اليوم بمشيئة الله تعالى نستعرض معكم قصة رجل عملاق من عمالقة الصحابة رضوان الله عليهم جميعا وسيرة علم من الأعلام ونبيل من النبلاء هو أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه النبى ( من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ) يا لها من شهادة ومنقبة ، مع الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه .
كان يومئذ غلامنا يافعا لم يجاوز الحلم ، و كان يسرح في شعاب مكة بعيدا عن الناس ومعه غنم يرعاها لسيد من سادات قريش هو عقبة بن أبي معيط ، كان الناس ينادونه : ( ابن أم عبد ) أما اسمه فهو عبد الله و أما اسم أبيه فمسعود كان الغلام يسمع بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم الذي ظهر في قومه فلا يأبه لها لصغر سنه من جهة و لبعده عن المجتمع المكي من جهة أخري فقد دأب علي أن يخرج بغنم عقبة منذ البكور ثم لا يرجع بها الا اذا أقبل الليل .
و في ذات يوم أبصر الغلام المكي عبد الله بن مسعود كهلين عليهما الوقار يتجهان نحوه من بعيد و قد اخذ الجهد منهما كل مأخذ واشتد عليهما الظمأ حتي جفت منهما الشفاه والحلوق ، فلما وقفا عليه سلما و قالا : يا غلام ، احلب لنا من هذه الشياه ما نطفئ به ظمأنا و نبل عروقنا ، فقال : لا افعل فالغنم ليست لي و أنا عليها مؤتمن ، فلم ينكر الرجلان قوله و بدا علي وجهيهما الرضا عنه .
ثم قال له أحدهما : دلني علي شاة لم ينز عليها فحل فأشار الغلام إلي شاة صغيرة قريبة منه ، فتقدم منها الرجل واعتقلها و جعل يمسح ضرعها بيده و هو يذكر عليها اسم الله فنظر إليه الغلام في دهشة ، و قال في نفسه : و متي كانت الشياه الصغيرة التي لم تنز عليها الفحول تدر لبنا .
لكن ضرع الشاة ما لبث أن انتفخ و طفق اللبن ينبثق منه ثرا غزيرا ، فأخذ الرجل الآخر حجرا مجوفا من الأرض و ملأه باللبن و شرب منه هو و صاحبه ثم سقياني معهما ، و أنا لا أكاد اصدق ما أري فلما ارتوينا ، قال الرجل المبارك لضرع الشاة : انقبض فما زال ينقبض حتي عاد الي ما كان ، عند ذلك قلت للرجل المبارك : علمني من هذا القول الذي قلته ، فقال لي : إنك غلام معلم .
كانت هذه هي بداية قصة عبد الله بن مسعود مع الإسلام ، إذ لم يكن الرجل المبارك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم و لم يكن صاحبه إلا الصديق رضي الله عنه ، فقد نفرا في ذلك اليوم إلي شعاب مكة لفرط ما أرهقتهما قريش و لشدة ما أنزلت بهما من بلاء .
و كما أحب الغلام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، و تعلق بهما ، فقد أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالغلام و أكبرا أمانته و حزمه و توسما فيه الخير ، لم يمض غير قليل حتي أسلم عبد الله وعرض نفسه علي رسول صلى الله عليه وسلم ليخدمه فوضعه الرسول صلى الله عليه وسلم في خدمته .
و منذ ذلك اليوم انتقل الغلام المحظوظ عبد الله بن مسعود من رعاية الغنم إلي خدمة سيد الخلق والأمم لزم عبد الله رسول الله صلي الله عليه و سلم ملازمة الظل لصاحبه فكان يرافقه في حله و ترحاله و يصاحبه داخل بيته و خارج
إذ كان يوقظه إذا نام و يستره إذا اغتسل و يلبسه نعليه إذا أراد الخروج ، و يخلعهما من قدميه إذا أراد الدخول و يحمل له عصاه و سواكه و يلج الحجرة بين يديه اذا أوي الي حجرته .
بل ان الرسول صلي الله عليه و سلم أذن له بالدخول عليه متي شاء و الوقوف علي سره من غير تحرج و لا تأثم ، حتي دعي ( بصاحب سر ) رسول الله صلي الله عليه و سلم ، رُبِّىَ عبد الله بن مسعود فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاهتدى بهديه وتخلق بشمائله وتابعه فى كل خصلة حتى قيل عنه : أنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا .
وتعلم ابن مسعود فى مدرسة الرسول صلوات الله عليه فكان من أقرإ الصحابة للقرآن وأفقههم لمعانيه وأعلمهم بشرع الله ، ولا أدل على ذلك من حكاية ذلك الرجل الذى أقبل على عمر بن الخطاب وهو واقف (بعرفة) فقال له :جئت يا أمير المؤمنين من (الكوفة) وتركت بها رجلا يملى المصاحف عن ظهر قلبه فغضب عمر غضبا قلما غضب مثله وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتى الرحل .
وقال : من هو ويحك ؟ قال : عبد الله بن مسعود فما زال ينطفىء ويسرى عنه حتى عاد الى حاله ثم قال : ويحك والله ما أعلم أنه بقى أحد من الناس أحق بهذا الأمر منه وسأحدثك عن ذلك واستأنف عمر كلامه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر ذات ليلة عند أبى بكر ويتفاوضان فى أمر المسلمين وكنت معهما ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه فاذا رجل قائم يصلى بالمسجد لم نتبينه .
فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع اليه ثم التفت الينا وقال : (من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما نزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ) ثم جلس عبد الله بن مسعود يدعو فجعل الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له : (سل تعطه ، سل تعطه ) .
ثم أتبع عمر يقول : فقلت فى نفسى : والله لأغدون على عبد الله بن مسعود ولأبشرنه بتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم على دعائه فغدوت عليه فبشرته فوجدت أبا بكر قد سبقنى اليه فبشره ولا والله ما سابقت أبا بكر الى خير قط الا سبقنى اليه .
ولقد بلغ من علم عبد الله بن مسعود بكتاب الله أنه كان يقول : والله الذى لا اله غيره ما نزلت أية من كتاب الله وأنا أعلم أين نزلت وأعلم فيما نزلت ولو أعلم أن أحدا أعلم منى بكتاب الله تناله المطى لأتيته ، لم يكن عبد الله بن مسعود مبالغا فيما قاله عن نفسه .
فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يلقى ركبا فى سفر من أسفاره والليل مخيم يحجب الركب بظلامه وكان فى الركب عبد الله بن مسعود فأمر عمر رجلا أن يناديهم : من أين القوم ؟ فأجابه عبد الله : من الفج العميق ، فقال عمر : أين تريدون ؟ فقال عبد الله : البيت العتيق ، فقال عمر : إن فيهم عالما وأمر رجلا فناداهم : أى القرءان أعظم ؟ فأجابه عبد الله : ( الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ) .
قال : نادهم أى القرءان أحكم ؟ فقال عبد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى ) فقال عمر : نادهم أى القرءان أجمع ؟ فقال عبد الله : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) فقال عمر : نادهم أى القرءان أخوف ؟ فقال عبد الله : ( ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) .
فقال عمر : نادهم أى القرءان أرجى ؟ فقال عبد الله : ( قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو التواب الرحيم ) فقال عمر : نادهم أفيكم عبد الله بن مسعود ؟ قالوا : اللهم نعم ، ولم يكن عبد الله بن مسعود قارئا عالما عابدا زاهدا فحسب وإنما كان مع ذلك قويا حازما مجاهدا مقداما إذا جد الجد .
فحسبه أنه أول مسلم على ظهر الأرض جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكة وكانوا قلة مستضعفين فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهم إياه؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا أسمعهم إياه ، فقالوا : إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلا له عشيرة تحميه وتمنعه منهم اذا أرادوه بشر .
فقال : دعونى فإن الله سيمنعنى ويحمينى ثم عدا إلى المسجد حتى أتى مقام ابراهيم فى الضحى وقريش جلوس حول الكعبة فوقف عند المقام وقرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم ، رافعا صوته ، الرحمن _ علم القرءان _ خلق الإنسان _ علمه البيان ) ، ومضى يقرؤها فتأملته قريش وقالت : ماذا قال ابن أم عبد ؟ تبا له إنه يتلو بعض ما جاء به محمد .
وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه فقالوا له : هذا الذى خشينا عليك ، فقال : والله ما كان أعداء الله أهون فى عينى منهم الآن وإن شئتم لأغادينهم بمثله غدا قالوا : لا حسبك لقد أسمعتهم ما يكرهون .
عاش عبد الله بن مسعود إلى زمن خلافة عثمان رضى الله عنه ، فلما مرض مرض الموت جاءه عثمان عائدا فقال له : ما تشتكى ؟ قال : ذنوبى ، قال : ما تشتهى ؟ قال : رحمة ربى قال : ألا أمر لك بعطائك الذى امتنعت عن أخذه منذ سنين قال : لا حاجه لى به ، قال : يكون لبناتك من بعدك ، قال: أتخشى على بناتى الفقر ، إنى أمرتهن أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة ، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ) .
ولما أقبل الليل لحق عبد الله بن مسعود بالرفيق الأعلى ولسانه رطب بذكر الله ندى بآياته البينات ، فصلى عليه جموع من المسلمين فيهم الزبير بن العوام ، ثم دفن فى البقيع يرحمه الله ، رحم الله عبد الله بن مسعود و جزاه عن الإسلام و المسلمين خير الجزاء .