أهمّيّة اللغة وتدريسها وأهدافها ودورها في بث العلوم والمعارف وتسهيل الإتصالات
***
فريد الدين آيدن Feriduddin AYDIN
أسطنبول – 1996م.
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين والصّلاةً والسّلامُ على سيِّدنا محمّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
أمّا بعد، أيها الإخوة!
العلم بأوجز معناه ، هو انتفاء الجهل. فالعلم نور، والجهل ظلمة، بل ظُلُماتٌ في ظُلُماتٍ.
تعلمون بالتّحقيق، أن أوّلَ ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلّم – وهو بغار حراء-، قوله تعالى: »إقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذى خَلَقَ ، خلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقرأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الّذيِ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْساَنَ ماَلَمْ يَعْلَمْ« صدق الله ربُنا العظيم. وهذا من أكبر الدّلائل وأجلِّها على أن الإسلام دين العلم والمعرفة.
يقول الله تبارك وتعالى في فضل العلم والعالم: قَلْ هَلْ يَسْتَويِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون،َ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 9] نلمس في هذه الآية الكريمة نموزجاً رائعاً من نمازج البيان القرآنيِّ إذ تُذكّرُنا هذه الكلمات المقدّسةُ بفضل العلم والعالم في الوقت ذاته. ويقول سبحانه وتعالى: »يَرْفَعُ اللهُ الّذيِنَ آمَنواُ مِنْكُمْ وَالّذيِنَ أوُتواُ الْعِلْمَ دَرَجاَتٍ « [المجادلة: 11] نشاهد في هذه الآية الكريمة تصريحاً بأنّ العلماءَ لهم درجاتٌ عند ربِّهم ومكانةٌ خصّهم الله بها. ويقول ربُّنا في آيةٍ أخرى: »شَهِدَ اللهُ أنَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُلوُ الْعِلْمِ قاَئِماً بِالْقِسْطِ« [آل عمران: 18] إن الله تعالى يعتدّ هكذا بشهادة أهل العلم في وحدانيته؛ فيقرن شهادتهم بشهادته تعالى وشهادة الملائكة. وفي هذا من رفع قدر أهل العلم ما فيه.
لذا، عليكم بالسهر والمواظبة في طلب العلم، وإياكم أن ترو الكفاية فيما قد جمعتم. إنّ المخلص الجادَّ في طلب العلم والمعرفة لا يألو جهداً في ازدياده، ولا يقنع بالرصيد الذي يتمتّع به.
أيها الشباب!
عليكم بالعمل الصّالحِ. وأفضل الأعمال الصّالحةِ بعد أداءِ ما فرض اللهُ على عباده هو السّعيُ في طلب المعرفةِ وازدياد العلم. فالطالبُ الجادُّ المخلصُ لا يألو جهداً في سبيل مطلوبهِ حتّى يظفرَ به. لقد كان السّلفُ الصّالحُ ومن كان على نهجهم من أئمّةِ الخلفِ، كانوا لا يُبْطِئونَ عن متابعةِ السّيرِ في الحصول على أدنى مسألةِ من مسائل العلمِ. فجمعوا ما جمعوا من كنوز المعارفِ حتى أذاقهم الله سعادةَ الفوز في هذه الحياة الدّنيا، فحبّبهم إلى جمهورِ أهل العلمِ، وخلّدَ ذكرَهم إلى يوم القيامةِ.
ولهذا، أنصحكم أولاً بتقوى اللهِ تعالى ثمَّ بمتابعةِ دروسكم ملتزمين جانبَ العزيمةِ فيها. عسى الله أن يبلِّغكم وإيّانا منازل الصّالحين.
أيها الشباب!
لا ينبغي أن تقتصر جهود التلميذ على دراسة نوعٍ معيّنٍ من العلوم، بل يجب عليه أن يُلمّ بأصنافٍ مختلفةٍ منها.
نعم يجب عليه أن يركّز جلَّ اهتمامه على نوعٍ من العلوم يألف مع طبعه وتصبو إليه نفسُه،ُ ولكن مع هذا يحب عليه في الوقت ذاته أن يدرس شطراً من كلّ فصيلةٍ من بقية العلوم حتى يحظى نصيباً منها ويتميز بثقافةٍ عاليةٍ تكون عونًاله في علاقاته مع الناس، ويكون هو بذلك واسع الإطلاع، لأنّ الإنسان إنّما ينضج بكثرة علمه وتجاربه ومهاراته، فيكون بذلك مقبولاً عند الناس ومرموقاً بينهم.
واعلموا أنّ الناس يحتاجون إلى من يفوقهم. وإنما يفوق الإنسانُ أمثالَه بأحد الميّزتين؛ إمّا بالمقدرة المالية، أو إمّا بالمقدرة العلمية. أما المال فمهدّد بالزوال بغتةً. فكم من تَريِّ أصبح فقيراً بعد أن كان أغنى الناس؛ ولكنّ العلم الراسخ قلّما يُخسِرُ صاحبَهُ.
اخوتي،
لقد منّ الله علينا أن وهب لنا فرصة اللّقاءِ على مائدة العلمِ ولو في أوقاتٍ متباعدةٍ، فلا ينبغي أن نستحقرَ هذه النعمة لقلّتِها. فكم من قليلٍ يُجْدي بثمراتٍ لا حصر لها. يجب علينا أن نعترفَ بهذه النّعمة الكريمةِ "وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" كما يجب علينا أن نمثل بين يدي ربِّنا بالحمد الجميلِ والثّناءِ الجزيل على ما خصّنا بإحسانه وإكرامهِ فجعلنا ممّن يستمعون القولَ فيتّبعونَ أحسَنَهُ. ذلك بفضله تعالى نجتمع في هذه البقعةِ المباركةِ، ندرس ونذاكر ونتباحث عن الحقيقة لنتعلّم في كلِّ تجربةٍ شيئًا جديدًا ولنـزداد معرفةً وحكمةً. مع هذا لا بدّ أن نكون مستعدّين لاستقبال ما قد يصيبنا من البلاءِ.
اخوتي،
أعزّكم اللهُ تعالى، ورزقكم وإيّانا العلم النّافع والعمل الصّالحَ، إنّه لا ينبغي أن تتناسوا ما يعاني طالبُ العلمِ في بلادِنا اليومَ من وصبٍ ونصبٍ ومشقّةٍ وحرمانٍ. لقد ضاق الأرضُ على طالبِ العلمِ بما رحُبتْ خاصّةً في هذه الأيّام الّتي أوشك أن لا يجد مَنْ يُجيبُ عن سؤالهِ، أو نجدَ نحن مجلسًا يتّصف بمجلس العلم على حقيقتِهِ. هذا على الرّغم من كثرة المدارس والجامعاتِ. لأنّ كلّ هذه الأبنية الّتي يُطلَقُ على بعضِها اسمَ المدرسةِ، وعلى بعضها اسمَ الجامعةِ والكلّيّةِ؛ في الواقع ليستْ إلاّ مسرحيّاتٌ يتلاعب السّماسرةُ فيها بالعلمِ؛ وقد ضاعت المعارفُ، وحارَ العالِمُ، وخيّمَ الجهلُ على المجتمعِ بظلامِهِ ومخاطرِهِ. ولهذا أصبح العلمُ غريبًا، فاشتبه على النّاسِ مفهوم العلمِ؛ منهم من يُسمّيه الثقافة، ومنهم من يسمّيه الفنَّ، ومنهم من يُسمّيه الصّناعةَ، ويربطونه بمفهوم الحضارةِ والتّكنولوجيا. بينما العلم بمفهومه العامِّ هو انتفاء الجهل بالواقع الضّروريِّ. ذلك أنّ الإنسانَ يحتاجُ إلى معرفة سلسلةٍ من الحقائقِ: يحتاج بالدّرجة الأولى أن يتعرّف على نفسِهِ، وبالتّالي على بيئتِهِ، ثمّ يحتاج إلى معرفِ أسرارِ الكونِ. وإنّما يهتدي بعد ذلك إلى ما يترتّبُ عليه من مسئولية الإيمان والعمل الصّالح.
إذن الواقع الضّروريُّ هو الإيمانُ بالله وبما جاء من عنده جملةً وتفصيلاً. ولا ينتبه الطالبُ إلى هذا الواقع في غمار الأحداث الّتي تُضِلُّهُ إلاّ بهداية الله، وللحكمةِ صلةٌ بالهداية كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثيِرًا." و"الحكمةُ ضالّةُ المؤُمِنِ، أينَ وجدها أخذها."
أمّا الحكمةُ: فهي التّعبيرُ عن الحقيقة بألفاظٍ جميلةٍ ذاتٍ معانٍ جليلةٍ. أي هي البلاغةُ بعينِها، فهذا هو مقصودُنا ومطلوبُنا الّذي يجب علينا أن نبذل في سبيلهِ قُصارى جهودِنا، وأن نفتديّ لهذا الغرضِ بكلّ ما نملِكُهُ من وقتٍ ومالٍ. فهذا هو الّذي جعلَنا نهتمّ بعلوم قواعد العربيةِ من صرفٍ ونحوٍ واشتقاقٍ وإعرابٍ وإعلالٍ، ثمّ بعلوم البلاغة من بيانٍ ومعانٍ وبديع وما إليها...
إخوتي،
المعرفةُ مفهومُ عملاقٌ ذو أبعادٍ متراميةٍ تشتمل على كلِّ ما يستطيعُ العقلُ البشريُّ أن يستوعبَه. كلُّ شيءٍ يعرفُهُ الإنسانُ، أو يريد أن يتعرّفَ إليهِ، يدخل في شمول هذا المفهوم. فما دام العقلُ محدودًا لا يستطيع أن يستوعب أكثر ممّا خُلِقَ له، إذن يجب على كلّ طالب المعرفةِ أن يحدِّدَ هدفَهُ في طلب العلم.
نحن كأبناء العلم وخدّامِهِ وسدنتِهِ منذ أيّام الطّفولةِ، وقد بلغ أصغرُنا الثلاثين من العمر أو كاد؛ لا ينبغي أن نُسرِفَ وقتَنا بعد هذا السّنِّ فنشتغلَ بالتّفاصيل، بل يجب علينا أن نتعلّم أشياءَ جديدةً لم نتمكّن من معرفتِها فيما سبق.
أنتم في الحقيقةِ لستم طلبة المدارس الثانويةِ، بل يفوق مستواكم على المستوى الجامعيِّ بفضل جهودِكم الخاصّةِ ورَحَلاَتِكُمْ إلى البلاد العربية، ومعاناتكم مشاقَّ الغُربةِ إذ تذوقون مرارة الحياةِ، ولكن بفضلِ تجارُبكم التي اكتسبتموها يومئذٍ وما زلتم تزدادونها حتّى الآن. إذن أنتم لا تحتاجون أصلاً إلى حفظ القواعد، ولا إلى تكرار ما قد درستم من المقرّرات التّعليميّةِ أيّام تطوافِكم على العملماءِ والأساتذةِ والمرشدين. بل تحتاجون اليوم بالضبط إلى الأسلوب الأمثل في الأداءِ والحوار.
إنّ حفظ فواعد اللّغة العربيةِ وقوانينِ الأدبِ والبلاغةِ كانت له أيّامٌ مضتْ من غير رجعةٍ. فإن كنتم قد زرعتم البذورَ في تلك الأيّامِ، فلا بدّ وقد حصدتمْ ثمارَها؛ وبالتّالي فلا حاجة لكم إلى حفظ هذه القواعدِ واحصاءِها وتكرارِها من جديد. وإنّما تنحصِرُ مهمّتُكم اليومَ في تطبيق تلك القوانين وإجراءِها على كلامِكم وأسلوبِكم في الإنشاءِ والحوارِ والخطاب باللغة العربية. وهذا سيساعدُكم في الهيمنةِ على النّفوسِ (لا لاستغلالها والتّحكّمِ فيها، بل لإصلاحها وتهذيبها ولقضاءِ حاجتكم من النّاسِ في الوقتِ ذاته).
إنّ مَثَلَكم كمَثَلِ سائقٍ ماهرٍ في مهنتِهِ، ولكن غيرِ واثقٍ من نفسِهِ. وهل وجدتم مثلاً، سائقَ مركبةٍ آليّةٍ (بعد أن تمرّسَ على القيادةِ، وحصل على الرّخصةِ الرّسميّةِ لها)؛ هل يجوز أن يعودَ هذا السّائقُ فيتردّدَ في معرفتِهِ للقيادةِ، ويختبِرَ كفائَتَهُ فيها؟! هذا أمرٌ في منتهى الغرابةِ.
إذًا يبدو أن المشكلة التي تعانونَها في مسألة المعرفةِ، يبدو أنها لا تكادُ تنكشف لكم أسرارُها حتى هذه اللّحظةِ. وهذا من أخطر المواقف. نعم ما أشدَّ خطرًا على الإنسانِ أن يلتبسَ عليه مقاصِدُهُ، وتعيا مذاهبُهُ.
إنتم في هذا الوقت، وعلى هذه الدّرجةِ البالغةِ من المعرفةِ بقواعد اللّغةِ العربيّةِ وقوانين البلاغةِ، لستم في حاجةٍ إلى تكرارِ ما قد أحصيتم فيما سلف. بل أنتم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تهذيب أسلوبكم في الأداءِ نطقًا وإنشاءً. لأنّكم اليوم في غالب أوقاتكم تحتكّونَ ببني جلدتكم وتكلّمونهم بلغتهم (اللغة التركية)، وهي ربما تطغى يومًا على رصيدكم من اللغة الغربية فتخسرونَ قسطًا بالغًا منها!
إذًا يحب عليكم بعد هذا الرّصيد الّذي تتمتّعون به، أن تركّزوأ جهودَكم على الإكثارِ من الكتابةِ والنّطقِ، بل على صياغةِ مراميكم بأسلوبٍ سليم،ٍ فصيحٍ، بليغٍ، سلسٍ ووجيزٍ، بحيثُ يفهمكم قارؤٌكم وسامعُكم، فيُعْجِبُهُ كلامُكم. وهذا لا يتحقّق طبعًا إلاّ أن يكون الخطيبُ أو المنشئُ عارفًا بدقائق البلاغةٍ وماهرًا في صياغةِ الكلامِ، واثقًا من كمالِ معرفتِهِ بها، لأنّ من خسر الثّقةَ بعلمهِ، خسر ثقةَ من يخاطبُهُ في الوقت نفسِهِ. ولهذا سوف نعود أحيانًا إلى مفهمو الفصاحةِ والبلاغةِ، ولن تنقطع صلتُنا بقواعد اللّغةِ ووقوانين الأدبِ لنستحسّه بالقدر الّذي نحتاج إليه ولنطبّقها على كلامِنا، وليس لنُحصِيَ مفرداتِها من جديد.
إخوتي وأعزّائي!
يجب على الإنسانِ قبلَ جميعِ واجباتهِ، أن يشعُرَ بحقيقةِ السّببِ الّذي يُوَجِّهُهُ ويدفعُهُ إلى عملهِ. فلا تنسوُنَّ بهذه المناسبةِ ما يجعلُ الإنسانَ يرتبكُ عند تنازُعِ الأسبابِ أو يّغْفُلُ، فتلتبِسُ عليه الأمور، وتتفرّقُ به السُّبُل؛ فلا يكادُ يميّزُ الهدفَ الأصليَّ الّذي يسعى من وراءِهِ عن الأهداف الثانوية الّتي يتمسّكُ بها ليتدرّج إلى ما يقصُدُهُ ويبذُلُ جهودَهُ من أجلِهِ.
إنّه ليؤلِمُني أن أرى طلبةَ اللّغةِ العربيةِ من أبناءِ بلادِنا وهم في هذه الحالةِ من الغفلةِ، وقد التبس عليهم الهدفُ الأصلِيُّ في دراستِهم. فلا يكادون يميّزونَهُ عن الأهداف الجانبية التي لا تعدو عن درجات سُلَّمٍ نُصِبَ لَهم ليرقوا به حتّى يصلوا إلى الهدف الأصلِيِّ المقصودِ والغرضِ الحقيقيِّ المنشود.
هذه في الحقيقةِ مشكلةُ قديمةٌ يعاني منها أبناءُ المسلمين من الأتراك منذ حقبةٍ من الزّمنِ وليس أمرًا حديثًا. وإنّي لأستغرِبُ أشدَّ الاستغرابِ موقِفَ أساتذةِ اللّغةِ الغربيةِ من المهمّةِ الّتي كُلِّفوا بأدائِها، على قلّتهم في تركيا، ويُؤْسِفُنيِ عدمُ اهتمامِهم بالغرضِ النّهائيِّ من تدريسِ هذه اللّغةِ؛ فلم أسمع يومًا من الأيّامِ أنّ أحدَهم أشارَ على تلامذتهِ أنّه إنّما يدرِّسُهم هذه اللّغةَ ليستخدموها في الاتّصالاتِ والحوارِ، وليعبّروا بها عن كلِّ ما يقصدونهُ من حلوٍ ومرٍّ، وليشرحوا بها ما تتطلّبُهُ الحياةُ والعلاقاتُ والمناسباتُ من سرورٍ وألمٍ، وما تستوجِبُهُ المسؤوليّةُ من إرشادٍ، وإعلامٍ، وتنبيهٍ، وتبشيرٍ، وإصلاحٍ، وتنوير. ذلك لأنّهم بالذّات عاجزون عن استخدام اللّغةِ العربيةِ في هذه الأغراضِ، فكيف بهم أن ينصحوا تلامذتَهم بذلك فيفتضِحَ أمرُهم! لذلك ما زلنا نراهم منهمكين في تحفيظ القواعدِ وتدريس الآدابِ والمبادئِ. كلُّ همومِهم يستقطِبُ على التّحفيظِ لمحضِ التّحفيظِ. وحسبُهم أن يروا التِّلميذَ أنّه لايلحنُ في القراءةِ؛ يرفعُ الفاعِلَ، وينصِبُ المفعولَ، ويجرُّ المضافَ إليه ليس إلاِّ!!..
فما الفائدةُ إذنْ من كلِّ هذه الجهودِ وما كلّفهم من سهرٍ ووقتٍ ومالٍ طوالَ سنين في خدمةِ التّدريسِ، إذا وجدوا يومًا هؤلاءِ الطّلبةَ عاجزين عن النّطقِ وهم يتمتمون في حديثهم خاصّةً مع المتفتّحين من أبناءِ هذه اللّغةِ، وذلك بعد أن أفنى كلٌّ منهم ثلثَ عُمُرِهِ في إحصاءِ القواعِدِ وحفظِها، فتخرّجوا من كلّيةِ اللّغةِ العربيّةِ وحملوا الشّهادّةَ الجامعيّةَ وهم لا يستطيعون الإفصاحَ بالعربية ولا يبلُغُ مستوى أحدِهم معشارَ ما يتمتّع به أدنى المستشرقين من المعرفةِ بِلُغَةِ الضّادِ!
هذه المشكلةُ مازالت قائمةً. لأن ثمَّةَ قُوىً تؤَجِّجها، وتعملُ على بقائِها، وتصلُبِها؛ حتّى لايتمكّن أبناءُ الإسلامِ في تركيا من الاتصالِ بأبناءِ أمّتِهم في البلادِ العربيةِ. ولعلّ أساتذةُ اللّغةِ العربيةِ في تركيا لم يصْحوا من نومتِهم بعدُ، ولم ينتبهوا إلى هذا الخطرِ وإلى ما يعاني منه المتخرِّجونَ من تلامذتهم اليومَ من العجزِ والبطالةِ. بل نضطرُّ أن نتّهمَ بعضَهم بأنّهم يتواطئون مع المتـزمّتين الّذين يقدِّسون الأسلوبَ العثمانيَّ العقيمَ. فإنّهم يعتمدون في تعليم اللّغةِ العربيةِ على إلقاءِ الدّروسِ باللّغةِ التّركيةِ، ويصرّونَ على هذا الأسلوب، وذلك من أكبر العقباتِ واخطرِها أمام الطّالبِ.
لقد بذلتُ جهودًا بالغةً منذ ثلاثين عامًا في تنبيه المشاعرِ إلى هذه العقبةِ، فقمتُ بإلقاءِ محاضراتٍ عديدةٍ في إسطنبولَ حولَ الأسلوبِ الأمثلِ لتعليم اللّغةِ الأجنبيةِ (ومنها العربيةُ بالنّسبة للأتراك)؛ وهو الطّريقُ المباشِرُ. وذلك أنْ يكُفَّ الأستاذُ عن استخدامِ التّرجمةِ، وأن يتجنّبَ الخطابَ بلغةِ التّلميذِ.
سوفَ نركّزُ على ما يرتبط بهذه المشكلةِ من أسبابٍ وحلولٍ في دروسنا المقبلةِ إن شاء الله تعالى.
أيّها الإخوة!
لاشكَّ من أنَّ اللّغةَ هي أداة الاتّصالِ والتّفاهُمِ بين أبناءِ البشرِ، وهي آيةٌ من آياتِ اللهِ العظمى. يقول الله تعالى: " وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ إِنَّ فيِ ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالَميِنَ" لأنّ الإنسانَ هو المخلوق الوحيد الذي ينطقُ ويعبِّرُ عمَّا في ضميرِهِ من أحاسيسَ غريةٍ، وتصوّراتٍ خطيرةٍ، وأحلامٍ عجيبةٍ، وخلاجاتٍ، وحُبٍّ، وكراهيّةٍ، وفرحٍ، وحُزنٍ، والْتذاذٍ، واستقذارٍ وما إلى ذلك...
إنّ البشريةَ مجتمعٌ عظيمٌ مكوَّنٌ من أُمَمٍ وشعوبٍ وطوائفَ مختلِفةٍ. يقول الله تعالى: " يَا أَيَُهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىَ، وَجَعَلْنَاكُم شُعوُبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفوُا..."
إذن يجب على أبناءِ البشرِ أن يتعارفوا فيما بينهم، ليتعاونوا على البرِّ والتّقوى. وقد أرشد الله عبادَه إلى ذلك في قولِهِ تعالى: " وَتَعَاوَنوُا عَلىَ الْبِرِّ وَ التَّقْوىَ، وَلاَ تَعَاوَنوَا عَلىَ الإِثمِ وَالْعُدْوَان، وَاتَّقوُا اللهَ، إِنَّ اللهَ شَديِدُ الْعِقَابِ." وقال تعالى: "وَلِكُلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، فَاسْتَبِقوُ الْخَيْرَاتِ، أَيْنَ مَا تَكوُنوُا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَميِعًا، إِنَّ اللهَ عَلىَ كُلِّ شَيءٍ قَديِرٌ."
إنّ من أسرارِ حِكَمِهِ تعالى، أنْ خلقَ النَّاسَ على اختلافٍ كبيرٍ في ألوانِهم، ولُغاتِهم، وثقافاتِهم، وأذواقِهم، ونزعاتِهم، واتّجاهاتِهم، وأعرافِهم، وتقاليدهم؛ فلا يُعقَلُ أن يتمكّن الإنسانُ من تذليل هذه العقباتِ ليتّصلَ ببني جنسِهِ من الأجانبِ، إلاّ أنْ يتبادل معهم الحديثَ، والحديث والحوار هو الطّريق الأصحُّ الأمثلُ والوحيد الّذي يؤدّي إلى التّفاهُمِ فاتّعاوُنِ. فما أشدَّ حاجةُ الإنسانِ خاصّةً في هذا العصرِ إلى هذه الأداةِ السّحريةِ الّتي تربط بين القلوب. ولهذا كلُّ مَنْ يُتْقِن لغةً من اللّغات الأجنبيّةِ ينالُ ثناءً من بني جِلدَتِهِ دائمًا. ويُوَقَّرُ في مجتمَعِهِ. إلاّ إذا كان في مجتمَعٍ جاهلٍ. فيا لَغُربَةَ ذي علمٍ يسكن بين قومٍ جاهلٍ، ويا لثُكلتاه!!!
إنّ معرفةَ الإنسانِ بدقائقِ لغتهِ المحلّيّةِ –لاشكَّ- تُمَكِّنُهُ من استخدامِ أفضلِ أساليبِ الحوارِ مع أبناءِ شعبِهِ. وقد تُحسِّسُهُ في الوقتِ ذاتِهِ على أهمّيّةِ إتقان اللّغات الأجنبيّةِ. لأنّ الإنسان المتفتّحَ لا يجهلُ ما سوف يجني من ثمرات الحوارِ وتأسيس العلاقةِ مع الأجانبِ، خاصّةً مع النّاسِ من أهل البلادِ الرّاقيةِ من أصحابِ الثّروةِ والعلمِ والمناصبِ.
فعلى الطّالبِ إذًا، أن يختار من بين اللّغات الأجنبيةِ ما يخدُمُ مصلحتَهَ بأقصى قدرٍ ممكنٍ حسبَ مقاصِدِهِ وأهدافِهِ.
إنّ طالبَ العلمِ من أبناءِ الوطن التّركيِّ لا يستغني عن وسائل تربطُهُ بالعالَم المتحضِّرِ. ولا شكَّ من أنّ اللّغاتِ الأجنبيةَ هي من هذه الوسائلِ، بل هي من أهمِّها وألزمِها. وقبل أن نشيرَ إلى ما يحتاج إليه الشّابُّ في هذا البلد من اللّغات، يجب أنْ نركّز أوّلاً على أهمّيّة اللّغةِ التّركيةِ لمن وُلِدَ ونشَأَ في هذا الوطن. فإنّه لن يحظىَ صلةً قويّةً بأبناءِ شعبِهِ، ولن ينالَ ثقَتَهم إلاَّ بالقدر الّذي يشاركُهم في حياتِهم وتقلُّباتِهم، مهما خالفهم رأيًا وعقيدةً. فاذكروا قولَه تعالى. "وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسوُلٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه،ِ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ." ذلك أنّ الإنسانَ في كلِّ بلدٍ قد يتميّزُ برأيِهِ وعقائِدِهِ ونزعاتِهِ الخاصّةِ وتطلُّعاتِهِ من بقيةِ النّاس؛ وقد يشاركُ فيها بعضَهم دون بعضِهم الآخرِ، ولكنّه مضطرٌّ إلى مشاركة الجميعِ في اللّغةِ والثّقافةِ على أقلِّ تقديرِ؛ ليتمكّن بذلك من الدّفاعِ عن رأيِهِ وعقيدتِهِ وشخصيتِهِ وعرضِهِ ومالِهِ إذا وجد مَنْ يعاديه ويقتحم حرمتَهُ وينالُ من كرامتِهِ. لأنّ اللّغةَ أداةُ التّفاهُمِ وهي من القِيَمِ المشتَرَكَةِ الّتي يتكوّن المجتمعُ على أساسِها؛ كالدّينِ والعقيدةِ والأعرافِ والتّقاليدِ.
نعود إلى صدد الموضوعِ فنقولُ: إنّ اللّغةَ التّركيةّ لها قيمتُها بالنّسبةِ لأبناءِ هذا الوطن. خاصّةً فإنّ طلبةَ العلمِ من أبناءِ المسلمين في هذا البلد، يجب عليهم أن يكترثوا بها أكثر من غيرهم من أنصار القوميةِ والعصبيةِ، فينبغي للطّالبِ المسلمِ أن يحظى من المهارةِ في النّطقِ بهذه اللّغةِ على مستوى الأدباءِ المتفوِّقيِن والمشهورين من رجالاتِ عصرِنا. لأنّه لن يتمكّن من الدّفاعِ عن الإسلامِ وقِيَمِهِ في هذه المرحلةِ الحسّاسةِ التي اشتدّتْ فيها صولةُ الكفرِ وَاسْتَقْوَتْ عبرَها جحافل الشّركِ، لِتَنْقَضَّ على الدّينِ الحنيفِ انقضاضَ الوحشِ على فريستِهِ. نعم، لن يتمكّن المسلِمُ من الاستعدادِ والمواجهةِ في هذه الظّروفِ إلاّ بهذا السّلاح القويِّ والسّلميِّ.
ولهذا أنصحكم بكلِّ تأكيد، أن تُتْقِنواُ اللّغةَ التّركيةَ حقَّ الإتقانِ، وأن تتبحّروا في فنونِها وآدابِها، وأن تكتسبوا المهارةَ في استخدامِ أفضلِ أساليبِ الأداءِ بها نطقًا وكتابةً، حتى تهتزّ النّفوسُ بين أيديكم إذا نطقتم، وترتجف القلوبُ وتدمع العيونُ وتقشعِرَّ الجلودُ إذا خطبتم؛ لأنّكم جنود الحقِّ، ورُسُلُ السّلامِ، وورثةُ الأنبياءِ؛ تأمرون بالمعروفِ وتنهون عن المنكر، وتبشّرون وتُنذِرون على سنّةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . هكذا سيروا على بركة الله!
أيّها الإحوة!
إنّ اللّغة التّركية في الحقيقةِ ليست من اللّغات الرّائجةِ والشّائعةِ في العالَمِ، لأسبابِ ليس هذا مقام الاسترسال فيها. ولكن مهما كانت، فإنّها لغةُ هذا الشّعبِ. وهي اللّغةُ المنتشَرَةُ، بصفتها اللّغة الرّسمية. غلبت على بقية اللّغات الطّائفيةِ، وتحسّنتْ في هذه السّنين الأخيرةِ بعد أن كانت عُرْضَةً للإهمال على مدى قرونٍ. فقد اكتسبت نموًّا وخصوبةً منذ السّبعينات، من القرن المنصرم خاصّةً بعد أن استقتْ من لغات الغربِ مئاتٍٍ من المفاهيم والمصطلحات العلمية والفنيةِ.
يجب علينا نحن أبناءِ الإسلامِ في هذا البلدِ، يجب أن نتعاملَ مع هذه اللّغةِ تعامُلَ الجنديِّ مع سلاحِهِ. إنّما بهذا نتميّزُ من أتباع الجماعاتِ والأحزاب والفئات المتباينةِ في تركيا. إنّهم على اختلافٍ كبيرٍ معنا في تعامُلِهم مع اللّغةِ. فإنّ كثيرًا منهم خاصّةً أصحابَ النّزعةِ العصبيةِ، يُقدِّسون اللّغةَ التّركيةَ على أنّها صلةٌ تربطُهم بتاريخهم وأمجادِهم وبطولاتِ آبائِهمِ الأوّلين.
أمّا نحن أبناءُ الإسلامِ، -مع احترامنا للقيم الّتي يعترف بها الّدينّ الحنيفُ، ومع بالغ محبَّتِنا لهذه اللّغةِ- فإنّنا لا نُقدِّسُ إلاّ شعائرَ الله. "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. "؛ كما لا نتهاون باللّغةِ في الوقت ذاتِهِ؛ لأنّها من أهمِّ سلاحِنا. ذلك أنّ من تهاون بالسّلاحِ، وأهملّ الاستعدادَ لمواجهةِ العدوِّ فقد تهاون بسنّةِ اللهِ، ومن تهاون بسنّةِ اللهِ ضُرِبت عليه الذِّلَّةُ والمسكنةُ وسُلِّطَ عليه مَنْ لا يستطيع له دِفاعًا.
أمّا اللّغاتُ الأجنبيةُ فإنّها تتسابَقُ في كلِّ عصرٍ، ينالُ عددُ قليلٌ منها اهتمامَ غالِبِ النَاسِ في العالمِ، فيطغى على بقية اللّغاتِ، فتـتردّى، وقد يبلُغُ ببعضِها الإهمالُ والانحطاطُ حتّى يفقِدُ من حيويّتِهِ ويتقادم مع الزّمان فلا يكاد يستخدمه أحدٌ، فيضمحلُّ، كلغات الأمم البائدةِ.
فقد شاع في عصرِنا هذا عددٌ من لغات شعوبِ الغربِ، بسبب النّهوضِ والازدهار الّذي تشهدُهُ بلادُهم. وهذه من سنّةِ الحياةِ، فكلّما ارتقت أمةٌ وغلبت على بقيةِ الأممِ في المجالاتِ العلميةِ والحضاريةِ، وأرهبتها بقوّتِها العسكريةِ وأساليبها الحربيةِ، راجت كلُّ ما يختصُّ بها من لغةٍ وفنونٍ وآدابٍ وعاداتٍ؛ وأصبح العالَمُ بأسرِهِ تبعًا لها.
اللّغةُ الإنجليزيةُ تأتي على رأس هذه اللّغاتِ. ولذا أنصحُكم الاهتمامَ بهذه اللّغةِ أيضًا. لأنّكم لن تُلْفِتوا عقولَ النَّاسِ إليكم في هذا البلدِ ولن يعبأ بكم أحدٌ منهم، إلاّ إذا تمتّعتم بشيءٍ يغبطكم به بعضُ النّاس، ويحسدكم عليه بعضُهم الآخرُ. فاللّغةُ الإنجليزيةُ قد أصبحتْ مرغوبةً ليستْ لأنّها لغةُ العلم والحضارةِ، بل لأنّها لغةُ شعوبٍ قويةٍ يخافُ العالَمُ من بطشِها وبأسِها. لذا فإنّ أكثر النّاسِ في البلاد المتأخِّرةِ إنّما يتعلّمون اللّغةَ الإنجليزيةَ انبهارًا بعالَمِ الغربِ فيستعظمونه استعظام الضعيفِ للقويِّ، والتّابع للمتبوعِ. فإذا تعلّمتم هذه اللّغةَ سوفَ ينالُكم من توقير هؤلاءِ الضعفاءِ نصيبٌ قد تستغلّونه في إرشادِهم وإنقاذِهم من هذا الضّعفِ والهوانِ، كما تستخدمونه في نشر رسالةِ الإسلامِ بين أبناءِ الكفرِ والشّركِ. " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلىَ اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنّنيِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ."
أمّا اللغة العربية، فإنّها من أهم اللغات الإنسانية، حملت إلينا عبر العصور من ثمار علوم العباقرة وابتكارات العلماء وأخبار القرون والأمم التي خلت؛
تزداد اللغة العربية قيمةً وأهمية عندما نقارنها ببقية اللغات العريقة، فنجد لها من ميّزاتٍ نادرةٍ منها، شاء اللهُ أن يُنْزِلَ بها القرآنَ على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فوسعتْ كلامَ اللهِ لفظًا ومعنىً.
ومنها، استطاعت أن تبقى على أصالتها سليمةً نقيةً ذات فصاحةٍ وبيانٍ بحفظٍ من الله وبفضل روّاد اللغةِ وعلماء النحو؛ كأبي بِشر عمرو بن عثمان بن قنبر الملقَّب بسبويه (ت. 180 هـ.)؛ وأبي يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السّكّيت (ت. 244 هـ.)؛ وأبي عثمان المازني النحوي البصري (ت. 247 هـ.)؛ وأبي العباس محمد بن يزيد المُبَرَّد (ت. 285 هـ.)؛ وأبي إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج (ت. 311 هـ.)؛ وأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت. 337 هـ.)؛ وأبي بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم المعروف بابن القوطية (ت. 367 هـ.)؛ وأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي (ت. 379 هـ.)؛ وأبي الفتح عثمان بن جني (ت. هـز 392)؛ وأبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (ت. 471 هـ.)؛ وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن هشام النحوي (ت. 570 هـ.)؛ وأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت. 538 هـ.)؛ وهو تركي الأصل ومع ذلك إنه من أعلام اللغة العربية ومن كبار أئمتها وأساطينها. وغيرهم كثيرون من العرب والعجم؛ والمسلمين وغير المسلمين.
لهذه الأسباب، استطاعت اللغة العربية أن تَصْمُدَ أمام عواصف الدهر، لم تتزعزع أركانُها إلى يومنا هذا على الرغم من المؤامرات التي حَاكَتْهَا أعداءُ الإسلام للقضاء عليها. فهي ما زالت قويةً فصيحةً منـتشرةً في ساحاتٍ شاسعةٍ ومرغوبةً بين المسلمين.
ومن أهم ميّزات هذه اللغةِ؛ أنّها محسودةٌ ومكروهةٌ بين أعداء الإسلام والمسلمين؛ وعلى رأسهم المارقون داخل الوطن الإسلامي؛ وبعضُ المستشرقين الذين أثاروا الدعوة إلى اللهجة العامية؛ ولكن نحمد الله أنهم لم يجدوا حتى الآن آذانًا صاغيةً لهذه الدعوة الماكرة الحبيثة! مع هذا يجب علينا أن نعلم بالتّأكيد أنّ كلاً من هذين الفريقين إنّما يُوَجِّهُ قواها لضرب اللغة العربية والقضاء عليها تمهيدًا للحربِ مع كتاب الله (القرآن الكريم)، وإلحاق الضّرر بالإسلام وتشتيت شمل المسلمين أخيرًا في عُقْرِ دارهم.
ولهذا يجب على المسلمين جميعًا الاهتمام بهذه اللغة الشريفة وبأعلى درجةٍ من الإتقان مهما اختلفت لغاتُهم الأصليةُ وتباينتْ قوميّاتُهم وألوانُهم وأوطانُهم؛ ذلك من آيات الله سبحانه، كما أنّ اللغة العربية آية من آياته العظمى. فقد قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. يوسف/2}؛ وقال تعال {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًأ عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ. رعد/37}؛وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اْلوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقوُنَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا. طه/113} وقال تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ اْلأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اْلمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مَبِينٍ.شعراء/195} وقال تعالى{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. زمر/38}. فقد وردت آياتٌ أخري في كتاب الله من أمثالها؛ وفي جميعها إشاراتٌ إلى شرف هذه اللغة بجانب ما فيها من دروسٍ وعِبَرٍ جاءتْ من خلالها.
أمّا أصول تعليم اللغة العربية وتعَلُّمِها فهي منصوصة في كتب الاختصاص؛ وقد اختصرنا لكم من عصارة معلوماتنا نُبذةً ضمن البيانات التّمْهيديِّة والدّيباجات الّتي نستهلُّ بها في بدايةِ كلِّ حلقةِ من دروسنا، عسى أن تنفعكم، وأسأل الله تعالى أن تكون هذه الدروسُ نافعةً مُثْمِرةً ومجديةً؛ كما أرجو أن تُتْقِنوا هذه اللغةَ في أمدٍ غير بعيد لتصبحوا من أولئك الذين أنعم الله عليهم فعرَّفَهم على كثير من حقائق كتابه العزيز وهداهم إلى صراطه المستقيم. وذلك هو الهدف المنشود والغاية التي نحن في طلبها جميعًا؛
وبهذه المناسبة يجب علينا نحن القلّة القليلة من أبناء الإسلامِ المبعثرين بين صفوف الشّعب التّركيِّ، يجب علينا أن لا نغفل عن الظروف الّتي طالما ابتلى بها طالبُ اللغةِ العربيةِ في هذا البلد منذ قرنٍ تفريبًا. نعم يجب علينا أن نكون على بيّنةٍ وانتباهٍ تامٍّ إلى ما يجري حولنا؛ وعلى احتياطٍ شديدٍ أمام الخطر المحدِقِ بنا، معتبرين بما ذاقه الجيلُ الذي قبلنا من العذابِ؛ أن لا ننسى أنّهم لم يذهبوا ضحية النّكالِ الّذي حلّ بهم ما بين 1926-1945م.، إلاّ لأنّهم كانوا يريدون أن يتعلّموا لغة القرأن فحسب. كان هذا ذنبُهم، الوحيد الّذي أدّى بهم إلى الهلاك. إذن يجب علينا أن لا نتجاهل هذه الحقيقةَ؛ لأنّ الّذين أبادوا طلبة اللغة العربية في هذا البلد بالأمس، قد استخلفوا من لا يعرف الرّحمة بالبقية الباقية من هذه الطائفة المؤمنةِ اليومَ.
إنّ الحزن على السّابقين منّا لا يُغني عنّا شيئًا، ولن يردّ ما قد فات؛ وإنّما لنا فيهم عبرةٌ، بأن نعود إلى أنفسِنا، فنتحرّى الأسبابَ، وندرُس النّتائجَ، ونطرحَ أسئِلةً فنتباحث عن سُبُلِ المعالجةِ لهذه المشكلةِ على ضوءِ ما يأتي من إجابات عليها. فنقول مثلاً:
1. هل نحن اليوم في أمانٍ من شرِ مَن يعادون هذه اللغةَ على أرضنا؟
2. ما ذنبُنا، ولماذا نُعَدُّ من المجرمين بمجرّدِ رغبتِها إلى هذه اللغةِ؟
3. لماذا أصبحت اللغةُ العربيةُ مكروهةً في نظر الطّائفةِ الحاكمةِ في هذا البلدِ منذ حقبةٍ تزيد على قرنٍ؟
4. لماذا لا يكادُ يُبْديِ الماهرُون بهذه اللغةِ جُرْأَتُهُم على تدريسها وقليلٌ مّاهم. على الرّغم من رفع الحصارِ عنها في الماضي القريبِ؟
5. لماذا يتجاهل العالم العربيُّ هذه الأزمةَ التي تتجاوز عن حدَّ مشكلةٍ محليةٍ، فتُنْبئُ في الوقتِ ذاته عن الإهانةِ بكرامتهم، وإن كان ذلك بطريقٍ غيرِ مباشر؟
كانت هذه أسئلةً هامّةً حول الخطوط العريضةِ للمشكلةِ. يجب القيام بالإجابةِ على كلٍّ منها بالتّفصيل وبأسلوبٍ موضوعيٍّ، حتّى يتمكّن طالب اللغةِ العربيةِ في هذا البلدِ من تقرير مصيره بإرادتِهِ الحرّةِ، ويكون الأطرافُ المعنيةُ في الوقتِ ذاته على علمٍ تامٍّ بهذه الحقيقةِ ليجدوا السّبيلَ إلى مناقشةِ الأمرِ إذا تيسّرَ طرحه يومًا مّا على الصّعيد العلميِّ والسّياسيِّ. لأنّ هذا الأمرَ يتعلّقُ بحقوقِ الإنسانِ وحرّيته.
إخوتي أعزّكم الله تعالى ووفّقكم لما يحبّه ويرضاه،
إنّكم لقد رُزِقْتُمْ سعادةً حُرِمَ منها ملايين النّاسِ، تتمثّل هذه السّعادةُ في حظِّكم من لغة الضّادِ. وإن لم يكن ذلك في درجة الإتقانِ لها من كلِّ جانبٍ. لأنّكم مازلتم من فريق القرّاءِ فحسب. أمّا الّذي تنحضر معرفتُهُ في حدود القراءةِ فحسب، فإنّه لايُعَدُّ من المتقنين إطلاقًا، حتّى يُصبِحَ كاتبًا وناطقًا بها، وينافسَ أربابَ هذا العلمِ في كلِّ المجالات الثّلاثِ (في القراءةِ، والكتابةِ، والنطقِ) على مستوى الكمالِ والمهارةِ فيها. والبرهان على ذلك هو السّرعةُ مع قلّةِ الخطأِ والّلحنِ.
إنّي في الحقيقة لا أكتمُ ما قد تكبّدْتُمْ من آلام الغُربةِ وما أنقضَ ظهرَكم من وحشة البيئةِ وقلّة الدرهم في أيامِ دراستكم وأنتم يومئذٍ تذوقون مرارة الحياةِ ولا تجدون من يؤانسكم لحظةً. وإنّي لأعلم ما للغريب من البؤس، والثكلِ والحزن والخوف كما يقول الشافعيُّ رضي الله عنه.
إنّ الغريبَ لَهُ مخافةُ سارِقٍ * وخضوعُ مديونٍ وذِلّةُ مَوْثَقِ
فإذا تذكّرَ أهـلَهُ وبِلادَهُ * ففؤادُهُ كجناحِ طيرٍ خـافقِ.
كذلك لا ينبغي أن أتجاهل ما قد بذلتم من جَهدٍ وسعيٍ في حفظِ قواعدِ هذه اللّغةِ. ولكن يحب علينا مع هذا أن نعترفَ بحقائقَ إن كتمناها خُنّا أنفُسَنا أو خدعناها، وأصبحنا في الوقت ذاته عونًا لمن يكتمون الحقائق من أهل الاستغلال تعميةً لمن ينتبه إلى جهلهم، من أولئك الّذين يزعمون أنّهم يُتقنون اللّغةَ العربيةَ، وهم في الحقيقة يجهلون التعبيرَ بها نُطقًا وكتابةً. إنهم لا يكذبون على أنفسِهم فحسب، بل يتواطؤون على خيانةٍ رهيبةٍ؛ يكتمون عجزَهم عن التعبير بأدنى شيءٍ مما يجولُ في صدورِهم باللغة العربية، كما يكتمون عجزَ آلافٍ من أمثالِهم في هذا البلد، في الحين الّذي يحتلُّ كلٌّ منهم منصِبَ أستاذٍ للّغةِ العربية في عديد من كلّياتِ العلوم الإسلاميةِ، ويباهون بتلك الشّهاداتِ الّتي يحملونّها والعناوين الأكاديمية التي يتمتّعون بها.