بدأ فصل الشّتاء، سيكون شتاءً طويلاً وقارسًا، وربمّا يتخلّله التّسونامي. لقد صرنا هنا مع الوقت الطّويل والمآسي المتتالية والحروب الطّويلة الخاسرة، صرنا كتماثيل الجنود المجهولين البرونزيّة. لن يخيفنا التّسونامي، سنستغلّ أمواجه العالية للرَّكْمَجَة.
أبناء حيِّي كلّهم سبّاحون، تعلّمنا السّباحة قبل أن نتعلّم المشي، اصطدت أسماكًا صغيرة بيدي وعمري ستّ سنوات، بعد أن ينحسر المحيط تبقى الأسماك الصّغيرة جدًّا عالقة في البرك الصّخريّة الّتي تمتدّ كفخاخ على طول الشّاطئ، أغطس في البركة الضّحلة وفي يدي كيس بلاستيكيّ أستعمله كشبكة، أدفع الماء بقدميّ كالضّفدعة، حين أصل إلى حافة البركة الأخرى يكون الكيس البلاستيكيّ قد جرف كلّ الأسماك، أحمله وأترك الماء يسيل من ثقوبه، الحصيلة: مقلاة من السّمك الصّغير الخالي من أيّة أشواك.
أسكن قرب المحيط، وعلى يميني هناك نهر أبي رقراق، كيف لا أحبّ الأسماك، وكيف لا أسبح كسمكة، وكيف أخاف من التّسونامي؟ أحبّ كثيرًا مشهد مطر غزير يتهاطل في العاشرة صباحًا فوق البحر، وأحبّ حكايا البحّارة، أحفظها عن ظهر قلب وأعيد حكيها لأصدقائي بعد إضافة بعض التّفاصيل الضّروريّة من دماغي. لكنّي لا أحبّ فصل الشّتاء، كنت أحبّه فيما مضى، لكنّه لم يعد شاعريًّا كما كان، لقد تغيّر العالم، والشّتاء القارس الطّويل لم يعد يعني لي أيّ شيء سوى الكآبة المستمرّة الّتي لا تعقبها أيّ قهقهة، بل كلّ ما يعقبها هو الانهيار الكامل.
بالأمس رأيت مجنون الحيّ "نُوعَا" يتجوّل في الشّارع العامّ بفردتي حذاء مختلفتين، وشعر أشقر طويل، وحقيبة غامضة فوق ظهره، كان المطر يتهاطل، وكان "نوعا" يرتدي فقط قميصًا رياضيًّا خفيفًا، ولا يرتعش، لم يكن يحسّ بالماء يبللّ شعره ووجهه وثيابه وأعماقه، كان يقاوم البرد بالبرد، ويتقدّم في الزّحام حاملاً على ظهره حقيبة مليئة بمستلزمات الجنون، مبتسمًا بصلابة. طيلة ثلاثين سنة وهو مجنون، ورغم ذلك لازال حيًّا، يبدو من الخلف بمشيته العوجاء كملاكم أسقط للتّوّ غريمه بالضّربة القاضية.
كنت أسجن نفسي في غرفتي لشهور، أتمشّى داخل زنزانتي عاريًا من أقصاها إلى أقصاها كذئب في قفص الصّيّادين، وأتدرّب بالقفز على أصابعي ولكم الحائط دون قفّازات، استعدادًا لأيّ طارئ. أجلسُ اللّوتس فوق سريري وأتأمّل طيلة اللّيل. في الصّباح أقرأ نيتشه، وفي المساء أقرأ نيرودا، في حمية صارمة كغذاء السّجن، لا أغيّرها أبدًا.
كان لابدّ لي من امتلاك طاقة روحيّة للمقاومة والبقاء مدّة أطول كشوكة سمكة قرش على الشّاطئ في حلق الرّمال، وكان مصدر تلك الطّاقة الجبّارة الوحيد هو: الكسل.
أستطيع الآن أن أصعد عاريًا إلى السّطح، وأجلسَ اللّوتس تحت المطر البارد الغزير، ساعات وساعات، دون أن أرتعش، شعري الطّويل مبلول كأنّي أغطس في برك نفسي وأملأ حياتي بأسماك صغيرة حيّة، وعلى وجهي ابتسامة ملغّزة كابتسامة"نوعا".
أستطيع بكلّ سهولة مقاومة البرد بالبرد، والقسوة بقسوة أقسى منها. لكنّي لا أستطيع أبدًا مقاومة مشهد سماء كبيرة كلّها غائمة وحزينة، تسيطر عليّ فكرة قويّة وملحّة، أن أخرج عاريًا إلى الشّارع، حاملاً على ظهري حقيبة، وعلى وجهي ابتسامة "نوعا" المشرقة في المطر.