الطاعة والعصيان في التربية الاخلاقية الحديثة - بحث علمى عن الطاعة والعصيان في التربية الاخلاقية الحديثة كامل بالتنسيق
تعتبر إشكالية الطاعة والعصيان من صميم إشكاليات التربية الأخلاقية، والتي وظيفتها إخراج الإنسان من حالة الخضوع للغرائز من أجل الامتثال للقوانين والمُثل. يشترك جميع الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع في هذه المقولة الأخيرة، لكن الاختلاف يدور حول المسألة الآتية : ما هي القوانين التي يتعين على الإنسان الفرد أن يخضع لها حتى تكتمل تربيته الأخلاقية ؟ أهي القوانين التي يفرضها المجتمع كما يزعم إميل دوركهايمEmile Durkheim ؟ أم هي الوَصايا التي يستنبطها العقل والتي قد تتعارض مع قوانين المجتمع، كما يدّعي العديد من الفلاسفة العقلانيين من أتباع منهجية "كانط" Kant؟ إذن يتمحور الخلاف حول سؤال من يجب طاعته ومن يجب عصيانه. تلك هي الإشكالية التي طرحناها في كتابنا الاخير
لمن يجب على الإنسان الفرد أن يخضع وبأية شروط ؟
تنطلق التساؤلات في التجارب الأوروبية والأمريكية في التربية الأخلاقية الرسمية، حيث تقضي التربية الأخلاقية في بداية الأمر بتلقين المبادئ والقيم الأخلاقية وبفرضها على المتعلِّم الذي يكتفي باستجوافها وبالامتثال لها. فعلى سبيل المثال شهد التعليم الرسمي الفرنسي انتقالاً من المنهج الديني السلطوي (الملكية والإمبراطورية الثانية) إلى المنهج العلماني السلطوي (الجمهورية الثالثة) والذي كان إميل دوركهايم قد حدد ملامحه النظرية [1]. هذه التربية لم تميّز بين التربية الأخلاقية والتربية المدنية، ولا بين التربية المدنية والتربية القومية (لأن الأمة كانت مبعث القيم والمبادئ).
وسجّلت ردات فعل متباينة على وجهة النظر هذه، والتي أتت لتبرير الممارسة التربوية السائدة في المؤسسة الرسمية الفرنسية أثناء الجمهورية الثالثة, و بلغت ردات الفعل ذروتها في حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي:
فمن جهة ذهب أنصار علم الاجتماع النقدي أمثال بيار بورديوPierre Bourdieu [2] إلى حدّ اتهام العمل التربوي الرسمي بأكمله، بأنه عمل توجيه عقائدي endoctrinement، مما يضع التربية الأخلاقية والمدنية في مرتبة العنف الرمزي الثقافي، الذي تمارسه نخبة مسيطرة في النظام التعليمي على كافة طبقات الشعب المغلوبة من أجل ضبط وإخضاع وتنميط هذه الأخيرة. ومن أصحاب هذه الفكرة من دعا إلى تحرير الفرد من النظم القيمية، التي تفرضها المؤسسة التعليمية. وكان من شأن هذا التقييم النقدي، أن نال من مكانة التربية الأخلاقية داخل نظام التعليم الرسمي أثناء السبعينات والثمانينات
لكن ثمة توجه آخر سيكولوجي النزعة، بيّن أن وظيفة التربية الأخلاقية لا يمكن اختزالها في وظيفة الخضوع لقوانين وأنظمة المجتمع, وإنما قد تدفع الإنسان الفرد إلى تناول هذه الأخيرة بطريقة نقدية، وإلى إثبات استقلاليته الذاتية autonomie ككائنٍ عاقلٍ بوجه النظام القيمي للمجتمع. لقد كان عالم النفس الشهير جان بياجيه Jean Piaget [3] سبّاقاً إلى الكشف عن الأسس السيكولوجية لتربية أخلاقية تحررية، قوامها تحقيق الاستقلالية الذاتية للفرد.
السلوك العقلاني في صياغة التنمية الأخلاقية
يبيّن بياجيه في دراسة له تحت عنوان الحُكم الأخلاقي عند الطفل ، أن التنمية السيكولوجية الأخلاقية للطفل تمر بطورين أساسيين، وأن التربية الأخلاقية التقليدية السلطوية تُبقي عليه في سجن الطور الأوّل. ويأتي التمييز بين طور الطاعة لإرادة المربي الذي يمارس سلطته عليه (سواءً كان الأب أم المُدرِّس)، وبين طورٍ لاحق تظهر ملامحه اعتباراً من العام السابع، ويتميّز بقدرة الطفل ومن ثم المُراهِق على امتلاك قدرة صنع أحكامه القيمية والأخلاقية، وكذلك على الانعتاق من الخضوع المطلق للسلطة الأبوية. ويقابل بياجيه سمات الطور الأول، وهي الطاعة المطلقة للسلطة الأبوية والتركيز على الخوف من العقاب، بسمات الطور الثاني وتقضي بالخضوع للقوانين والأنظمة القيمية التي تجد أساساً عقلانياً ومنطقياً لدى من يتبعها، وتركِّز على فكرتي المساواة والإنصاف في معاملة الأب للأولاد والحاكم للمحكوم.
انطلاقاً من هذه المسلمات السيكولوجية، طوّر بياجيه فكره التربوي حتى استطاع أن يضع أسساً لتربية أخلاقية تكرِّس استقلالية الفرد الذاتية. ومن بين الأساليب التي دعا إليها، نذكر مبدأ الاعتماد على سلوك المتعلِّم الايجابي ((attitude active في تعلّمه، لأن هذا الأخير قادرٌ على استنباط مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة من نشاطه العقلاني، و انطلاقاً من تجربة التعاون التي تنشأ بين المجموعات الصغيرة، ولا تنفع دروس الأخلاق الموجَّهة والتي يلقيها المدرس (الطرف الايجابي) ويتلقاها التلميذ (كطرف سلبي)، في تمليك هذا الأخير للمبادئ الأخلاقية الأساسية. باختصار تتمثّل التربية الأخلاقية في تربيةٍ وظيفتها دفع الإنسان إلى طاعة الأنظمة القيمية العادلة، وإلى الامتثال للقانون ووضعه فوق مالك السلطة مرتبةً، بل إلى عصيان مالك السلطة إذا ما تجاوز تلك النُظُم العادلة.
ويعتبر تصنيف بياجيه منطلقاً للدراسات السيكولوجية التي لحقته، وأبرزها دراسة عالم النفس الامريكي لورنس كوهلبيرغLawrence Kohlberg [4]، الذي أوجد ستة أطوارٍ للتنمية الأخلاقية للفرد، آخرها طور الـ" امتثال للمبادئ الأخلاقية الكونية"، التي على أساسها يتم تبرير ممارسة العصيان المدني للأنظمة الوضعية الظالمة. ويستند تصنيف كوهلبرغ إلى معاينة لتلامذة تقع أعمارهم بين السادسة والسادسة عشرة، توزعوا بين مناطق مختلفة، متباينة من حيث وضعها الاجتماعي والثقافي (منها سان فرنسيسكو وشرقي الاناضول وتايبيه ومنطقة يوكاتان في المكسيك). أما الأطوار الستة فقد عرّفها كما يلي :
1- في الطور الأول يشكل الخضوع للسلطة والخوف من العقاب، الحافز الأساسي للسلوك الاخلاقي للفرد. ويتناسب هذا الطور مع الطور الأول الذي يذكره بياجيه. 2- ثم ينتقل الفرد إلى طورٍ ثان، يسمّى "طور الفردية النفعية" وخلاله يخضع الحكم الأخلاقي للفرد لحساب المصالح في علاقته بصاحب السلطة، حيث يتخذ القرار على ضوء موازنة الثواب والعقاب المنتظر من هذا الأخير. وفي كلا هذين الطورين لا يخضع الفرد للقوانين والأنظمة القيمية، وإنما للأشخاص، أي لأصحاب السلطة حيث أن احترام القوانين لا يظهر إلا كوسيلة لاستمالة هؤلاء، لكسب الثواب واستبعاد العقاب. إننا بصدد أخلاقيات لا تدرك معنى القوانين والنظم pre-conventional morality.
3- بانتقاله إلى الطور الثالث يتقيّد الفرد المعني بالأنماط الاجتماعية القائمة، ولا سيما بمجموعة الأعراف والتقاليد التي تحدد وتوزع الأدوار الاجتماعية. إذن يتقيد الفرد بالصورة المناسبة لدوره في المجتمع (كإبن، كزوج، كعامل، كطالب، إلخ)، وتتمحور أحكامه القيمية حول مبدأ الامتثال للصورة الاجتماعية التي يفرضها المجتمع. 4- ثم ينتقل إلى طورٍ رابعٍ يلقى تسمية "طور القانون والنظام" law and order حيث يخضع الفرد للقوانين المجرّدة ويعتبرها المقياس الأعلى لسلوكه، فيتحرر من البُعد العرفي والذاتي لأحكام الطور السابق. ويضع القانون الوضعي الذي يسود المجتمع فوق أي اعتبار آخر. وهنا يميز كوهلبرغ بين الامتثالية البدائية للطور الاول، والتي تقضي بالخضوع لصاحب السلطة مهما ظلم وبين الامتثالية المتطورة الخاصة بهذا الطور، والتي تقضي بالخضوع للقوانين المجرّدة وليس للأشخاص، مما يتيح فرصة عصيان صاحب السلطة إن لم يمتثل للقانون.
ويطلق كوهلبرغ على الطورين الثالث والرابع تسمية أخلاق "الامتثال للنظم الاجتماعية" conventional morality إذ مع تقدّمهما عن طاعة الأشخاص يظلّ سلوك الفرد امتثالياً عاجزاً عن تجاوز القوانين الوضعية التي يفرضها المجتمع.
5- بانتقاله إلى الطور الخامس يُخضِع العقل النظم والقوانين الوضعية لامتحان العدالة، ويبحث عن شرعيتها. فهي ليست في ذاتها محقّة وشرعية. بل غالباً ما تكون ظالمة، إن لم تستمد مصدرها من عقدٍ اجتماعيٍّ أوليّ يعكس إرادة المواطنين. لهذا السبب سمي الطور الخامس "بطور العقد الاجتماعي". مما يتيح للفرد فرصة الإعراض عن القوانين التي لاتعبِّر عن إرادة جامعة. 6- لكن العقد الاجتماعي نفسه لا يغني بالضرورة عن الظلم، لان الإرادة الجامعة قد تقوم على خطأ بل على ظلم قد يقع على الفئات التي لم يشملها العقد. وتتمثل شوائب هذه الإرادة المؤسسة للمواطنية في التاريخ الحديث، من خلال ممارسات الظلم تجاه الأطراف الخارجة على العقد الاجتماعي (الحروب الاستعمارية والرق والتمييز العنصري). لهذا السبب يقضي الطور السادس والأخير بالامتثال للمبادئ الأخلاقية، التي يقرها العقل والتي بطابعها الكوني والعقلاني تتجاوز مستوى النظم الاجتماعية الوضعية ومضمون العقد الاجتماعي.
ويمثل الطوران الخامس والسادس ما يسمى بأخلاق ما وراء النظم الاجتماعية الوضعية post-conventional morality حيث أن العقل يتجاوز هذه الأخيرة ويخضعها لمقاييس تتعداها ،إلى ما هو مقبول من العقل المشرِّع إذا ما استخدمنا مصطلحا|ً شائعاً لدى أتباع كانط.
تطوير الروح النقدية وتطوير القدرات العقلية للمتعلم
أبعاد نظرية الأطوار الست هذه متعددة، أهمها بعدين أولهما تربوي والآخر سياسي- أخلاقي. فعلى المستوى التربوي , تدفع هذه النظرية المدرِّس إلى تغييرٍ شاملٍ في منهجية تعليم الأخلاق : فبعد أن كان تعليم الأخلاق يتحقق من خلال تلقين الدروس العامّة، التي ينقل المدرس بواسطتها تعريفاً للفضائل إلى المتعلم، أصبحت مبادرة الكشف عن هذه الأخيرة تقع على عاتق المتعلِّم نفسه.
لذا تتبنى منهجية كوهلبرغ الطرق التربوية التي تعتمد على النشاط الذاتي للتلميذ المتعلِّم. فهي تنطلق من النشاط العقلاني الاستدلالي الذي يقوم به هذا الأخير، لأن القيم التي لا بد من تعليمها لا تكتسب مدلولاً ما في ذهن المتعلم، إلا إذا كان هذا الأخير يدرك مبرّرها ويستوعب مدلولها من خلال أدواته العقلانية الخاصة. ثم إنها تعتمد على طريقة جدلية تذكرنا بجدلية سقراط، حيث أن محور التعليم يكمُنُ في طرح وتجاوز المعضلات الأخلاقية moral dilemmas، لا سيما أن هذه الاخيرة تدفع المتعلم إلى ثلاثة أمور هي : تجاوز البديهيات إلى المسائل الاخلاقية، والبحث من خلال منهجيته العقلانية عن حل عقلاني للمعضلة الأخلاقية، وصعود مراتب ومستويات التنمية الأخلاقية وصولاً إلى الطور السادس.
وتتلخص الوظيفة التربوية الأساسية لهذه المنهجية، في تحقيق الاستقلالية الذاتية للحكم الأخلاقي عند المتعلم. وتتحقق هذه الاستقلالية الذاتية من خلال قناعة الفرد العاقل بأن الحكم الأخلاقي الذي يتقيد به، إنما يتطابق مع ما يتطلبه نشاطه العقلاني. إنها مسألة كان الفيلسوف الألماني كانط قد وضّحها حين أثبت أن الحكم الأخلاقي الأصيل، هو ذلك الذي يقر به العقل، بحيث يكون من تقيد به متحرراً مما هو غريب عن ضميره، ومتحرراً من الغرائز التي تتحكم بالنفس وتقيد الإرادة الحرة.
البعد السياسي لسيكولوجية الاطوار الستة : تجاوز المنطق الجمهوري الضيق
أما الوظيفة السياسية - الأخلاقية لهذه النظرية في التربية الأخلاقية، فقوامها الجزم أن المبادئ الأخلاقية الإنسانية تعلو على القواعد السياسية. إنه جدالٌ طرح في الدول الأوروبية، حيث طالبت قوى الأغلبية الأقليات الاثنية والدينية والثقافية بالاعتراف بمبادئ الجمهورية كمرجعٍ أعلى للقيم، وان تضع قيمها الخاصة في المرتبة الثانية. وكثرت المبررات السياسية لهذا المطلب وأهمها المبرر القائل أن ما من جمهورية يكتب لها الدوام، إن لم يكن لها عقدٌ اجتماعي يُجمِعُ عليه المواطنون ويضعوه فوق قناعاتهم الخاصة. ثم ذهب البعض الآخر إلى تأييد مقولة روسو حول أن الإرادة الجامعة (للمواطنين)، وهي أساسٌ للعقد الاجتماعي, لا تخطئ أبداً.
وذهب منظمو المناهج التربوية إلى حد الاستعاضة عن التربية الأخلاقية بالتربية المدنية، باعتبار أنه، في الممارسة لا يمكننا أن نميّز بين البعدين الأخلاقي والسياسي، وأن قمة التربية الأخلاقية تقضي بتكوين وتدريب المواطن، وأن القيم المؤسسة للمدينة هي أساس القيم التي تتقيد بها الجماعات والأفراد. لكننا بينّا فيما سبق كيف أن هذه المقولة قد تؤدي إلى ترسيخ نظام تربوي شمولي (توتاليتاري)، يضع المستوى السياسي فوق كل اعتبار.
ولكن على عكس ما يزعمه روسو، فالإرادة الجامعة قد تخطئ، والعقد الاجتماعي قد يُبنى على ظلم! ويمكن إثبات ذلك مثلاً حتّى من خلال الإطلاع على الفكر السياسي والتربوي الـ"تقدمي" في الولايات المتحدة، ولا سيما من خلال دراسة نصوص هنري دافيد ثورو ولورنس كوهلبرغ، ومن خلال تناول خطاب مارتين لوثركينغ الشهير. فاستطراداً لا يمكن للجمهورية أن تتجاهل المبادئ الأخلاقية الإنسانية، التي تعلو عليها والتي يقرها العقل البشري وحده. وأبرز أمثلة على هذا التناقض بين الإرادة الجامعة (العامة) وبين المبادئ الإنسانية، هي الخيارات القومية أو العنصرية التي قد تعتمدها الجمهوريات. وفي هذا الإطار تلتقي المبادئ الدينية مع المبادئ العقلانية الإنسانية، وتتسم بسمات مشتركة في إدانتها للخيار القومي أو العنصري، والتنديد بحروب العدوان، لكن ما يضفي عليها شرعيتها الأخلاقية لدى الغير، هو التبرير العقلاني الذي قد يحظى بتأييد كل كائنٍ عاقلٍ مهما كانت عقيدته.
ويطرح هذا الجدال إشكالية الطاعة من جديد. فحيث يعتقد الجمهوريون أن الطاعة للقوانين الجمهورية ليست موضوع جدال، لا سيما إذا ما انبثقت هذه الأخيرة عن "إرادة المواطنين"، يذهب الفلاسفة إلى حد قلب المعادلة، والاعتقاد أنه لا بد من عصيان قانون الجمهورية الظالم ( أخلاق ما وراء النظم الاجتماعية الوضعية)، من أجل التقيّد بالمبادئ الإنسانية التي يقرها العقل ( الطور السادس للتنمية الأخلاقية).
وهنا يقع التمييز بين التمرّد الظالم والعصيان المدني. فحيث أن الفعل الأول يحقق العصيان من خلال ممارسة الظلم (الاعتداء على الأشخاص والممتلكات)، يقضي الفعل الأخير بألاّ يرتكب الظُلم من أجل ردِّ الظلم. بتعبير آخرٍ، يقضي العصيان المدني "بألا يجرمنكم شنآن قومٍ ظلموا ألا تعدلوا"، وهو غالبا ما يتخذ صيغة سلمية ( حركة لوثركينغ في الولايات المتحدة).
هل تناقض التربية على الاستقلال الذاتي للعقل الثوابت الإيمانية ؟
رب من يظن أن نظرية الأطوار الستة غريبة عن التراث الفكري الإسلامي، وأن هذا الأخير يتمحور حول مبدأ الطاعة على حساب مبدأ تحقيق الاستقلالية الذاتية للفرد. لكننا إذ نلتفت إلى فلسفة النهضة، نجد ما يبدِّد هذا الظن، لا سيما في قراءتنا لنصوص الكواكبي ومحمد عبده. إذ يتضمن كتاب طبائع الاستبداد عدداً من الثوابت المتعلقة بالتنمية الأخلاقية ومنها :
أن البناء الأخلاقي للإنسان يتطلب الحرية الفردية، والتي هي حرية القرار، والتي بغيابها يصبح الإنسان خاضعا لضرورات التكيف مع المحيط الاجتماعي.
إن الطاعة لأولياء الأمر ينبغي أن تكون مشروطة بعقدٍ أساسي، وبمدى احترام الحاكم لشروط هذا العقد، ويجد الكواكبي تفسيراً واضحاً لمفهوم ولي الأمر، إذ لا يقصد به من يملك السلطة وإنما من يتقدم على سواه بالعلم والت
إن للبناء العقلاني دور أساسي في تبرير المبادئ الأخلاقية.
إن العقيدة الدينية الإسلامية لا تدفع الإنسان إلى الطاعة غير المشروطة لأولياء الأمر، وإنما إلى ربط الطاعة بالحجة العقلية، وبمبادئ مؤسسة لعلاقات السلطة.
إن التربية الأخلاقية المبنية على نظرية الأطوار الستة تصطدم بمبدأ الطاعة اللامشروطة لأولي الأمر. فالمدافعون عن هذه الطاعة يحوّلون التدرّج في الطاعة ابتداء بالله ورسوله (صلعم) وانتهاءاً بأولي الأمر (الأمير - الآمر)، إلى تساوٍ بين الله ورسوله والأولياء. ويمكن الرد على أصحاب الطاعة اللامشروطة ببعض الثوابت: 1- أن الإيمان المبني على الطاعة العمياء لا يمثل سوى الطور الابتدائي للوعي الديني، في حين أطواره المتقدمة تربط الطاعة بالعلم وبالنشاط العقلي. بتعبيرٍ آخر نجده في قوله تعالى "ويخاف الله من عباده العلماء"، أن خشية العالم ليست مبنية على الطاعة العمياء وإنما على اقترانها بالعقل والعلم. ونجد في تلك الطاعة تطابقاً بين قوانين العقل ومتطلبات الإيمان (راجع رسالة التوحيد لمحمد عبده، وبهذا الصدد). ونجد أصداءاً لهذه النظرة إلى الإيمان في نظرية جامس فوهلر، الذي يبين أن تطور الإيمان يخضع هو نفسه لستة أطوار، يكون فيه الطور السادس ذلك الذي يجد فيه المؤمن تناسباً، بل تطابقاً بين قوانين العقل والطبيعة من جهة، وبين المعتقدات الإيمانية من جهةٍ ثانية. ونجد دليلاً آخر على تناسب العقل والإيمان في قوله تعالى "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك وقنا عذاب النار" (سورة الأنعام، الآية 191). 2- إن النص القرآني يحث على عصيان المخلوق من أجل تطبيق مبادئ الخالق، وإلى تحرر الإنسان من ظلم مولاه. ففي قوله تعالى "وإن جاهداكما ( أي الوالدان) على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً" و "اتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون" (سورة لقمان الآية 15). ونجد في طاعة الله طاعةً مقرونة بالعلم، مما يعني أن اللجوء إلى البرهان العقلي يعتبر حجةً على أوامر ونواهي صاحب السلطة دنيويةً كانت أم دينية. 3- كما بيّنت السنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، كيف أن الطاعة مشروطة ليس فقط بشرع الله، وإنما أيضاً بالعقد الذي يربط الحاكم بالمحكوم. إذ تكثر السيرة النبوية من أمثالٍ يدعو فيها الرسول (صلعم) إلى التمييز بين توصياته كنبي وبين توصياته النابعة عن معرفته كإنسان. وفي ذلك دعوة إلى استخدام العقل للتمييز بين الأمرين. ثم أن الرسول (صلعم) اتبع رأي المؤمنين في بعض الحروب. ونذكر أنه كان قد اعترف بصحة أراء الناس في بعض الميادين التي ترك الله تعالى شأنها إلى العمران البشري (مسألة النقش على شجر النخيل). ثم جاء خطاب أبي بكر الصديق يوم بيعته حيث قال : " أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم. ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني. وإن أسأت فقوّموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي، حتى أريح عليه حقه إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ..... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". 4- إن الإيمان المبني على العلم يبيّن مدى التوافق بين الثوابت الأخلاقية التي يقرها الإيمان، وبين تلك التي يقرها العقل، مما يضعنا في الطور السادس لكوهلبرغ - أي طور المبادئ الأخلاقية الكونية. ونضرب مثلا تلاقي الحكم العقلي والحكم الإيماني، على نقض العنصرية الناتجة عن المبالغات القومية.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن التربية الأخلاقية المبنية على مبدأ استقلالية العقل الفردي الذاتية في استدلاله للمبادئ والمثل، لا تنعكس بالضرورة في أثرٍ سياسي سلبي وإنما تطرح مسألة المواطنة من منظار أكثر صلابةً. ذلك أن الحُكم الأخلاقي لابد أن يرافقه الحُكم السياسي jugement politique، والذي ينظر إلى حدود الاستقلالية الفردية، والى حدود تطبيق المثل، على ضوء متطلبات وضرورات الواقع السياسي [5]، كما ينظر إلى إشكالية علاقة الأخلاق بالسياسة.
* أستاذ وباحث في الفلسفة والعلوم السياسية في فرنسا، واضع كتاب: التربية الاخلاقية , تجاوزا لمستوى المواطنية NOHRA Fouad : L’éducation morale, au-delà de la citoyenneté, Paris, L’harmattan, 2004
[1] DURKHEIM Emile : L’éducation morale, Paris, Presses Universitaires de France, 1999
[2] BOURDIEU Pierre PASSERON Jean Claude : De la reproduction, Paris, ed de Minuit, 1970
[3] PIAGET Jean : Le jugement moral chez l’enfant, Paris, Presses Universitaires de France
[4] KOHLBERG Lawrence : Essays on moral development, Harper and Row, San Francisco, 1982
[5] CANIVEZ Patrice : Eduquer le Citoyen, Armand Colin, 1995