نشر أخبار الجريمه فى الوسائل الإعلامية بين مؤيدين ومعارضين
نشر أخبار الجريمه فى الوسائل الإعلامية
بين مؤيدين ومعارضين
مقــــــدمة:
يثور جدل بين أوساط الإعلاميين ورجال الأمن والعدالة الجنائية حول جدوى نشر الأخبار الخاصة بالجرائم في وسائل الإعلام، وما إذا كان النشر مفيدا أم ضارا، وما إذا كان يساعد في تقليص أعداد الجرائم أو انه يساعد على زيادتها والإيحاء بأنها أمور تحدث كل يوم وفي كل المجتمعات ما يعني إن الجريمة مهما كانت بشعة تظل "ظاهرة طبيعية" في جميع المجتمعات البشرية. الذين يفضلون عدم النشر يجادلون بأن نشر أخبار الجريمة يساعد على الترويج لها وللطرق المختلفة لارتكابها. تلك الطرق التي قد تنم أحيانا عن ذكاء المجرم عندما لا يترك أثر يساعد رجال العدالة الجنائية على الوصول إليه. وهم يجادلون أيضا بأن نشر أخبار الجريمة ومع مرور الوقت قد يهون من فداحة الجريمة في ما قد يدفع البعض إلى ارتكاب الجريمة. أما الذين يرون أهمية النشر فأنهم يجادلون بأن تكثيف نشر أخبار الجرائم يساعد في "خلق وعي جماهيري" تجاه فداحة الجريمة كسلوك غير سوي. وهم يجادلون كذلك إن من وظائف الإعلام نقل الوقائع كما هي بصرف النظر عن موقفنا منها. أيضا فأنهم يجادلون بأهمية اطلاع الفرد على ما يدور حوله، وانه لا يعيش في مجتمع ملائكي كما يريد البعض إن يصور ذلك بل يعيش في مجتمع بشري بامتياز تكون الجريمة فيه خبزاً يومي لرجال الشرطة.
نتناول هنا موقف وحجج الطرفين: من يؤيدون النشر، ومن يعارضونه بهدف الوصول إلى نتيجة حول ما إذا كان النشر مفيدا أم أنه مجرد جريمة أخرى تتم باسم حرية الإعلام؟!
المــــؤيــــدون للنـــــشر:
يرى عدد كبير من المؤيدين لنشر أخبار الجريمة إن النشر يعد عملا مفيدا ولا سيما إن عدد قراء الصحف ومشاهدي التلفزيون كبير وانه يلزم الوصول إلى هؤلاء لأخبارهم بكل ما يدور في المجتمع سواء كانت أحداث سارة أم غير ذلك. ومن وجهة نظر هؤلاء فأن نشر أخبار الجريمة يساهم في خلق وعي جماهيري حول بشاعتها ما قد يؤدي إلى تناقص عدد الجرائم. بذلك يعد النشر عملا لا غبار عليه من الناحية الأخلاقية؛ فمهمة الصحفي ورجل الإعلام تصبح موازية لمهمة رجل العدالة فالجميع يسعى إلى تحقيق العدالة ولكن كل بأسلوبه. ويمكن تلخيص أراء المؤيدين للنشر بما يلي:
أولا: إن وسائل الإعلام كالصحافة هي "مرآة المجتمع" ومن ثم يجب أن تعكس كل ما يدور في المجتمع بصرف النظر عن موقف الأفراد مما ينشر وما إذا كانوا يتفقون أو يختلفون معه. ويرى المؤيدون للنشر إن العنف بكل صوره بما في ذلك الجرائم البشعة كالقتل والاغتصاب والسرقة تعد ظواهر اجتماعية يلزم التنبيه إليها؛ ليعلم الأفراد حقيقة المجتمع الذي يعيشون به وانه ليس مجتمعا طهرانيا كما يريد معارضو النشر التأكيد عليه.
ثانيا: إن نشر أخبار الجريمة يعد وسيلة من وسائل الوقاية منها، فعندما يتم نشر أخبار الجرائم وأساليب المجرمين في ارتكاب جرائمهم فأن ذلك يدفع أفراد المجتمع لاتخاذ سبل الحيطة والحذر و الابتعاد عن المواقف التي قد تسبب وقوع الجريمة، وكذلك الأماكن التي عادة ما ترتفع وتيرة الجريمة فيها كبعض أحياء المدن الكبرى (هارلم في نيويورك، سوهو في لندن، والأجزاء الغربية من العاصمة الأمريكية واشنطن على سبيل المثال لا الحصر).
ثالثا: يجادل المؤيدون للنشر بأن التسليط الإعلامي على أخبار الجريمة يخلق وعيا جماهيريا ينجم عنه في نهاية المطاف بروز رأي عام يضغط باتجاه إجراء إصلاح لنظام العدالة الاجتماعية خاصة إذا كانت فيه ثغرات ينفذ منها المجرمون. إن النشر في هذه الحالة يساعد على تشكيل "رأي عام مستنير" تجاه القضايا الاجتماعية كقضية العنف.
رابعا: إن النشر يساعد رجال الأمن في تعقب المجرمين والقبض عليهم وتنبيه الجمهور بخطورتهم. وكثير من وسائل الإعلام وخاصة الصحافة تسلط الضوء على نمط من المجرمين يطلق عليهم "سفاحون" أو serial killer بهدف تعميم صورهم ما يدفعهم إلى تقليص أعداد جرائمهم - على الأقل- عندما لا يتم إلقاء القبض عليهم.
خامسا: إن النشر يساعد الأطفال في التعرف على الخير والشر والتمييز بينهما قبل نزولهم إلى معترك الحياة. وغني عن الذكر إن بعض الجرائم كالاغتصاب يكون ضحاياها أطفال يتم التغرير بهم حيث تبدأ الجريمة عادة باختطاف الحدث ثم اغتصابه وربما قتله في مرحلة لاحقة لمحو أثر الجريمة. وعليه من الأهمية بمكان نشر أخبار الجرائم ليعلم عنها الأطفال مع تنبيههم إلى ما يجب عليهم القيام به عندما يواجهون مواقف مشابهة.
سادسا: إن نشر أخبار الجريمة ومتابعة تفاصيلها جنائيا و قضائيا في وسائل الإعلام يجعل الناس تطمئن إلى نظام العدالة الجنائية وانه يقوم بدوره كما ينبغي، وان مقولة "الشرطة في خدمة الشعب" هي صحيحة إلى حد كبير. إن النشر في هذه الحالة يشعر رجال الشرطة و العدالة أنهم ليسوا بمأمن من رقابة المجتمع ما يدفعهم إلى بذل جهود مضاعفة للقيام بأعمالهم على أكمل وجه لأن الصحافة سوف تفضحهم عندما يتقاعسون عن واجبهم تجاه أمن المجتمع. ومن فوائد النشر أيضا انه يشبع في أفراد المجتمع رغبة التشفي من المجرمين، ومن ثم انصراف الضحايا وذويهم عن أخذ الثأر فيما لو لم يحصل الجناة على العقاب الرادع. غني عن الذكر إن الثأر من المجرم بواسطة أهل وأقارب الضحية يصبح هو البديل المتوقع عندما تتقاعس أجهزة العدالة الجنائية والقضائية عن القيام بواجبها تجاه الضحية والمجتمع. وحقيقة فأن الصحافة تقوم بعرض كل ما يخص الجريمة بما في ذلك الأحكام الصادرة على المجرمين، وهي تقوم كذلك بفضح النظام الجنائي والقضائي عندما يتقاعس في التعامل مع الجريمة وردع المجرمين. ما تقوم به الصحافة ووسائل الإعلام من دور في هذا الجانب يبث الطمأنينة لدى الجمهور.
المعـــــارضــــــون للنــــــــــشر
يتأسس رأي معارضي النشر على الفكرة التي مؤداها إن نشر أخبار الجرائم يساعد في الترويج لها عند الناشئة، وذلك عندما تعرض أخبار الجريمة بطريقة دراماتيكية وأحيانا بإطار "تشويقي" من خلال عناوين المانشيت اللافتة كما تفعل معظم الصحف والمجلات. وبعض المؤسسات الإعلامية تستخدم ذلك الأسلوب في وسائلها المطبوعة والمرئية لترويج منتجاتها في ظل التنافس القوي بين وسائل الإعلام. ولعل جريدة "الصن" الانجليزية وهي صحيفة تابلويد يومية خير مثال على ما نقول فهي متخصصة بما يطلق عليه أخبار "الحش" gossip كالفضائح والعري، ناهيك عن أخبار الجرائم فهي من خلال تلك الموضوعات تروج لنفسها إضافة إلى وضع صور فتاة وغالبا فنانة معروفة بحيث تبدو عارية أو فنانة نصف عارية في أفضل الأحوال على صفحتها الأولى. ولدوافع تسويقية فأن الجريدة تلجأ إلى أسلوب التشويق لدفع القاري لشرائها من خلال نشر تفاصيل الجريمة الواحدة على شكل سلسلة من التحقيقات اليومية بهدف اطلاع القراء على تفاصيل الجريمة يوما بيوم كما تزعم. ويتفق المعارضون للنشر على إن نشر أخبار الجرائم وخاصة جرائم الاغتصاب بتلك الصور لا يساعد في الحد من الجريمة والوعي بخطورتها، بل إن النشر قد يكون عاملا في إثارة الغرائز وخاصة عند نشر أخبار الجرائم الجنسية حيث يسلط الضوء عليها بدرجة تتجاوز نقل الحقائق إلى الإثارة "المقصودة" من قبل الصحف لأهداف ترويجية وتسويقية وهو ما يأتي بمردود عكسي. ويمكن تلخيص حجج المعارضين للنشر بما يلي:
أولا: إن نشر أخبار الجريمة بشكل سطحي وغير مدروس قد يتضمن تعظيم صورة المجرم من خلال إبراز ذكائه وكأنه البطل الضحية الذي يواجه رجال الأمن والعدالة الجنائية. والنشر بهذه الصورة يذكرنا بالمسلسلات والأفلام الأمريكية التي تعرض الجريمة بأساليب مشوقة ومن ثم خطورة تأثر المراهقين بما يشاهدونه.
ثانيا: إن نشر أخبار الجريمة وبصورة مستمرة قد يزعزع ثقة الأفراد بالمثل والقيم والتقاليد الفاضلة التي يحيون بها ومن أجلها، الأمر الذي يحدث بلبلة اجتماعية وربما شعور الأفراد بالاغتراب الذي تحدث عنه علماء الاجتماع والذي يعدونه أحد دوافع الانتحار كما يجادل أيميل دوركايم.
ثالثا: قد تصدر وسائل الأعلام أحكاما مسبقة على المتهمين من خلال اتخاذ موقف من الجريمة وأطرافها وربما موقف من القضاء، ومن ثم توجيه الرأي العام مما يؤثر على سير المحاكمة والنأي بها عن العدالة في طريقة التعامل مع المتهمين. وقد حدث هذا الأمر في محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين وأعوانه حيث كانت ضغوط الرأي العام على القضاة والمحامين شديدة الأمر الذي نجم عنه تصفية أحد محاميي الرئيس وتغيير القاضي عدة مرات. وكثير من رجال العدالة لا يمانعون النشر ولكنهم يفضلون ذلك بعد المحاكمة وبعد صدور حكم نهائي غير قابل للنقض حتى لا تحدث بلبلة خلال المحاكمة.
رابعا: يتم في الغالب نشر أخبار الجريمة بصورة مغايرة للواقع بدافع التشويق- كما أشرنا سابقا- ومن ثم تنحرف وسيلة الإعلام عن مهمتها الرئيسية في خلق الوعي الجماهيري لتصبح وسيلة تجارية بحتة وهو خطأ ترتكبه كثيرا من وسائل الإعلام وهو ما دللنا عليه بأسلوب "جريدة الصن" الانجليزية على سبيل المثال لا الحصر.
خامسا: يقوم بعض الصحفيين بنشر أخبار الجريمة دون الرجوع إلى المصادر الرسمية التي يمكنها تزويدهم بالمعلومة الصحيحة، ومن ثم تأتي أخبارهم ناقصة ومبتورة. ويتعلل الصحفيون بأن الجهات الرسمية لا تتعاون معهم انطلاقا من مقولة "ما كو أوامر" بمعنى إن بعض الناطقين الرسميين باسم جهاز العدالة والمخولون بالتصريح للصحافة يتذرعون بأنهم غير مسموح لهم بتمرير أي معلومة إلى وسائل الإعلام خلال مرحلة التحقيق. هذا الأسلوب يدفع بعدد من المحررين إلى كتابة تحقيقات صحفية عن الجريمة وأحيانا إيراد معلومات تفصيلية عنها اعتمادا على مصادر ربما كانت غير موثوقة كالشهود والجيران. هذا النوع من الشهود قد يبالغون وقد لا يقدمون الحقائق كما يجب لأنهم يدلون بمعلوماتهم إلى صحفي وليس إلى رجل أمن. ويعتقد بعض المعارضين لنشر أخبار الجرائم إن النشر قد يدخل تحت باب "إشاعة الفاحشة" في المجتمع، وهو ما يعني إن لدى المعارضين تصور سلبي مسبق عن الصحفيين وأنهم بنشر أخبار الجرائم والوقوعات يساهمون في نشر الفاحشة!!
خـــــــــــــــلاصة
من خلال استعراض مواقف الطرفين المؤيدة والمعارضة لنشر أخبار الجريمة في وسائل الإعلام يتبين لنا إن النشر يعد سلاحا ذو حدين؛ ففي الوقت الذي يرى البعض انه يساعد على التوعية بأخطار الجرائم وفداحتها مما يؤمل أن يحد من الجريمة، فأن هناك في الوقت ذاته من يجادل بأن النشر قد يعد عاملا مساعدا في ترويج وتطبيع الجريمة بمعنى النظر إليها كأمر طبيعي الأمر الذي قد ينجم عنه ازدياد نسبتها في المجتمع. وحقيقة فأن كلا الطرفين يتبنى طرحا مقنعا في هذا الجانب وكلاهما ينظر إلى الأمر من زاويته الخاصة بناء على اعتبارات مهنية فرجال العدالة الجنائية ربما فضلوا عدم النشر إلا في مراحل لاحقة على شكل إحصاءات سنوية، وربما نشر أخبارا لجرائم بعد صدور الأحكام القضائية الخاصة بمرتكبيها؛ بمعنى إنهم يميلون إلى النشر ولكن في أضيق الحدود. أما رجال الإعلام ومن منطلق مهني فأن معظمهم ربما يفضلون النشر انطلاقا من مقولة إن الإعلام يقدم كذلك رسالة هادفة.
وبما إننا في عصر الثورة المعلوماتية وسرعة تدفق المعلومات وانه لا يمكن إخفاء الحقائق إلى الأبد كما كانت الحال عليه قبل عدة سنوات فأنه من المنطقي بل والمفيد نشر أخبار الجرائم في وسائل الإعلام شريطة إن يراعي القائمون على وسائل الإعلام عدة اعتبارات أخلاقية ومهنية تتمثل بما يلي:
أولا: لابد أن يدرك الإعلاميون إنهم يحملون رسالة، وان دورهم لا يقتصر على نقل الأخبار والمعلومات كما هي ولكنهم يحملون الهم التوعوي والتثقيفي للمتلقي. وبعض الإعلاميين قد يميل إلى فكرة "السبق الإعلامي" دون مراعاة للجانب الأخلاقي وثقافة المجتمع، وعليه من الأهمية بمكان أن تكون النزعة الأخلاقية "أولوية" انطلاقا من حقيقة إن الإعلامي الحقيقي هو من يقدم رسالة هادفة وتنويرية في المقام الأول.
ثانيا: عند تناول أخبار الجرائم ونشرها لابد أن يتم ذلك برصانة ومهنية عالية بعيدا عن التسرع والتسطيح في النقل. لابد من التركيز على حقيقة إن الجريمة بكافة أشكالها تعد سلوكا مرفوضا وشاذا، مع النأي عن تمجيد المجرم أو ذكائه والذي تمارسه دون قصد بعض وسائل الإعلام، مع تذكير المتلقي إن المجرم سينال عقابه.
ثالثا: لابد إن تنأى وسائل الإعلام عن أسلوب العمل التجاري؛ أي الإفادة من الجريمة من حيث كونها وسيلة لتوزيع المطبوعة، كما تفعل بعض الصحف التي تميل إلى أسلوب الإثارة الصحفية دون مراعاة لمشاعر الضحية وأطرافها.
رابعا: لابد من التنسيق التام بين رجال العدالة الجنائية والإعلاميين بحيث يحصل الإعلامي والصحفي على المعلومة الصحيحة والموثوقة من مصادرها الأصلية شريطة أن يقوم رجال العدالة الجنائية بواجبهم حيال هذه المسألة فيوفرون المعلومات لوسائل الإعلام بالشروط التي لا تخل بسير القضية والتأثير على مسارها إذا كانت لا تزال قيد التحقيق. ومعظم الجهات الأمنية تحدد متحدثا إعلاميا باسمها كما فعلت وزارة الداخلية السعودية، وتنحصر مهمته في تقديم المعلومة الصحيحة لوسائل الإعلام منعا للتخرصات وتضليل الرأي العام بتحليلات غير علمية.
خامسا: من الأهمية بمكان أن لا يتبنى الصحفي والإعلامي عموما موقف مسبق من القضية التي يتناولها حتى لا يؤثر على الرأي العام أو على أطرافها أو القضاء أو دفع أفراد المجتمع لتبني مواقف تنطلق من اعتبارات شخصية أو مناطقية أو قبلية أو عرقية أو مذهبية. يجب أن يتحلى الإعلامي بالموضوعية الصارمة والابتعاد عن الأحكام المسبقة، مع التذكير إن الجريمة تظل سلوكا مرفوضا، وان المتهم بريء حتى تثبت إدانته.......