نافذة على الفوضى ،،،!
نافذة :
نادتْ على أختها الصغيرة بصوت حنون :
-" رشا ، تعالي أريد منكِ شيئًا ".
-" قادمةٌ أختي ، ما الأمر ؟ "
-" مرّ وقتٌ طويل عن آخر مرة ، سأحاول من جديد ! ساعديني... فأنا أريد أن أرى الحي ، المدينة ، الناسَ فرحون ، الأطفالَ و صراخهم، كما أني أشتاق للهواء النقي ..."
-"يال فرحتي عزيزتي ...انتظري ، سأفتح النافذة أولا ، ثم أوصلكِ هناك ، اتفقنا ؟ "
بعد دقائق معدودة كانتْ " فاطمة " أمام النافذة ، استنشقتْ برئتيها الضعيفتين الهواء و استطعَمَتْه دفعة واحدة كمُدمن يستلذُّ سيجارته التي حرَّمها على نفسه منذ زمن !
براءة :
تنهّدتْ بفرح و سرور بريئين و هي تلمح أطفالا يلعبون لعبة الغمّيضى ، لفتَتْ انتباهها - أكثر من غيرها - تلك البنت النحيلة بضفيرتيها السوداوتين ،كانت تسحر الألباب و هي تحلق كالفراشة ،،،
تحاول الاختباء خلف شجرة الصفصاف الباسقة ، يتفرّق الباقون كلٌ في مكان معيّن...
بينما الفتى الطويل يغمض عينيه و هو يعدّ للثلاثين :"... سبعة و عشرون ، ثمانية و عشرون ، تسعة و عشرون ، ثلاثون ، انتهى الوقت سأبدأ البحث الآن ، فتحتُ عيني خلص ..."!
تتراءى له البنت النحيلة بضفيرتيْها المسدولتين من خلف الشجرة ، يقصدُها باسمًا منتصرًا ، ثم يوشوش لها بصوت مسموع : !
" لا تخافي سأتظاهر بعدم رؤيتك ،و سأجعلكِ تفوزين ..."!
نطّتْ البنت فرِحةً ،فجعلَتْ " فاطمة " تفرح معها أيضاً ...!
نِدّان ! :
-غير بعيدٍ عن مكان لعب الأطفال ، كان "خالد " بلحيته الخفيفة يحمل حقيبة صغيرة ، يغادر منزله وهو يمنّ على زوجته " نورا " بابتسامة باهتة قائلا :
" سأكمل عملي قريبا و أعود لكِ .."، بدا و كأنه يقلّد البسمة الفارغة - نفسها - التي تودّعه بها !
" و لكن لمَ لا يتعانقان ؟ زوجان غبيّيْن ! "
همستْ " فاطمة " لنفسها ، ثمّ تابعتْهُ بعيونها و هو يتجّه صوبها ، قاصدًا المحطة التي كانت أسفلَ نافذتها ، اقترب جدا منها ، رنّ هاتفه ، يجيب ضاحكًا :
" أنا أيضا اشتقتُ لكِ حبيبتي ، انتظريني بلهفة هاه ؟ سأكون عندكِ بعد قليل " ،
لامستْ لوعة كلماته أُذنَيْ " فاطمة " حتى كادت تحس بأنفاسه تلسعُها...! فقالتْ تتحدى نفسها مبتسمة بصبيانية :
-"لا أصدق أنهما تذكّرا العناق أخيرًا ؟ كنتُ واثقة أنه سيعود لعناقها الآن ...لستُ حالمة هَهْ " ، انتظرتْ دقائق حتى تراه يعود لزوجته معتذرًا ، يعانقها بحب،
ثم يودّعها كما يجب ،،،لكنه لم يفعل ، و بدلاً من ذلك ابتهج عند رؤية الحافلة قادمة و نطّ يتّخذ لنفسه مقعدًا حتى قبل أن تتوقف تمامًا !
سرٌ كُشِفْ !:
لا تكاد تشعر بالساعات تمرّ - حتى بعد تفرّق الأطفال مساءً - ، في الشقة المقابلة تلمحُ ستائر نافذة تتحرك بخفة و حذر ، خلفها تقبع " سارة " تجلس دونما اكتراث لشيء ،،،
و من دون سابق إنذار ترتبك أناملها و هي تُبعد الستار ، ترتجف عيونها و هي تسرق النظر لأحدهم ، كانت ترمق ذاك الفتى الطويل بنظرات ثاقبة تتوّقد شوقًا ،،،
" مسكينة ، يبدو أنها تحبّه سرًا !"
جحظتْ عينا " فاطمة " لمّا تبيّنَتْ الفتى المقصود ،إذ لم يكن غير أخيها " أحمد "...!
خيال :
- في آخر النهار و بينما كانت تهم بإغلاق نافذتها لمحتْ طيفَ رجلٍ يقترب من منزل " نورا " ( لا يشبه طيف زوجها في شيء ) و قبل أن يدق البابَ فتحتْ له، استقبلتْه بابتسامة عريضة ،
خطفَتْه إلى الداخل ،استرقتْ بعض النظرات يُمنةً و شمالاً خارج منزلها ، ثم أقفلتْ الباب مطمئنّة...
" لا ، لا يمكن ، ليست الخيانة أمراً بتلك البساطة ، قد يكون أخاها أو قريبها " !
قضتْ " فاطمة " ليلتها صاحية تتقلّب، محاولة طرد الأفكار من بالها :
" و ان يكن ، ما شأني أنا ؟؟ الدنيا كلها فوضى ..."
هروب :
- تستيقظ حوالي منتصف النهار على صراخ الأطفال المنبعث من الشارع ، استهواها النسيم العابث بستائر النافذة ، لكنها فتحتْ التلفاز بدلاً من ذلك ...
دخلتْ "رشا " بابتسامتها المعهودة :
-" فاطمة أ لا ترغبين بالجلوس أمام النافذة ؟ "
-"لا ،فقد داهمتني أمس خيالات غبية ، يبدو أن لفحة الهواء استوحشتني و لم تعدْ تعرفني رغم ما كان بيننا من ود ! "
-" آه فهمتك ، نزلة برد إذن ؟ "
-" كما أعتقد...."
فوضى :
بعد أيام قليلة فاجأتها "رشا " المشاغبة تقول :
-" أخبار جديدة، أخبار جديدة ، حيّنا يشهد انقلاباً عجيبًا ، عند عودة "خالد " من سفره ضبطَ زوجته تخونه مع عشيقها في عش الزوجية ، مسكين ، هو لا يستحق، كان طيبًا و لطيفًا جدا ،
يحب الخير للجميع ،صح ؟؟ "
-" ممكن ، ربما ، لا أدري...!"
-"ثاني خبر ، تعرفين " سارة " الجميلة ؟ اليوم أقامتْ حفل خطوبتها لرجل مغترب غني ، لكنه يقارب الأربعين سنة،،،يقولون بأن عينيها كانتا تبرقان اليوم بشدة ، برأيكْ كان بريق فرح ؟؟؟
-" ربما ...! أين " أحمد " ؟ ، أريده الآن "
أمّا الأولاد فقد تفرّقوا عن اللعب ،و ظلّتْ شجرة الصفصاف وحيدة تنتظر ملمساً ناعمًا بريئًا يعيد لها الحياة ، لكنها انتظرتْ طويلاً ،،،،دون جدوى، حتى يبِستْ أغصانها....!