنا بفترة ألفي عام حتى استطعنا أن نكون جزءا عضوياً من الحضارة الأوروبية الغربية. ليس بإمكاننا الآن أن نعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ونقبل بحضارة اليمن والمغرب والعراق "حاييم هزاز - أديب إسرائيلي "
إسرائيل دولة غربية
"إسرائيل دولة غربية نيّرة تعيش في محيط من الدول العربية الشرقية الدكتاتورية والمتخلفة".
من هذا المنطلق رأى الإسرائيليون أنفسهم جزءاً من العالم الغربي وسعوا بكل ما أوتوا من قوة لأن يستوعبوا في هذه المنظومة المتقدمة من النواحي الحضارية والثقافية والقيمية والعلمية والتكنولوجية.
وواكب هذا السعي تثبيت لهيمنة النخب الإشكنازية (اليهود من أصل أوروبي) على المواقع المؤثرة في المؤسسات الفاعلة في المجتمع الإسرائيلي. حيث قوبل هذا التثبيت برضوخ وقبول شبه تام من اليهود ذوي الأصول الشرقية الذين قبلوا مرغمين بدونية حضارتهم وحاولوا التنصل منها إما لكونها حضارة عرفتها النخب في إسرائيل على أنها "حضارة عدو" أو لأنهم رغبوا بالاندماج في الحياة العامة للمجتمع الإسرائيلي والتي حدد معالمها وآليات عملها أناس انتموا للنخب الإشكنازية آنفة الذكر.
بعض اليهود الشرقيين عمد إلى عبرنة أسمائهم بشكل لا يذكّر بماضيهم الشرقي "فتال" أصبح "شاحل"، "بن أبو" أصبح "بن عامي" وهكذا.. أما سيرتهم الحياتية في المأكل ولهجة الكلام والغناء فقد مارسوها بشكل مزدوج، ففي بيوتهم تصرفوا حسبما كانوا يتصرفون في البلاد التي قدموا منها، أما في الحيّز العام فقد مالوا إلى تقليد النخب الإشكنازية المهيمنة.
لم يخف أعضاء هذه النخب آراءهم بالنسبة لهذا الموضوع بل جعلوها شرطاً أساسياً من شروط نجاح فكرة "فرن الصهر" الذي نادى به بن غوريون لصياغة أوليات هوية المجتمع الإسرائيلي الجديد.
فالأديب حاييم هزاز -على سبيل المثال- أعلن بشكل واضح "ليس بوسعنا أن نكون شعباً شرقياً" مفسرا هذا الإعلان بقوله " لقد مررنا بفترة ألفي عام حتى استطعنا أن نكون جزءا عضوياً من الحضارة الأوروبية الغربية. ليس بإمكاننا الآن أن نعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ونقبل بحضارة اليمن والمغرب والعراق".
أما الكاتب شبتاي طبيت فقد حذّر من وضع تزداد فيه نسبة اليهود من أصل شرقي الشيء الذي سيؤدي -حسب رأيه- لانخفاض معدل المستوى الثقافي والعلمي، وذلك يعني "الاقتراب من معدلات شعوب المنطقة والابتعاد عن المستوى العالي للثقافة الغربية".
فالدعوة للحفاظ على إسرائيل جزءاً من الحضارة الغربية لم يكن تعلقاً بهذه الحضارة بقدر ما هو رغبة بالابتعاد عن حضارة المجال وعدم الانخراط فيها.
بل يمكن القول إن ذلك غذى مشاعر الإسرائيليين بالتفوق من خلال تبني حضارة الغرب والاستعلاء على حضارة المجال، حتى أولئك القلائل من بين اليهود الشرقيين الذين انضموا للحزب الشيوعي وأحزاب وحركات معارضة أخرى محاولين من خلالها ممارسة الاحتجاج على سياسات القمع والطمس التي مارستها مؤسسات الدولة تجاههم، خف صوتهم عشيّة حرب حزيران بل انضوى معظمهم في أذرعة السلطة كموظفين ومعلمين وكتاب ومحاضرين جامعيين قابلين إلى حد كبير مقتضيات وقواعد اللعبة التي صاغها رجال النظام ومؤسسات الدولة.
من الجدير ذكره هنا أن معظم مصممي الرأي العام الإسرائيلي في تلك الفترة حاولوا التأكيد على فكرة كون إسرائيل "واحة الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط، ومحاولة تسويقها خاصة فيما يتعلق بصورة تعاملهم مع الأقلية العربية الفلسطينية التي بقيت في حدود دولة إسرائيل بعد نكبة عام 1948.
التميز الكيفي حضاريا
واعتمد الإسرائيليون في تقديرهم لذاتهم أيضا على الدعوة لتفضيل الكيفية النوعية وتجاهل البعد الكمّي.
فأحد أهم الميّزات التي تمتعت بها الحركة الصهيونية في سعيها لإقامة إسرائيل والتي تباهى بها دافيد بن غوريون في أكثر من مناسبة، هي التميّز الكيفي عن شعوب المنطقة علمياً وحضارياً.
وقد أقر في تصريحاته تلك بوجوب الحفاظ على هذا التفوق واستخدامه في سبيل صناعة القوة العسكرية الرادعة التي رأى بها الضمان الأساسي لاستمرارية بقاء الدولة التي أعلن عن إقامتها في مايو / أيار 1948.
ومع إدراكه للتفوق الهائل للطرف العربي من حيث الموارد البشرية والطبيعية فقد رأى أن يلجأ الطرف الإسرائيلي إلى رفع المستوى الكيفي للموارد البشرية المتوفرة لديه، والسعي لتعويض النقص في الموارد الطبيعية من خلال تطوير العلوم الدقيقة والتكنولوجيا المتطورة.
وتم الربط بين الطموح للتميز والسعي الدائب لبناء قدرة عسكرية متطورة ذات مستوى كيفي عال يضمن حدا من الردع للجوار العربي بشكل يجعله يفكر مليا قبل المبادأة بأي هجوم.
وولد هذا الربط أنماط تفكير وطموحات الأجيال الإسرائيلية الشابة التي كان سقف توقعاتها الانتماء إلى الوحدات العسكرية القتالية الخاصة المبنية على مبدأ الضربات الخاطفة التي تضرب العدو في عصب قوته الأساسي، وتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق النصر السريع بأقل قدر ممكن من الخسائر البشرية والموارد الطبيعية والبنى التحتية.
أما الوحدات العسكرية التي تهافت عليها المتجندون الجدد فكانت وحدات المظلات وسلاح الجو والقوات الخاصة التي كانت القدوة في هذا الجانب لأن قادتها الميدانيين كانوا قد بدؤوا حياتهم العسكرية -على الأغلب- في وحدات الهاغناه التي اصطلح على تسميتها بوحدات البالماح.
بناء على كل ما تقدم يمكننا القول إن الإسرائيليين دخلوا حرب يونيو/ حزيران 1967 وهم في حال من المعنويات المرتفعة والثقة الكبيرة وذلك على عكس ما يشاع عن حالات الهلع والخوف عشية الحرب، وإن كانت حالات من هذا القبيل قد حصلت وقد تم تضخيمها في وسائل الإعلام فإنها -بطبيعة الحال- لا تستطيع أن تنبئ بتفشيها في الأوساط العامة أو أوساط القوى الفاعلة على وجه الخصوص والتي دخلت الحرب بأعصاب باردة وثقة من نجاح الحرب الخاطفة التي كانوا بصدد شنها والتي آتت أكلها في الساعات الأولى للحرب.
إسرائيل بعد حرب 67
اليوم لم يعد طموح الشباب الإسرائيلي منصباً على الانضمام إلى وحدات النخبة العسكرية المقاتلة، ولم تعد صورة رجال المظلات المنتصرين في حرب يونيو/حزيران 1967 هي الصورة القدوة
جاءت نتائج الحرب موافقة لتلك المعنويات والثقة العالية بل إنها زادت من قدرها وأدخلت الإسرائيليين في حالة من نشوة القوة لم يصحوا منها إلا خلال حرب الاستنزاف التي أعادت بعض ماء الوجه للمقاتل العربي وأدخلت شرخاً معيناً في معنويات الجيش الإسرائيلي، علماً بأن هذا الشرخ أضحى صدعاًًً بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 والتي فاجأت مصر وسوريا إسرائيل فيها بهجوم مباغت، وعبر الجيش المصري قناة السويس واقتحم بعدها قلاع خط بارليف الحصين.
أضافت حرب يونيو/ حزيران مساحات شاسعة من الأراضي للسيطرة الإسرائيلية بشكل عدّل الكثير من الحسابات الإستراتيجية، وقلّل إلى حد كبير مخاوف أولئك الذين ضايقتهم -إلى حد كبير- المسافة الضئيلة (12 كلم) بين طولكرم وشاطئ البحر المتوسط، وتحدثوا مراراً وتكراراً عن ضرورة معالجة نقطة الضعف هذه من خلال توسيع العمق الإستراتيجي الإسرائيلي بشكل يجعله عمقاً آمناً.
لكن هذا التحسن في العمق الإستراتيجي واكبه تدهور في صورة "الدولة الديمقراطية الغربية النيرّة " وذلك بعد أن أصبحت تحكم ملايين أخرى من الفلسطينيين وتتعامل معهم كدولة احتلال.
كما أن تحسين الوضع الجغرافي الإستراتيجي تعدى هذه المرة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المباشر إلى سيطرة على أراض دول عربية أخرى هي مصر وسوريا، الشيء الذي وسّع دائرة الصراع وعمّق حالة العداء على المستوى العربي العام.
لكن ثمة تغييرات داخلية إسرائيلية غيّرت إلى حد بعيد الأسس التي حرصت إسرائيل على إقامة دولتها عليها، أي التغرب والتميز الكيفي.
تباطؤ التغرب وضعف الثقة
فالسعي للتغرب تباطأ بعد استيقاظ اليهود من أصل شرقي وإطاحتهم بحكومة حزب العمل الوريثة الشرعية لحزب مباي الذي أذاقهم الأمرين، ومنذ ذلك التاريخ ووزنهم السياسي وتأثيرهم يعلو باضطراد رغم أنهم لم يفلحوا حتى الآن بكسر الهيمنة الإشكنازية بشكل تام. مع ذلك فإن ظهور حزب شاس وترسيخ أفكاره في أوساط اليهود الشرقيين وضع علامات استفهام كثيرة حول مدى "غربية" الدولة.
وقد أضيف لذلك قدوم موجات هجرة جديدة من الروس والإثيوبيين، وقد سببت هذه الهجرات -على أقل تقدير- المزيد من الخروق في النسيج الاجتماعي المكون للمجتمع الإسرائيلي، وزادت إلى حد كبير نسبة أولئك الذين لا يمكن اعتبارهم جزءاً من الدولة الغربية المأمولة.
ومع ازدياد قدرة هؤلاء على إيصال عدد أكبر من أعضاء الكنيست إلى البرلمان والضغط من هناك لنيل مصالح حزبية وقطاعية، ضعفت إلى حد كبير البنية السياسية الإسرائيلية وقلّت قدرة ممثلي "النظام القديم" على المناورة وتنفيذ سياسة تخدم المصالح العامة للمجتمع الواحد، الشيء الذي انعكس بلا شك على ثقتها بنفسها وثقتها بأنها تمثل الإجماع العام للمجتمع الإسرائيلي.
وقد واكب هذه التطورات استشراء حالات الفساد السياسي والفضائح الأخلاقية لبعض الزعماء: فثلاثة رؤساء حكومات ورئيس دولة وعدة وزراء وموظفين كبار اتهموا في العقد الأخير بأعمال شائنة أو مخالفة للقانون، وهي أمور أساءت كثيراً للثقة بين الرأي العام والفعاليات السياسية، وأضعفت إلى حد كبير قدرة المنظومة الإسرائيلية الحالية على الفوز بالثقة التامة من الجمهور كما كان الأمر عشية حرب 1967 وأثناءها.
إخفاق أساس التميز
أما فيما يتعلق بالأساس الثاني التميّز الكيفي والنوعي فقد أصابه الكثير من الإخفاقات:
على جبهة الصراع مع الفلسطينيين الذي كان قد دخل عام 1987 مرحلة جديدة بصيغة صراع بين جيش إسرائيلي منظم وانتفاضة شعبية لا زالت تتطور وتتفاعل حتى يومنا هذا.
وعلى جبهة التورط في لبنان منذ عام 1978 ومن ثم الخروج منه بشكل لم يضف كثيراً للمعنويات الإسرائيلية عام 2000، إلى أن جاءت حرب صيف 2006 وما كان لها من تأثيرات سلبية هائلة على مستوى المعنويات والثقة بالنفس، حيث كان أهم تجلياتها إعادة النظر في قضية التفوق النوعي الإسرائيلي على الطرف العربي والتي دأب الزعماء ومصممو الرأي العام في إسرائيل على صياغتها تلك السنوات الطويلة.
لم يعد طموح الشباب الإسرائيلي منصباً على الانضمام إلى وحدات النخبة العسكرية المقاتلة كما كان الأمر من قبل، ولم تعد صورة رجال المظلات المنتصرين في حرب 67 والتي علقت في معظم بيوت الإسرائيلييين بعد الحرب هي "الصورة القدوة" التي تثير انفعاله كلما نظر، وتثير رغبته بتكرارها بشكل شخصي.
صحيح أن المجتمع الإسرائيلي زاد تطرفاً وتفكيراً بحلول القوة في السنوات الأخيرة، ولكن إيمانه بالقدرة على تنفيذها أقل بكثير مما كان عليه عشية حرب 67.
والأهم من ذلك كله هو تضاؤل الثقة العمياء التي منحها الإسرائيليون لجيشهم وقدرته على الردع والحسم السريع، وتكاثر أصوات المشككيين بقدرة هذا الجيش على تكرار ما فعله عام 1967، حتى أن بعض المحللين العسكريين وصف ما حصل حينذاك من نصر خاطف وحاسم بالمعجزة التي لا يمكن تكرارها.
ولقد أثبت تطور الصراع في الشرق الأوسط والتفاعلات الداخلية الإسرائيلية -منذ ذلك التاريخ- صدق هذه المقولة، فيما ثقة الإسرائيليين بقدرة زعاماتهم وجيشهم لم تعد كما كانت بالماضي بل هي أقل بكثير.