اليوم بمشيئة الله تعالى نستكمل معكم سرد قصص الأبطال الأخيار وسيرة من سير الأعلام مع شجاع لن تجد له نظير قال فيه عمر بن الخطاب ( لا تولوه على جيشا من جيوش المسلمين مخافة أن يهلك جنده بإقدامه ) فمن هذا يا ترى الذى الذى تكلم عمر بن خطاب فى شجاعته إنه الصحابى الجليل البراء بن مالك الأنصارى .
قصة البراء بن مالك الأنصارى و ( حديقة الموت )
كان أشعث أغبر ضئيل الجسم معروق العظم تقتحمه عين رائيه ثم تزور عنه ازورارا ولكنه مع ذلك قتل مائة من المشركين مبارزة واحدة عدا الذين قتلهم فى غمار المعارك مع المحاربين ، إنه الكمى الباسل المقدام الذى كتب الفاروق بشأنه إلى عماله فى الآفاق : ألا يولوه على جيش من جيوش المسلمين خوفا أن يهلكهم بإقدامه .
إنه البراء بن مالك الأنصارى أخو أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو رحت أستقصى لك أخبار بطولات البراء بن مالك لطال الكلام وضاق المقام لذا رأيت أن أعرض لك قصة واحدة من قصص بطولاته وهى تنبيك عما عداها .
تبدأ هذه القصة منذ الساعات الأولى لوفاة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى حيث طفقت قبائل العرب تخرج من دين الله أفواجا كما دخلت فى هذا الدين أفواجا حتى لم يبق فى الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وجماعات متفرقة هنا وهناك ممن ثبت الله قلوبهم على الإيمان .
صمد الصديق رضى الله عنه لهذه الفتنة المدمرة العمياء صمود الجبال الراسيات وجهز من المهاجرين والأنصار أحد عشرا جيشا وعقد لقادة هذه الجيوش أحد عشر لواء ودفع بهم فى أرجاء جزيرة العرب ليعيدوا المرتدين إلى سبيل الهدى الحق وليحملوا المنحرفين على الجادة بحد السيف .
وكان أقوى المرتدين بأسا وأكثرهم عددا بنو ( حنيفة ) أصحاب مسيلمة الكذاب فقد اجتمع لمسيلمة من قومه وحلفائهم أربعون ألفا من أشداء المحاربين ، وكان أكثر هؤلاء قد اتبعوه عصبية له لا إيمانا به فقد كان بعضهم يقول : أشهد أن مسيلمة كذاب ومحمدا صادق ، لكن كذاب ربيعة أحب إليا من صادق مضر وهى قبيلة النبى صلوات الله عليه .
هزم مسيلمة أول جيش خرج إليه من شيوج المسلمين بقيادة عكرمة بن أبى جهل ورده على أعقابه ، فأرسل له الصديق جيشا ثانية بقيادة خالد بن الوليد حشد فيه وجوه الصحابة من المهاجرين والأنصار وكان فى طليعة هؤلاء وهؤلاء البراء بن مالك الأنصارى ونفر من كماة المسلمين .
التقى الجيشان على أرض اليمامة فى نجد فما هو إلا قليل حتى رجحت كفة مسيلمة وأصحابه وزلزلت الأرض تحت أقدام جنود المسلمين وطفقوا يتراجعون عن مواقفهم حتى اقتحم أصحاب مسيلمة فسطاط خالد بن الوليد واقتلعوه من أصوله وكادوا يقتلون زوجته لولا أن أجارها واحد منهم .
عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم وأدركوا أنهم إن يهزموا أمام مسيلمة فلن تقام للإسلام قامة بعد اليوم ولن يعبد الله وحده لا شريك له فى جزيرة العرب وهب خالد إلى جيشه فأعاد تنظيمه حيث ميز الأنصار عن المهاجرين وميز أبناء البوادى عن هؤلاء وهؤلاء ، وجمع أبناء كل أب تحت راية واحد منهم ليعرف بلاء كل فريق فى المعركة وليعلم من أين يؤتى المسلمون .
ودارت بين الفريقين رحى معركة ضروس لم تعرف حروب المسلمين لها نظير من قبل وثبت قوم مسيلمة فى ساحات الوغى ثبات الجبال ولم يأبهوا لكثرة ما أصابهم من القتل وأبدى المسلمون من خوارق البطولات ما لو جمع لكان ملحمة من روائع الملاحم .
فهذا ثابت بن قيس حامل لواء الأنصار يتحنط ويتكفن ويحفر لنفسه حفرة فى الأرض فينزل فيها إلى نصف ساقيه ويبقى ثابتا فى موقفه يجالد عن راية قومه حتى خر صريعا شهيدا ، وهذا زيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب رضى الله عنهما ينادى فى المسلمين : أيها الناس عضوا على أدراسكم واضربوا فى عدوكم وامضوا قدما ، أيها الناس والله لاأتكلم بعد هذه الكلمة أبدا حتى يهزم مسيلمة أو ألقى الله فأدلى إليه بحجتى ثم كر على القوم فما زال يقاتل حتى قتل .
وهذا سالم مولى أبى حذيفة يحمل راية المهاجرين فيخشى عليه قومه أن يضعف أو يتزعزع فقالوا له : إنا لنخشى أن نؤتى من قبلك فقال : إن أتيتم من قبلى فبئس حامل القرآن أكون ثم كر على أعداء الله كرة باسلة حتى أصيب ، ولكن بطولات هؤلاء جميعا تتضائل أمام بطولات البراء بن مالك رضوان الله عنه وعنهم جميعا .
ذلك أن خالد حين رأى وطيس المعركة يحمى ويشتد التفت إلى البراء بن مالك وقال : إليهم يا فتى الأنصار فالتفت البراء إلى قومه وقال : يا معشر الأنصار لا يفكرن أحد منكم بالرجوع إلى المدينة فلا مدينة لكم بعد اليوم وإنما هو الله وحده ثم الجنة ، ثم حمل إلى المشركين وحملوا معه وانبرى يشق الصفوف ويعمل السيف فى رقاب أعداء الله حتى زلزلت أقدام مسيلمة وأصحابه فلجأوا إلى الحديقة التى عرفت فى التاريخ بعد ذلك باسم ( حديقة الموت ) لكثرة ما قتل فيها هذا اليوم .
كانت حديقة الموت هذه رحبة الأرجاء سامقة الجدران فأغلق مسيلمة والآلاف المؤلفة من جنده عليهم أبوابها وتحصنوا بعالى جدرانها وجعلوا يمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها فتتساقط عليهم تساقط المطر ، عند ذلك تقدم مغوار السلمين الباسل البراء بن مالك وقال : يا قوم ضعونى على تُرس وارفعوا الترس على الرماح ثم اقذفونى إلى الحديقة قريبا من بابها فإما أن أستشهد وإما أن أفتح لكم الباب .
وفى لمح البصر جلس البراء بن مالك على الترس ، فقد كان ضئيل الجسم نحيله ورفعته عشرات الرماح فألقته فى حديقة الموت بين الآلاف المؤلفة من جند مسيلمة ، فنزل عليهم نزول الصاعقة وما زال يجالدهم أمام باب الحديقة ويعمل فى رقابهم السيف حتى قتل عشرة منهم وفتح الباب وبه بضع وثمانون جراحة من بين رمية بسهم أو ضربة بسيف .
فتدفق المسلمون على حديقة الموت من حيطانها وأبوابها وأعملوا السيوف فى رقاب المرتدين اللائذين بجدرانها حتى قتلوا منهم قريبا من عشرين ألفا ووصلوا إلى مسيلمة فأردوه صريعا ، حمل البراء بن مالك إلى رحله ليداوى فيه ، وأقام عليه خالد بن الوليد شهرا يعالجه من جراحه حتى أذن الله له بالشفاء ، وكتب لجند المسلمين على يديه بالنصر .
ظل البراء بن مالك يتوق إلى الشهادة التى فاتته يوم حديقة الموت ، وطفق يخوض المعارك واحدة بعد الأخرى شوقا إلى تحقيق أمنيته الكبرى وحنينا إلى اللحاق بنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم حتى كان يوم فتح تستر من بلاد فارس فقد تحصن الفرس فى إحدى القلاع الممردة فحاصرهم المسلمون وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم .
فلما طال الحصار واشتد البلاء على الفرس جعلوا يدلون من فوق أسوار القلعة سلاسل من حديد علقت بها كلاليب من فولاذ حميت بالنار حتى غدت أشد من الجمر فكانت تنشب فى أجساد المسلمين وتعلق بها فيرفعوهم إليهم إما موتى وإما على وشك الموت .
فعلق كلاب منها بأنس بن مالك أخى البراء بن مالك فما إن رآه البراء حتى وثب على جدار الحصن وأمسك بالسلسلة التى تحمل أخاه وجعل يعالج الكلاب التى تخرج من جسده فأخذت يده تحترق وتدخن فلم يأبه لها حتى أنقذ أخاه وهبط إلى الأرض بعد أن غدت يده عظاما ليس عليها لحم ، وفى هذه المعركة دعا البراء بن مالك الله أن يرزقه الشهادة فأجاب الله دعاءه حيث خر صريعا شهيدا مغتبطا بلقاء الله .
نضر الله وجه البراء بن مالك فى الجنة وأقر عينه بصحبة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ورضى عنه وأرضاه .