بحث عن الإمام الذهبي - بحث تعليمى فى الامام الذهبى -المولد والنشأة والتعريف
لم تعرف المكتبة العربية مؤرخًا غزير الإنتاج، متنوع التأليف مثل الإمام الذهبي، وقد بلغت مؤلفاته التاريخية وحدها نحو مائة وخمسين كتابًا، بعضها يتجاوز المجلدات ذوات العدد. ولا تقتصر هذه المؤلفات على عصر معين أو فئة محددة أو تنظيم واحد، بل تتجاوز ذلك كله لتشمل جميع عصور الإسلام.
ويجمع الذهبي بين ميزتين لم يجتمعا إلا للأفذاذ القلائل في تاريخنا، فهو يجمع إلى جانب الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي حوادث ورجالاً، المعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها.
والذهبي من العلماء الذين دخلوا ميدان التاريخ من باب الحديث النبوي وعلومه، وظهر ذلك في عنايته الفائقة بالتراجم التي صارت أساس كثير من كتبه ومحور تفكيره التاريخي.
المولد والنشأة
في مدينة دمشق الفيحاء ولد محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي في (ربيع الآخر 673هـ= أكتوبر 1274م). نشأ في أسرة كريمة تركمانية الأصل، يعمل عائلها في صناعة الذهب، فبرع فيها وتميز حتى عُرف بالذهبي، وكان رجلا صالحًا محبًا للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم. وكان كثير من أفراد عائلته لهم انشغال بالعلم، فشب الوليد يتنسم عبق العلم في كل ركن من أركان بيته؛ فعمته "ست الأهل بنت عثمان" لها رواية في الحديث، وخاله "علي بن سنجر"، وزوج خالته من أهل الحديث.
وفي سن مبكرة انضم إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم حتى حفظه وأتقن تلاوته. ثم اتجهت عنايته لما بلغ مبلغ الشباب إلى تعلم القراءات وهو في الثامنة عشرة من عمره، فاتصل بشيوخ الإقراء في زمانه من أمثال: جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن داود العسقلاني المتوفى سنة (692هـ= 1292م)، والشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غالٍ المتوفى سنة (708هـ= 1308م)، وقرأ عليهما القرآن بالقراءات السبع، واتصل بغيرهما من أهل هذا الفن حتى أتقن القراءات وأصولها ومسائلها. وبلغ من إتقانه لهذا الفن وهو في هذه السن المبكرة أن تنازل له شيخه محمد عبد العزيز الدمياطي عن حلقته في الجامع الأموي حين اشتد به المرض.
وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات مال الذهبي إلى سماع الحديث الذي ملك عليه نفسه، فاتجه إليه، واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلته الطويلة في طلبه.
رحلات الذهبي واتصاله بشيوخ العصر
كانت رحلاته الأولى داخل البلاد الشامية، فنزل بعلبك سنة (693هـ= 1293م)، وروى عن شيوخها، ثم رحل إلى حلب وحماة وطرابلس والكرك ونابلس والرملة والقدس، ثم رحل إلى مصر سنة (695هـ= 1295هـ) وسمع من شيوخها الكبار، على رأسهم ابن دقيق العيد المتوفى سنة (702هـ= 1302م) وذهب إلى الإسكندرية فسمع من شيوخها، وقرأ على بعض قرائها المتقنين القرآن بروايتي ورش وحفص، ثم عاد إلى دمشق.
وفي سنة (698هـ= 1298م) رحل الذهبي إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان يرافقه في هذه الرحلة جمع من شيوخه وأقرانه، وانتهز فرصة وجوده هناك فسمع الحديث من شيوخ مكة والمدينة.
وإذا كانت عناية الذهبي الرئيسية منصبّة على الحديث، فإنه لم ينشغل بذلك عن دراسة العلوم الأخرى، فدرس النحو والعربية على شيخه ابن أبي العلاء النصيبي، وبهاء الدين بن النحاس إمام أهل الأدب في مصر، واهتم بكتب المغازي والسير والتاريخ العام وكتب التراجم.
وفي الوقت نفسه اتصل بثلاثة من شيوخ العصر وترافق معهم، وهم: ابن تيمية المتوفى سنة (728هـ= 1327م)، وجمال الدين المزي المتوفى سنة (739هـ= 1338م) والبرزالي المتوفى سنة (739هـ= 1338م). وقد جمع بين هؤلاء الأعلام طلب الحديث، وميلهم إلى آراء الحنابلة ودفاعهم عن مذهبهم. ويذكر الذهبي أن البرزالي هو الذي حبب إليه طلب الحديث.
نشاطه العلمي
بعد أن أنهى الذهبي رحلاته في طلب العلم ومقابلة الشيوخ وهم أعداد غفيرة تجاوزت الألف، اتجه إلى التدريس وعقد حلقات العلم لتلاميذه، وانغمس في التأليف والتصنيف، وبدأت حياته العلمية في قرية "كفر بطنا" بغوطة دمشق حيث تولى الخطابة في مسجدها سنة (703هـ=1303م) وظل مقيمًا بها إلى سنة (718هـ= 1318م). وفي هذه القرية ألف الذهبي خير كتبه. وتعد الفترة التي قضاها بها هي أخصب فترات حياته إنتاجًا، ثم تولى مشيخة دار الحديث بتربة أم صالح، وكانت هذه الدار من كبريات دور الحديث بدمشق، تولاها سنة (718هـ= 1318م) بعد وفاة شيخها كمال الدين بن الشريشي، واتخذها سكنًا له حتى وفاته، ثم أضيفت إليه مشيخة دار الحديث الظاهرية سنة (729هـ= 1228م) ومشيخة المدرسة النفيسية في سنة (739هـ= 1338م) بعد وفاة البرزالي، ومشيخة دار الحديث والقرآن التنكزية في السنة نفسها.
وأتاحت له هذه المدارس أن يدرس عليه عدد كبير من طلبة العلم، ويفد عليه للتلقي كثيرون من أنحاء مختلفة بعد أن اتسعت شهرته وانتشرت مؤلفاته، ورسخت مكانته لمعرفته الواسعة بالحديث وعلومه والتاريخ وفنونه، فكان مدرسة قائمة بذاتها، تخرج فيها كبار الحفاظ والمحدثين. وتزخر كتب القرن الثامن الهجري بمئات من تلاميذ الذهبي النجباء، وحسبه أن يكون من بينهم: عبد الوهاب السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى، والحافظ ابن كثير، وصلاح الدين الصفدي، وابن رجب الحنبلي وغيرهم.
مؤلفاته
ترك الإمام الذهبي إنتاجًا غزيرًا من المؤلفات بلغ أكثر من مائتي كتاب، شملت كثيرًا من ميادين الثقافة الإسلامية، فتناولت القراءات والحديث ومصطلحه، والفقه وأصوله والعقائد والرقائق، غير أن معظم هذا الإنتاج يستغرقه علم التاريخ وفروعه، ما بين مؤلف ومختصَر ومنتقى ومعجم الشيوخ وسيرة.
وثلث هذا العدد مختصرات قام بها الذهبي لأمهات الكتب التاريخية المؤلفة قبله، فاختصر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ نيسابور لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وتاريخ مصر لابن يونس، وكتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، والتكملة لوفيات النقلة للمنذري، وأسد الغابة لابن الأثير. وقد حصر الدكتور شاكر مصطفى الكتب التي اختصرها الذهبي في 367 عملا.
وإلى جانب هذه المختصرات له كتب في التاريخ والتراجم مثل: تذكرة الحفّاظ، وميزان الاعتدال، ومعرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، والمعين في طبقات المحدّثين، وديوان الضعفاء والمتروكين، والعبر في خبر من عبر، والمشتبه في أسماء الرجال، ودول الإسلام، والمغني في الضعفاء، غير أن أشهر كتبه كتابان هما:
تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام
وهو أكبر كتبه وأشهرها، تناول فيه تاريخ الإسلام من الهجرة النبوية حتى سنة (700هـ= 1300م) وهي فترة ضخمة في مدتها الزمنية، واتساع نطاقها المكاني الذي يشمل العالم الإسلامي بأسره. وتضمن هذا العمل الفذ الحوادث الرئيسية التي مرت بالعالم الإسلامي، وتعاقب الدول والممالك، مع تراجم للمشهورين في كل ناحية من نواحي الحياة دون اقتصار على فئة دون أخرى، ويبلغ عدد من ترجم لهم في هذا الكتاب الضخم أربعين ألف شخصية، وهو ما لم يتحقق في أي كتاب غيره.
ويحتوى الكتاب على مادة واسعة في التاريخ السياسي والإداري، انتقاها من مصادر كثيرة ضاع معظمها فلم تصل إلى أيدينا، وعلى ذكر للأحوال الاقتصادية للدولة الإسلامية والتطورات التي حلت عليها.
ويصور الكتاب الحياة الفكرية في العالم الإسلامي وتطورها على مدى سبعة قرون، ويبرز المراكز الإسلامية ودورها في إشعاع الفكر ومساعدة الناس، وذلك من خلال حركة العلماء وانتقالهم بين حواضر العلم المعروفة وغير المعروفة، واتساع الحركة وقت دون آخر؛ الأمر الذي يظهر مدى ازدهار المراكز الثقافية أو خمول نشاطها.
ويبين الكتاب من خلال ترجمته لآلاف العلماء وعلى مدى القرون الطويلة التي تعرض لها اتجاهات الثقافة الإسلامية وعناية العلماء بعلوم معينة، ويكشف عن طرائقهم في التدريس والإملاء والمناظرة، ودور المدارس في نشر العلم والمذاهب الفقهية في أنحاء العالم الإسلامي.
وهذا العمل الضخم جرت أكثر محاولة لنشره كاملا، حتى وفق الدكتور عمر عبد السلام التدمري في تحقيقه في نحو خمسين مجلدًا.
سير أعلام النبلاء
وهذا الكتاب هو أضخم أعمال الذهبي بعد كتابه (تاريخ الإسلام) وهو كتاب عام للتراجم التي سبقت عصر الذهبي، وقد رتب تراجمه على أساس الطبقات التي تعني فترة زمنية محددة، وقد جعلها عشر سنوات في كتابه الأم (تاريخ الإسلام) فيذكر الحوادث سنة بعد سنة، ثم يذكر في نهاية الطبقة تراجم الوفيات من الأعلام مع الالتزام بترتيبها على حروف المعجم. في حين جعل الطبقة في سير أعلام النبلاء عشرين سنة، ومن ثم اشتمل الكتاب على خمس وثلاثين طبقة.
ولم يقتصر الذهبي في كتابه على نوع معين من الأعلام، بل شملت تراجمه فئات كثيرة، من الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء والقادة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واللغويين والنحاة، والأدباء والشعراء، والفلاسفة. غير أن عنايته بالمحدثين كانت أكثر، ولذا جاءت معظم تراجمه من أهل العناية بالحديث النبوي دراية ورواية. كما اتسع كتابه ليشمل تراجم الأعلام من مختلف العالم الإسلامي، دون أن تكون له عناية بمنطقة دون أخرى، أو عصر دون آخر.
وقد عني الذهبي في كتبه بالنقد وتقييم الرجال، وإصدار أحكام يعرفها المشتغلون بالحديث، مثل: ثقة وصدوق، ومتروك وكذّاب، ولم تكن مثل هذه الأحكام تصدر عن هوى، بل وفق ضوابط محددة معروفة، لتبين أحوال رجال الحديث لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه. وقد بلغ الذهبي مكانة مرموقة في هذا الفن، ويشهد على ذلك كتابه النفيس: ميزان الاعتدال. وهذه الطريقة النقدية استعملها الذهبي في تراجمه، وإن كان أصحابها من غير أهل الحديث أو ممن لا علاقة لهم بالرواية.
وامتلأ كتابه "السير" بكل أنواع النقد، فلم يقتصر على مجال واحد من مجالاته، فعني بنقد المترجمين، وبيان أحوالهم، وإصدار أحكام عليهم، وانتقاد الموارد التي نقل منها، ونبه إلى أوهام مؤلفها.
وقد غالى الذهبي في نقد بعض الرجال، وهو ما كان سببا لانتقادات بعض معاصريه له، مثل تلميذه عبد الوهاب السبكي.
ويجب التنبيه إلى أن "سير أعلام النبلاء" ليس مختصرًا لتاريخ الإسلام، وإن كانت كل التراجم الموجودة في "السير" سبق أن تناولها الذهبي في "تاريخ الإسلام" تقريبًا، فثمة فروق مبينها يلحظها المطالع للكتابين، فتراجم الصدر الأول في السيرة أغزر مادة من مثيلاتها في تاريخ الإسلام، كما أنه ضمّن "السير" مجموعة من الكتب التي أفردها لترجمة البارزين من أعلام الإسلام، مثل أبي حنيفة وأبي يوسف، وسعيد بن المسبب وابن حزم، وهذه المادة لا نظير لها في كتابه "تاريخ الإسلام".
على أنه يجب أن نقر أن الذهبي استفاد بطريقة أو بأخرى من مادة كتابة الضخم في تأليف "السير"، وأضاف إليها إضافات جديدة، وأعاد تنظيم بعضها. وقد طبع الكتاب بتحقيق "شعيب الأرنؤوط" وآخرين في 25 مجلدًا.
تصانيفه
صنف: التاريخ الكبير؛ ثم الأوسط، المسمى: بالعبر؛ والصغير، المسمى: بدول الإسلام؛ وتاريخه من أجل التواريخ.
وقف الشيخ كمال الدين بن الزملكاني على تاريخ الإسلام له جزءا بعد جزء، إلى أن أنهاه مطالعة، فقال: هذا كتاب جليل؛ وتاريخه المذكور: عشرون مجلدا؛
• سير أعلام النبلاء، 25 مجلداً.
• طبقات القراء.
• طبقات الحفاظ، مجلدين.
• ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ثلاث مجلدات.
• المثبت في الأسماء والأنساب، مجلد.
• نبأ الرجال، مجلد.
• تهذيب التهذيب، مجلد.
• اختصار سنن البيهقي، خمس مجلدات.
• تنقيح أحاديث التعليق لابن الجوزي.
• المستحلي اختصار المحلي.
• المقتنى في الضعفاء.
• اختصار المستدرك للحاكم، مجلدان.
• اختصار تاريخ الخطيب، مجلدان.
• توقيف أهل التوفيق، على مناقب الصديق؛ مجلد.
• نعم السمر، في سيرة عمر؛ مجلد.
• التبيان، في مناقب عثمان؛ مجلد.
• فتح الطالب، في أخبار علي بن أبي طالب؛ مجلد.
• معجم أشياخه، وهو ألف وثلاثمائة شيخ.
• اختصار كتاب الجهاد لابن عساكر، مجلد.
• ما بعد الموت، مجلد.
• هالة البدر، في عدد أهل بدر.
_له في تراجم الأعيان: مصنف لكل واحد منهم، قائم الذات، مثل: الأئمة الأربعة، ومن يجري مجراهم، لكن أدخل الكل في تاريخ النبلاء.
وفاته
تبوأ الذهبي مكانة مرموقة في عصره تجد صداها فيما ترك من مؤلفاته عظيمة وفي شهادة معاصريه له. ولعل من أبلغ تلك الشهادات ما قاله تلميذه تاج الدين السبكي: "محدث العصر، اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ، بينهم عموم وخصوص: المزي والبرزالي والذهبي والشيخ الوالد، لا خامس لهؤلاء في عصرهم. وأما أستاذنا أبو عبد الله فبصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظًا، وذهب العصر معنى ولفظًا، وشيخ الجرح والتعديل..."، وهذا الكلام ليس فيه مبالغة من السبكي، خاصة أنه كان من أكثر الناس انتقادًا لشيخه.
وظل الذهبي موفور النشاط يقوم بالتدريس في خمس مدارس للحديث في دمشق، ويواصل التأليف حتى كلّ بصره في أخريات عمره، حتى فقد الإبصار تمامًا، ومكث على هذا الحال حتى توفي في (3 من ذي القعدة 748هـ= 4 من فبراير 1348م).
الامام عبدالله بن المبارك
عبد الله بن المبارك ( نظرت في أمر الصحابة و أمر بن المبارك ، فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه و سلم و غزوهم معه ) هذا ما قاله ابن عيينه عن الرجل الصالح عبدالله بن المبارك الذي سنتحدث عن بعض من سيرته فيما يلي ..
الحمد لله ، و صلى الله عليه وسلم .. وبعد …
هو من العلماء و الأئمة المجتهدين و المجاهدين من لهم الفضل ، بعد الله ، في إعلاء كلمة الحق باجتهادهم في شتى العلوم الدينية ( و الدنيوية ) وإن المجتمعات اليوم بحاجة ماسة إلى أن ننشر فيها سيرهم حتى نسهم في ابتعاث ماضيهم الزاهر الزاخر، ليصل حاضر الأمة بماضيها ، وليطلع عليها الشباب المثقف ، ليرى من خلال تلك السير عظمة هؤلاء الرجال الذين بنو مجد الإسلام ، وبالتالي يدرك سر انتشار الإسلام وسر انكماشه على أيدي من بعدهم و يدرك صدق القائل : ( يا له من دين لو أن له رجال !! )
نشأته
ولد ابن المبارك في السنة 118 هـ في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك ، وعاش إلى سنة 181هـ حيث توفي في خلافة هارون الرشيد ..
يحكى عن مبارك أبي عبد الله أنه كان يعمل في بستان لمولاه ، و أن مولاه جاءه يوما و قال له : أريد رماناً حلواً ،فمضى إلى بعض الشجر و أحضر منها رماناً ، فكسره ( صاحب البستان ) فوجده حامضا فحرد عليه و قال : أطلب الحلو و تحضر لي الحامض ؟ هات حلواً ..!!
فمضى و قطع من شجرة أخرى فلما كسره وجده أيضا حامضاً ، فاشتد حرده عليه ، وفعل ذلك ثالثة فذاقه فوجده أيضاً حامضاً ، فقال له بعد ذلك : أنت ما تعرف الحلو من الحامض ؟
قال : لا .. فقال : و كيف ذلك ؟ فقال : لأني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه ... فقال : ولم لم تأكل؟ فقال : لأنك لم تأذن لي بالأكل منه !
فعجب من ذلك صاحب البستان ، و عظم أبو عبد الله مبارك في عين سيده ، و زاد قدره عنده وكان لصاحب البستان بنت خطبت كثيراً ، فقال لمبارك : يا مبارك ، من ترى تزوج هذه البنت ؟
فقال : أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب ، و اليهود للمال ، و النصارى للجمال ، وهذه الأمة للدين. فأعجبه عقله فذهب فأخبر بها أمها و قال لها : ما أرى لهذه البنت زوجاً غير مبارك !
فتزوجها فجاءت بعبد الله بن المبارك ، فتمت عليه نعمة بركة أبية وأنبته الله نباتاً صالحاً و رباه على عينه ..
علمه
قد اتفقت جميع المصادر على أنه كان طلّاباً للعلم نادر المثال ، رحل إلى جميع الأقطار التي كانت معروفة بالنشاط العلمي في عصره .. وفيه يقول عبد الرحمن بن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : كان ابن المبارك ربع الدنيا بالرحلة في طلب الحديث ، لم يدع اليمن ولا مصر و لا الشام ولا الجزيرة و البصرة و لا الكوفة .. و قد شهد له أحمد بن حمبل بذلك أيضاً !!
كان ابن المبارك رحمه الله يقول : خصلتان من كانتا فيه نجا : الصدق ، و حب أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ... و قد كان ينشد العلم حيث رآه و يأخذه حيث وجده ، لا يمنعه من ذلك مانع ، كتب عمن هو فوقه ، و عمن هو مثله ، و تجاوز ذلك حتى كتب العلم عمن هو أصغر منه
وقد روي أنه مات ابن له فعزاه مجوسي فقال : ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد أسبوع. فقال بن المبارك : اكتبوا هذه !!
وقد بلغ به ولعه بكتابة العلم مبلغاً جعل الناس يعجبون منه ، فقد قيل له مرة : كم تكتب ؟ قال : لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد !!
وقد عابه قومه على كثرة طلبه للحديث فقالوا : إلى متى تسمع ؟ فقال إلى الممات !! و عمل عل جمع أربعين حديثا ، و ذلك تطبيقا للحديث النبوي القائل : ( من حفظ على أمتى أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله تعالى يوم القيامة في زمرة الفقهاء و العلماء )
و من شعره :
يقول في الجهاد في سبيل الله ، أنه أفضل العبادات ، و أنه أليق بالمسلم من العكوف في زاوية المسجد و ترك الثغور مفتوحة أمام العدو ... ومن ذلك ما حدث به محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة قال :
أملى علي بن المبارك بطرسوس – ثغر من ثغور الروم – ورقة إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع و سبعين و مائه فيها هذه الأبيات :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا .... لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه .... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتبع خله في باطل .... فخيولنا يوم الصبيحة تتنعب
ريح العبير لكم، و نحن عبيرنا .... رهج السنابك و الغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا .... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في .... أنف امرئ و دخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا .... ليس الشهيد بميت لا يكتب
من أقوال علماء عصره
قال نعيم بن حماد : كان ابن المبارك يُكثر الجلوس في بيته، فقيل له : ألا تستوحش ؟ فقال : كيف استوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟
- قال أشعث بن شعبة المصِّيصي : قدم الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلفَ ابن المبارك، وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فقالت : ماهذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قدم، قالت : هذا والله المُلكُ، لا ملكُ هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرط وأعوان.
- قال محمد بن علي بن الحسن بن شقيق : سمعت أبي قال : كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، وفيقولون : نصحبك، فيقول : هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويُقفل عليها، ثم يكتري له ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال يُنفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مُروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها ؟ فيقول : كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم : ما أمرك عيالُك أن تشتري لهم من متاع مكة ؟ فيقول : كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يُخرجهم من مكة، فلا يزال يُنفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرّوا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صُرته عليها اسمه.
- قال سفيان الثوري : إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام.
- قال ابن عُيينة : نظرت في أمر الصحابة، وأمر عبد الله، فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوهم معه.
- قال القاسم بن محمد بن عباد : سمعت سُويد بن سعيد يقول : رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى شربة، ثم استقبل القبلة، فقال : اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المُنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((ماء زمزم لما شُرب له))وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه.
- قال نعيم بن حماد : كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء، لا يجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه.
- قال أبو حاتم الرازي : حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال : كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فطارده ساعة فطعنه فقتله فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو. فقال : وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنع علينا.
- وقال أبو حسان عيسى بن عبد الله البصري : سمعت الحسن بن عرفة يقول : قال لي ابن المبارك : استعرت قلماً بأرض الشام، فذهبت على أن أرده فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
- قال أسود بن سالم : كان ابن المبارك إماماً يُقتدى به، كان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك فاتهمه على الإسلام.
- قال النسائي: لا نعلم في عصر ابن المبارك أجل من ابن المبارك ولا أجل منه ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه.
- عن الحسن بن عيسى، قال: اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن حسين، ومحمد بن النضر فقالوا : تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا : العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه.
- قال حبيب الجلاب : سألت ابن المبارك، مأخير ما أعطي الإنسان ؟ قال : غريزة عقل، قلت : فإن لم يكن ؟قال : حسن أدب، قلت : فإن لم يكن؟ قال : أخٌ شفيق يستشيره، قلت : فإن لم يكن ؟ قال : صمت طويل، قلت : فإن لم يكن ؟ قال : موت عاجل.
- عن عبد الله قال :إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئة لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن.
- قيل لابن المبارك : إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا ؟ قال : أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم ؟ أنتم تغتابون الناس.
- وجاء أن ابن المبارك سُئل : من الناس ؟ فقال : العلماء، قيل : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد، قيل : فمن الغوغاء ؟ قال : خزيمة وأصحابة (يعني من أمراء الظلمة)، قيل : فمن السفلة ؟ قال : الذين يعيشون بدينهم.
- وعنه قال : إن البصراء لا يأمنون من أربع : ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يُدرى مافيه من الهلكة، وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت يراها هدىً، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
- عن ابن المبارك قال : من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته .
المراجع
1 - عبد الوهاب السبكي: طبقات الشافعية الكبرى ـ تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو ـ هجر للطباعة والنشر ـ القاهرة (1413هـ= 1992م)
2 - ابن كثير: البداية والنهاية ـ تحقيق عبد الله عبد المحسن التركي ـ هجر للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ (1418هـ= 1998م)
3 - بشار عواد معروف: مقدمة تحقيق سير أعلام النبلاء ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت (1412هـ= 1992م)
4- عبد الستار الشيخ: الإمام الذهبي ـ دار القلم ـ دمشق.
5 - شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ 1993م.