بحث عن آثار الربا على التنمية الاجتماعية - بحث علمى عن آثار الربا على التنمية الاجتماعية كامل
إن الربا آفة من الآفات، إذا أصابت الاقتصاد فإنها تنتشر فيه انتشار السرطان في جسم الإنسان، وكما عجز الأطباء عن علاج السرطان فإن المفكرين ورجال السياسة والاقتصاد عجزوا عن علاج بلايا الربا.
ومن العجيب أن بعض الناس ظنوا أن الربا يحدث خيراً للناس، ومثلهم في ذلك مثل الذين يظنون أن التورم في بعض الأجساد الناشئ من المرض صحةً وعافيةً، فليس كل تضخم في الجسم صلاحاً، إن السرطان إنما هو تكاثر غير طبيعي لخلايا الجسم، وهذا التكاثر ليس في مصلحة الإنسان، بل هو مدمر لحياته، وفاتك به.
وكذلك ما يولد الربا ليس صلاحاً للاقتصاد بل هو مدمر للاقتصاد، والمشكلة أنَّ بلايا الربا لا تظهر مرة واحدة في كيان المجتمع وكيان الاقتصاد، يقول الرازي: (الربا وإن كان زيادة في الحال إلا إنه نقصان في الحقيقة) ([1]). وهذا مستفاد من النص القرآني: " يمحق الله الربا " [ البقرة :276 ] فالمحق نقصان الشيء حالاً بعد حال … فالذين يتعاملون بالربا يظنون أن فيه كسباً، والحقيقة التي أخبر بها العليم الخبير، والتي كشف عنها واقع البشر الذي دمره سرطان الربا أن الربا ممحقةٌ للكسب مدمرٌ للاقتصاد، ذلك أنه يطيبه بعلل خبيثة يعي الطبيبَ…. دواؤُها، الربا ليس بركة ورخاء بل هو مرض عضال يُذهب المال ويقلله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل"([2]). أي: قلة.
وعلماؤنا الذين أبصروا الحقائق من خلال النصوص القرآنية والحديثية أدركوا هذه الحقيقة، يقول الرازي: (إن الربا وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وإن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة فهي زيادة في الحقيقة) ([3]).
ويقول المراغي: (إن عاقبة الربا الخرابُ والدمار، فكثيراً ما رأينا ناساً ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا) ([4]).
ويقول القاسمي: (المال الحاصل من الربا لا بركة له، لأنه حاصل من مخالفة الحق، فتكون عاقبته وخيمة) ([5]).
والآفات الاقتصادية التي يجلبها الربا كثيرة([6]) ، وسنذكر بعضها فيما يلي مبتدئين بالآثار العامة لهذه الآفة الاقتصادية – آفة الربا- :-
المبحث الأول:- الآثار الاقتصادية العامة للربا :
والآثار العامة للربا على الاقتصاد كثيرة منها ما يلي:-
1. الربا من أسباب غلاء الأسعار:-
يشكو العالم اليوم من غلاء الأسعار، وسببه يرجع إلى حدٍّ كبير إلى النظام الربوي السائد اليوم، لا يرضى صاحب المال، إذا استثمر ماله في صناعة أو زراعة أو شراء سلعة، أن يبيع سلعته أو الشيء الذي أنتجه إلا بربح أكثر من نسبة الربا، وذلك لأنه يفكر بأنه استثمر المال وبذل الجهد واستعد لتحمل الخسارة فلا بد أن تكون نسبة الربح أكثر من نسبة الربا، وكلما زادت نسبة الربا غلت الأسعار أكثر منها بكثير، هذا إذا كان المنتج أو التاجر صاحب مال.
وأما إذا كان المنتج أو التاجر ممن يقترض الربا، فرفعُه أسعار منتجاته وسلعته أمرٌ بدهي، حيث سيضيف إلى نفقاته ما يدفعه ربا…. يقول أحد علماء الغرب: (لعله يلزم أن تكون نسبة الربح من (15) إلى (20%) لترغيب الناس في مخاطرة الاستثمار عندما يكون سعر الفائدة الخالص(5) أو(6%)، وتُحدث تلك النسبة من الربح تفاوتاً في توزيع الدخل الفردي، وعند انخفاض السعر الخالص إلى (2) أو (3%) تحت تأثير نظام المصارف أو الوسائل المالية الأخرى سيكون ممكناً للمبادلة الاجتماعية أو السلطات المباشرة خفض نسبة الربح إلى (5) أو (10%) ) ([7]).
ولا يقف الأمر عند غلاء الأسعار، بل يحدث اضطراب في حياة الناس حيث لا يتمكنون من شراء حاجاتهم الأساسية بسبب غلاء الأسعار([8]).
هذا لأن الربا والفائدة سبب في رفع تكاليف الإنتاج التي يترتب عليها رفع الأسعار وهذا يؤدي إلى أضرار محققة على الناحية الاقتصادية([9]).
2. الربا من أهم العوامل التى تساعد على انتشار البطالة:-
يتسبب الربا في انتشار البطالة، وذلك لأن أصحاب الأموال يفضلون أموالهم بالربا على استثمارها في إقامة مشروعات صناعية أو زراعية أو تجارية، وهذا- بالتالي- يقلِّل فرص العمل، فتنتشر البطالة في المجتمعات التي يسود فيها التعامل الربوي، ويؤكد هذا ما نشاهده من معاناة الدول الغربية من مشكلة البطالة رغم تقدُّمها فنياً وتطورها في الصناعة…
وتبذل حكومات تلك الدول الجهد لتشغيل الناس والسيطرة على مشكلة مع إبقاء سبيلها؟ وقد بَيَّن علماء الغرب الارتباط الوثيق بين البطالة والتعامل الربوي، يقول أحدهم: (من مصلحتنا أن نخفض سعر الربا إلى درجة يتمكن من تشغيل الناس جميعاً) ([10]).([11]).
4. الربا يسبب شقاوة المقترضين لحاجاتهم الشخصية:-
يبدو أن النظام الربوي يساعد المقترضين، حيث يتمكنون من تلبية حاجاتهم بالمال الذي ينالونه بالقرض، لكن إذا نظرنا إلى ما يترتب على هذا الاقتراض وجدنا أنه سبب دمارهم وشقاوتهم،…. إنَّ نسبة الربا التي يتقاضاها المرابون من هؤلاء عالية جداً … ونتيجة لذلك، إذا وقع أحدٌ فريسةً للمرابين، فلا يكاد يخرج من شباكهم، يدفع المقترض ربا الدَّين، في كثير من الأحيان أكثر من أصل الدَّين، في حين يبقى الدَّين في ذمته كاملاً غير ناقص، وقد قيل عن حالة المدين المزارع في الهند:- (يولد الفلَّاح وهو مدين، ويعيش وهو مدين، ويموت وهو مدين) ([13]) ، وقد بين هذا علماؤنا قبل الغرب أثناء ذكرهم حكمة تحريم الربا، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- أثناء بيانه حكمة تحريم ربا القروض:- (فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحقَّ يؤخر مطالبته، ويصبر عليه بزيادة يبذلها له، تكلَّف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، وتعظم مصيبته، ويعلوه الدَّين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربوا المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخيه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا) ([14]).
5. منع الربا من الاستثمار في المشروعات المفيدة للمجتمع:-
يجد صاحب المال في النظام الربوي فرصة للحصول على نسبة معينة من الربا على ماله، وهذا يصرفه عن استثمار ماله في مشروعات صناعية وزراعية وتجارية مهما كانت مفيدة للمجتمع، إلا إذا اعتقد حصول نسبة ربح أكثر من تلك المشروعات من نسبة الربا،
وقد لا يرغب مع ذلك في تلك المشروعات، حيث إنها تتطلب بذل الجهد واستعداداً لتحمل الخسارة، في حين يتمكن فيه صاحب المال من الحصول على الربا بدون مشقة ومخاطرة، وقد بَيَّن العلماء هذه الحقيقة أثناء ذكرهم حكمة تحريم الربا، يقول الفخر الرازي:- (قال بعضهم : الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنّه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة، خفَّ عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمَّل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة) ([15]).
ويؤثر إعراض الناس عن استثمار أموالهم في المشروعات المختلفة على نمو رأس مال المجتمع…
فهكذا يحرم الربا أصحاب الأموال من استثمار أموالهم في المشروعات ويجعلهم كسالى، ويترتب على هذا الانخفاض في الإنتاج، ويظهر تأثير الربا في انخفاض الإنتاج من جانب آخر، وذلك أن نفقات المشروع الذي يقترض صاحبه مالاً له بالربا تزداد، فتقل نسبة الأرباح وبالتالي تضعف الرغبة في تنفيذ المشروع، وهذا يؤدي إلى انخفاض الإنتاج([16]).
6. تعطيل الطاقات البشرية:-
الربا يعطل الطاقات البشرية المنتجة، ويُرغِّب في الكسل وإهمال العمل، والحياة الإنسانية إنما ترقى وتتقدم إذا بذل الجميع طاقاتهم الفكرية والبدنية في التنمية والإعمار، والمرابي الذي يجد المجال رحباً لإنماء ماله بالربا يسهل عليه الكسب الذي يؤمن له العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ولا يشتغل بشيء من الحرف والصناعات، يقول الرازي
حرم الربا من حيث إنّه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة، خفَّ عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمَّل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والعمارات) ([17]). ثم إنَّ تعطيل الربا للطاقات المنتجة لا يتوقف على تعطيل طاقة المرابي، بل إنّ كثيراً من طاقات العمال ورجال الأعمال قد تقل أو تتوقف، ذلك أن الربا يوقع العمال في مشكلات اقتصادية صعبة، فالذين تصيبهم المصائب في البلاد الرأسمالية لا يجدون إلا المرابي الذي يقرضهم المال بفوائد عالية تعتصر ثمرة أتعابهم، فإذا أحاطت هذه المشكلات بالعمال أثرت في إنتاجهم.
هذا جانب، وجانب آخر أن الربا يسبب الركود الاقتصادي والبطالة وهذا يعطل الطاقات العاملة في المجتمعات الإنسانية([18]).
7. تعطيل المال:-
وكما يعطل الربا جزءاً من الطاقات البشرية الفاعلة، فإنه كذلك يعطل الأموال عن الدوران والعمل، والمال للمجتمع يعد بمثابة الدم الذي يجري في عروق الإنسان، وبمثابة الماء الذي يسيل إلى البساتين والحقول، وتوقف المال عن الدوران يصيب المجتمعات بأضرار فادحة، مثله كمثل انسداد الشرايين، أو الحواجز الذي تقف في مجرى الماء.
وقد رهب الله تبارك وتعالى الذين يكنزون المال وتهددهم بالعذاب الأليم الموجع:- " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" [ التوبة : 34 –35 ]
وقد شرع الله من الأحكام ما يكفل استمرار تدفق المال إلى كل أفراد المجتمع، بحيث لا يصبح المال دولة بين الأغنياء دون غيرهم:" كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" [ الحشر : 7 ].
والمرابي بجبنه وتطلعاته إلى الكسب الوفير لا يدفع ماله إلى المشروعات النافعة والأعمال الاقتصادية إلا بمقدار يضمن عودة المال وافراً كثيراً، وهو يحبسه إذا ما أحس بالخطر، أو طمع في نسبة أعلى من الفائدة في المستقبل، وعندما يقل المال في أيدي الناس يقع الناس في بلاء كبير.
ثم إن مقترضي المال بالربا لا يُسهمون في الأعمال المختلفة إلا إذا ضمنوا نسبة من الربح أعلى من الربا المفروض على الدَّين([19]).
8. الربا يشجع على المغامرة والإسراف:-
الحصول على المال بالربا سهل ميسور، ما دام المرابي يضمن عودة المال إليه، ولذا فإنّ الذين ليس لهم تجربة، وليس عندهم خبرة، يغريهم الطمع، فيأخذون القروض بالربا، ثم يدخلون في أعمال هي إلى المقامرة أقرب منها إلى الأعمال الصالحة، ومتى كَثُر هذا النوع من الأعمال فإنه يضر باقتصاد الأمة، والمرابي لا يمتنع من إمداد هؤلاء بالمال، لأنه لا يشغل باله الطريقة التي يوُظَّف المال بها، وكل ما يشغله عودة المال برباه، وقد أوجب علينا الإسلام منع السَّفيه من التصرف في ماله حفاظاً على ثروة الأمة من الضياع:- " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي يجعل الله لكم قياماً" [ النساء : 5 ] ولاحظ قوله: "أموالكم"، فقد جعل مال السفيه مالاً للأمة بها قوام أمرها فالربا يسهل وضع الكثير من مال الأمة بين أيدي المغامرين والجهلاء الذين قد يبددون هذه الأموال، ويزداد الأمر سوءاً عندما يستولي المرابي على بيوتهم ومزارعهم والبقية الباقية من مصانعهم ومتاجرهم.
وسهولة الاقتراض بالربا تشجع على الإسراف وإنفاق المال فيما لا يفيد ولا يغني..يقول المراغي([20]):-
(فالسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوه الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدّين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يماطلون ويؤجلون، والدّين يزداد يوماً بعد يوم، حتى يستولي الدائنون قسراً على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله :" يمحق الله الربا ويربي الصدقات"[ البقرة : 276 ] ([21]).
9. الربا من اسباب الكساد والبطالة:-
إذا ارتفعت أثمان الأشياء ارتفاعاً عالياً فإن الناس يكفون عن الإقبال على السلع والخدمات المرتفعة الأثمان، إما لعدم قدرتهم على دفع أثمانها، أو لأنها ترهق ميزانيتهم، وإذا امتنع الناس عن الشراء كسدت البضائع في المخازن والمتاجر، وعند ذلك تقلل المصانع من الإنتاج، وقد تتوقف عنه، ولا بد في هذه الحالة من أن تستغني المصانع والشركات عن جزء من عمَّالها وموظفيها في حالة تخفيض إنتاجها، أو تستغني عن جميع عمّالها وموظفيها إذا توقفت عن الإنتاج، وعندما يحس المرابين بما يصيب السوق من زعزعة يزيدون الطين بلَّة، فيقبضون أيديهم، ويسحبون أموالهم، فعند ذلك تكون الهزات الاقتصادية. الأمر العجيب لأن الأموال في المجتمع كثيرة، ولكنها في خزائن المرابين، والناس بحاجة إلى السلع، ولكنهم لا يشترونها لعدم وجود المال بين أيديهم، والعُمَّال يحتاجون إلى عمل، ولكن المصانع والشركات تمتنع من تشغيلهم لحاجتها إلى المال من جانب وإلى تصريف بضاعتها من جانب.
إن الربا يحدث خللاً في دورة التجارة، والإسلام في سبيل إصلاح هذا الخلل وغيره حرَّم الربا، وشرع تشريعات كثيرة تمنع تركز المال في أيدي طائفة من أفراد المجتمع…
واليوم تعاني أمريكا زعيمة الرأسمالي من أزمة بطالة مخيفة حيث زاد عدد العاطلين عن العمل في أمريكا عن اثني عشر مليوناً، وعدد الشركات التي أعلنت إفلاسها في عام 1982م ربا على (25000) شركة، وهذه النسبة تُعدُّ رقماً قياسياً لم تبلغه تلك الديار منذ سنة 1933م، وأظهرت إحصاءات رسمية أذيعة في بون ألمانيا الغربية أن عدداً قياسياً من شركات ألمانيا الغربية قد أفلست في عام 1982م بسبب الكساد والركود الاقتصادي وأسعار الفائدة المرتفعة ونقص رأس المال الاستثماري …([22]) إن تكبيل الأمم بهذه القيود الرهيبة يجعلها تعمل وتعمل وتعمل ولا تستفيد من عملها شيئاً، كل عملها يذهب إلى خزائن المرابين،وعند ذلك لا يستطيع الأفراد الحصول على حاجياتهم، ومع ذلك فإن الدولة تفرض المزيد من الضرائب، وترفع الأسعار لمواجهة العجز في مدفوعاتها، فتقوم الثورات وتحصل الاضطرابات وتزهق الأرواح،… وقد يصل الأمر إلى درجة تعجز الدولة عن السداد وعند ذلك تلغي الدولة ديونها…([23])
10. توجيه الاقتصاد وجهة منحرفة:-
ومن بلايا الربا أنه يُوجه الاقتصاد وجهة منحرفة، فالمرابي يدفع لمن يعطيه ربحاً أكثر، وأخذ القرض الربوي لا يوظف المال الذي اقترضه إلا في مجالات تعود عليه بربح أكثر مما فرضه عليه المرابي.
إذن القضية تكالبٌ على تحصيل المال، وفي سبيل ذلك تتجاوز المشروعات النافعة التي تعود بالخير على المجتمع، ويوظف المال في المشروعات الأكثر إدراراً للربح.
فإذا كانت نوادي القمار ونوادي العهر والفسق تعطي عائداً أكثر من المشروعات الصناعية والتجارية فإن المال الربوي يجري إليها جرياً، في حين تحرم المشروعات التي يحتاج إليها الإنسان من تلك الأموال([24]).
11. التسبب في الأزمات الجائحة:-
إن الربا في ذاته يسهل على الناس أن يدخلوا في مغامرات لا قبل لهم باحتمال نتائجها – كما سبق بيانه- فالتاجر بدل أن يتجر في قدر من المال يتكافأ مع قدرته المالية على السداد، يأخذ مالاً بفائدة ليزيد في متجره، وقد يكسب من ذلك….، ولكن العاقبة غير محمودة إن نزلت البضائع، فإنه لا يكون في قدرته البيع في الوقت الذي يريد، إذ أن الفائدة التي تلاحقه، والديون التي تركبه تضطره للبيع في الوقت الذي لا يناسبه، فتكون الخسارة الفادحة، أو يكون الإفلاس المدمِّر، والديون تحيط بذمته، كما تحيط الأغلال بعنقه.
وقد ثبت أن الأزمات الجائحة التي تعتري الاقتصاد العالمي تكون من الديون التي تركب الشركات المقلة، فإن عجزها عن السداد عند الكساد يدفعها إلى الخروج عن بضاعتها بأقل الأثمان إن وجدت من يشتري، ولذلك كانت تعالج هذه الأزمات الجائحة بتقليل الديون بطرق مختلفة، كإحداث تضخم مالي من شأنه أن يضعف قيمة النقد فيقل الدين تبعاً لذلك…. أو بتنقيص الديون مباشرة([25]).
12. إضعاف القوة الشرائية عند الطبقة الفقيرة والعمال مما يعرقل ترقية التجارة والصناعة:-
إن المرابي يسلب مَنْ يقرضه من ذي الحاجة آخرَ ما يبقى عنده من قوة الشراء.
إن بطالة مئات الألوف من البشر، والدخل الزهيد لملايين منهم سبب عرقلة شديدة في سبيل ترقية تجارة البلاد وصناعتها،…. وإذا حصلت بعض القوة الشرائية عند هؤلاء الملايين من الفقراء بدخلهم القليل وأجورهم غير الكافية، فإنهم لا يستطيعون أن يشتروا بها أدوات الحاجة ومرافق الحياة اللازمة، فإن المرابي يسلبهم معظمها ثم لا يستهلكها في اشتراء البضائع والخدمات ولكن ليزيد على المجتمع قروضاً تجلب مزيداً من الربا إلى خزانته، فلو أنه إذا كان في الدنيا كلها خمسون مليون رجل ممن وقعوا في مخالب المرابين يؤدي كل واحد منهم جنيهاً فقط في كل شهر، فمعناه أن الدنيا يبقى فيها في كل شهر من البضائع ما قيمته خمسون مليوناً دونما استهلاك، وينصرف هذا القدر من المال في كل شهر في خلق قروض ربوية جديدة بدل أن يرجع إلى إنتاج البلاد الاقتصادي([26]).
13. وضع مال المسلمين بين أيدي خصوم الإسلام:-
من أخطر ما أصيب به المسلمون أنهم أودعوا الفائض من أموالهم في البنوك الربوية في دول الكفر، وهذا الإيداع يجرد المسلمين من أدوات النشاط الاقتصادي ومن القوة الظاهرة في المبادلات، ثم يضعها في أيدي أباطرة المال- اليهود- الذين أحكموا سيطرتهم على أسواق المال وهذه والفوائد الخبيثة التي يدفعها لنا المرابون هي ثمن التحكم في السيولة الدولية([27]).
المبحث الثاني:- من أضرار الربا في قروض التجار والصناع (القروض الإنتاجية) ([28]) :
هذه القروض هي التي يأخذها التجار والصناع وأصحاب الحرف الأخرى لاستغلالها في شؤونهم المثمرة([29]).
إنَّ مما تقتضيه مصلحة التجارة والصناعة والزراعة وما إليها من الأعمال الاقتصادية الأخرى، أن الذين يشتركون فيها من أي وجه من الوجوه ينبغي أن تكون مصالحهم وأغراضهم وميولهم متحدة متجهة إلى ترقيتها والارتفاع بها، وأن تكون خسارتها خسارتهم جميعاً حتى يسعوا مجتمعين للسلامة من خطرها وإنقاذ أنفسهم من الوقوع فيه، وأن يكون ربحها ربحهم جميعاً ليستفيدوا في ترقيتها.
فكان مما تُجبه المصلحة الاقتصادية من هذه الناحية أن الذين يشتركون في التجارة أو الصناعة أو الزراعة لا بقواهم الذهنية أو البدنية ولكن برؤوس أموالهم فقط، ينبغي أن تكون مشاركتهم أيضاً من هذا النوع نفسه حتى يكونوا على اتصال بها كغيرهم، ويسعوا معهم في ترقيتها وإنقاذها من الوقوع في الخسارة، لكن لما انفتح على وجوه المرابين من أصحاب الأموال أن يستغلوا أموالهم في التجارة والصناعة لا من حيث هم شركاء فيها بل على أن يكون منهم ديناً فيها، وألا يزالوا يحصلون كذلك من التجارة أو الصناعة على ربحهم حسب سعر معين سنة فسنة أشهراً فشهر…
فالذين بأيديهم الوسائل لجمع المال واستغلاله في أعمال الإنتاج الاقتصادي لا يستغلونه في التجارة أو الصناعة بأنفسهم ولا يشاركون به غيرهم بل الذي يتمنونه ويسعون له دوماً أن ينصرف رأس مالهم في تجارة غيرهم أو صناعتهم أو زراعتهم بصورة الدين حتى يضمن لهم ربح مالي معين على تقلبات الأحوال وحدوث الكوارث، ويودُّون أن يكون هذا الربح المالي المعين على أرفع ما يكون من السعر السنوي أو الشهري مما له مضار فادحة عديدة نشير إلى بعضها فيما يلي([30]):-
1. ركز المال في موضع واحد دون أن يتقلب في شـأنٍ نافع مثمر وتعذر وسائل الإنتاج:
لا يزال معظم رأس المال بل كله أكثر الأحيان، مدخراً مرتكزاً في موضع واحد دون أن يتقلب في شأن نافع مثمر لا لشيء إلا لأن الرأسماليين يرجون ارتفاع سعر الربا في السوق.
نعم، تكون في الدنيا وسائل كافية قابلة للإنتاج، وكذلك يكون في الدنيا عدد غير يسير من طلاب المعاش يهيمون على وجوههم ملتمسين العمل المرتزق لأنفسهم، وكذلك يكون الطلب على أدوات الحاجة ومرافق الحياة موجوداً في الناس، ولكن على كل ذلك لا تكون في الدنيا وسائل الإنتاج ولا يجد العاطلون عملاً يرتزقون منه ولا تستهلك البضائع في الأسواق حسب الطلب الحقيقي.
وما كل ذلك إلا لأن الرأسمالي لا يعطي ماله لتجارة أو صناعة مادام لا يرجوا أن يعود عليه ماله بذلك السعر المرتفع الذي يود أن يناله بماله([31]).
2.عدم الاستفادة من الأموال إلا وفق مصلحة ذلك المرابي:-
إن الطمع في السعر المرتفع شيء يجعل الرأسمالي يمسك ماله عن جريانه إلى تجارة البلاد وصناعتها وزراعتها، أولا يفتحه لها إلا وفق مصلحته الشخصية ، لا وفق حاجة البلاد، ومضرة ذلك على البلاد كمضرة من لا يفتح ماء ترعته، أو لا يفتحه إلا وفق ما تقتضيه مصلحته الذاتية لا وفق ما تقتضيه حاجة المزارع والبساتين.
يستعد لفتح الماء بسعر رخيص على أوسع قدر إذا كانت المزارع والبساتين لا تحتاج إليه، ويرفع سعره على قدر ما تشتد إليه حاجة المزارع والبساتين، ولا يزال يرفعه ويرفعه حتى لا تعود لأصحاب المزارع والبساتين منفعة ما في إرواء أراضيهم بمائه بهذا السعر([32]).
3. اتجاه رأس المال إلى أعمال لا تحتاج إليها المصلحة العامة:-
إنه من آثار الربا أن رأس المال لا يرضى أن يتجه إلى أعمال نافعة تشتد إليها الحاجة للمصلحة العامة مادامت لا ترد على صاحبه بالربح حسب سعر الربا في السوق، ويجري – على العكس من ذلك- متدفقاً إلى أعمال لا تحتاج إليها المصلحة العامة مادامت تعود على صاحبها بربح مغدق.
وبالجانب الآخر إن الربا هو الذي يحمل التجار والصناع ويدفعهم إلى الاستعانة بكل ما تصل إليه أيديهم من الطرق المشروعة وغير المشروعة ليكسبوا أكثر من سعر الربا([33]).
4. إرغام أصحاب الصناعة والحرف على سلوك طريق ضيق النظر وعلى عدم الجرأة في أعمالهم:-
يأبى الرأسماليون أن يقرضوا العمال والصناع أموالهم لأجل طويل لأنهم يريدون، في جانب أن لا تخلوا أيديهم أبداً من مقدار كبير من المال قابل للاستغلال في القمار، ويرتؤون في الجانب الآخر أنه إذا ارتفع سعر الربا في السوق فيما بعد فإنهم سيخسرون بما يكونون أقرضوا من أموالهم لأجل طويل من قبل.
فينتج من كل ذلك أن أصحاب الصناعة والحرف الأخرى يُرغمون طبعاً على سلوك طريق ضيق النظر، وعلى عدم الجرأة في أعمالهم، فلا يأخذون من هؤلاء الرأسماليين إلا ديوناً قصيرة الأجل ويكتفون بأعمال موقتة محدودة النطاق مكان أن يعملوا شيئاً للمصلحة العامة الدائمة والتوسيع في نطاقها.
ففي مثل هذا الوضع يستعصي عليهم أن يصرفوا ثروة عظيمة في شراء الآلات والماكينات المستحدثة، بل لا يجدون لأنفسهم بُدَّاً أن يظلوا يستخدمون ما بأيديهم من الآلات والماكينات القديمة المستعملة وألاّ يوردوا إلى السوق إلا منتجات رديئة، حتى يتمكنوا من الوفاء بما عليهم من الدين ورباه ويولدوا مع ذلك شيئاً من الربح لأنفسهم، ثم إن من آثار هذه الديون القصيرة الأجل نفسها أن أصحاب المصانع يقللون من إنتاج البضائع في مصانعهم بمجرد ما يحسون بقلة الطلب عليها من السوق، ولا يجدون من أنفسهم جرأة ـ ولو إلى مدة قصيرة ـ على أن يبقوا ينتجون البضائع في مصانعهم على ذلك النطاق نفسه الذي كانوا ينتجونها عليه من قبل، لأنهم يجدون أنفسهم مهددين بالخطر الداهم قائمين على شفا حفرة من الإفلاس إذا انخفضت قيمة بضائعهم في السوق([34]).
5. إفلاس أكثر المدينين أو إتيانهم بحيل غير مشروعة مخلة بالنظام الاقتصادي في البلاد:-
إن المال الذي يستقرضه التجار والصناع لمشاريعهم التجارية والصناعية لأجل طويل، يسبب أخذ الربا عليه منهم حسب سعر معين كثيراً من المفاسد.
فمثل هذه الديون تؤخذ عامة لعشرة أعوام أو عشرين أو ثلاثين عاماً ويتفق فيها الفريقان على سعر مخصوص يوفيه المدين إلى الدائن سنوياً، ولا يراعي فيها ولا يمكن أن يراعي مادام لا يرى الفريقان من ظهر الغيب ما سيتقلب على أثمان البضائع من تطورات الارتفاع أو الانخفاض وأنه إلى أي حد سوف تزيد أو تقل أو تنعدم بتاتاً فرص الربح للمدين خلال مدة العشر سنين أو العشرين أو الثلاثين سنة الآتية.
وهَبْ أن رجلاً يستقرض اليوم مقداراً عظيماً من المال لعشرين سنة بسعر (70%) سنوياً ثم ينشئ على أساسه عملاً كبيراً مهماً، فهو مضطر بطبيعة الحال ألا يزال يؤدي إلى الدائن سنة فسنة إلى سنة(2017م) قسطاً من أقساط دينه وما عليه من الربا، ولكن إذا انخفضت الأثمان في السوق سنة (1999م) إلى شطر ما هي عليه اليوم مثلاً، فمعناه أن هذا المدين مادام لا يبيع في تلك السنين القادمة أضعاف ما يبيعه اليوم من بضائع، فإنه لن يستطيع أن يؤدي إلى الدائن قسطه من الدين ولا من الربا وستكون النتيجة اللازمة لذلك أن يفلس أكثر مدينين هذا الدائن أو يأتوا بحيل غير مشروعة مخلة بنظام بلادهم الاقتصادي لينقذوا أنفسهم من الإفلاس.
ومما لا يكاد يقوم فيه أدنى ارتياب عند كل عاقل أن الرأسمالي الذي يقرض التجار والصناع بين الأثمان المرتفعة والمنخفضة في مختلف الأزمان، ليس ربحه الذي لا يتبدل مع انخفاض الأثمان وارتفاعها في شيء من العدل والإنصاف ولا يمكن إثبات تمشيه مع مبادئ الاقتصاد، ومساعدته على الرفاهية الاجتماعية.
أوقد سمعتم في الدنيا بمقاول إذا كان يعاهد زبائنه على أن يهيأ لهم شيئاً من أدوات حاجتهم، يقطع أن لن يهيأ لهم هذا الشيء في العشرين سنة القادمة إلا بهذا السعر الذي يهيئه لهم به الآن.
فإن كان هذا الوضع الغريب لا يمكن في نوع من أنواع البيع الطويلة الأجل في الدنيا، فما للرأسمالي المرابي وحده دون غيره مع مدينه على قيمة مخصوصة لدينه، ثم لا يزال يتقاضاه إياهم إلى مدة غير قصيرة من السنين! ([35]).