تعليم ، كتب ، الرياضة ، بكالوريا ، نتائج ، مسابقات ، أدب وشعر ، الهندسة الإلكترونية بكل أنواعها ، اللغات ، التعليم التقني والجامعي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
style
date الإثنين 15 مايو - 11:57
date الإثنين 8 مايو - 22:14
date الأحد 19 أغسطس - 16:42
date الأحد 19 أغسطس - 15:17
date السبت 18 أغسطس - 17:10
date السبت 18 أغسطس - 17:00
date السبت 18 أغسطس - 16:56
date السبت 18 أغسطس - 14:52
date السبت 18 أغسطس - 10:07
date الخميس 16 أغسطس - 17:02
date الخميس 16 أغسطس - 16:54
date الأربعاء 15 أغسطس - 18:13
date الأربعاء 15 أغسطس - 18:08
date الأربعاء 15 أغسطس - 10:21
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
style

شاطر
 

 بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Labza.Salem
Admin
Labza.Salem

عدد المساهمات : 43954
نقاط : 136533
تاريخ التسجيل : 12/09/2014
العمر : 29
الموقع : سيدي عامر

بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Empty
مُساهمةموضوع: بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق   بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Emptyالخميس 20 أبريل - 9:49

ربما كان صدور مذكرة الاعتقال للرئيس السوداني عمر البشير تدخل ضمن الاستهداف العام المُتصور في دوائر الصراع الحديثة التي تَقَدَم بها المشروع الغربي إلى مدار متقدم من المواجهة شمل أفغانستان والعراق بمعنى أن الإستراتيجية الغربية دخلت خلال الفترة الماضي إلى مباشرة التدخل العسكري في عمق الوطن العربي والعالم الإسلامي ومن خلال هذا السياق يبدوا الأمر مفهوما بغض النَظر عن النقد العنيف الذي يُوجّه للرئيس بوش وحروبه لكن على الأرض لم يكن هناك أي انسحاب استراتيجي من حملة الدعم الأوربي لمدار التدخل بل استمر حيويا رغم الإرهاق الذي تعرض له الناتو ولكن استمر التحالف مع واشنطن وبقي رفض الرأي العام الغربي يتزايد وان لم يصل للغالبية لكنه في نهاية الأمر لا يغير شيئا في صناعة القرار .
لكن الذي صور الحجر الملقى كبيرا في المياه المضطربة أن التفعيل لمؤسسات الهيمنة الأمريكية بألقابها الدولية المتعدد كمحكمة الجنايات وغيرها أنّ الأمر كان مباشرا باستهداف رأس الدولة في وضع انتقالي حساس يعيشه السودان وظروف عديدة تهيئ الوضع إلى حالة فوضى شاملة كالحالة الصومالية أو مواجهة واضطراب مسيطر عليه ينتهي بفصل دارفور والجنوب وتشظي الغرب والشمال بما يعني أن الغرب قد قرر بالفعل استئناف مشروع التقسيم والشرذمة للوطن العربي ولكنه هذه المرة بدء بالسودان .
نص اتهام مدعي المحكمة الجنائية ضد البشير
الرئيس السوداني عمر حسن البشير
فيما يلي نص مذكرة الاتهام التي قدمها لويس مورينو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى المحكمة ضد الرئيس السوداني عمر البشير، يوم الإثنين 14 يوليو 2008.
المحكمة الجنائية الدولية
لاهاي، في 14 يوليو 2008
الحالة: دارفور، السودان
قام السيد لويس مورينو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية اليوم بتقديم الأدلة التي تبرهن على أن الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير قد ارتكب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب في دارفور.
فبعد مرور ثلاث سنوات على طلب مجلس الأمن بالتحقيق في دارفور، واستنادا إلى الأدلة الدامغة يرى المدعي العام أن هناك مبررات معقولة للاعتقاد بأن عمر حسن أحمد البشير يتحمل المسئولية الجنائية فيما يخص التهم الموجهة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
وتبين الأدلة التي قدمها المدعي العام أن البشير قد دبر ونفذ خطة لتدمير جزء كبير من مجموعات الفور، والمساليت، والزغاوة؛ لأسباب إثنية.
احتج بعض أعضاء هذه المجموعات الثلاث، وهم من ذوي النفوذ في دارفور منذ زمن على تهميش الولاية، وشرعوا في التمرد، ولم يتمكن البشير من هزم الحركات المسلحة، فصار يهاجم الشعب.
ويقول المدعي العام إن دوافعه سياسية في معظمها، وهو يتذرع بحجة "مكافحة التمرد"، أما نيته فهي "الإبادة الجماعية".
بأمر من البشير، ولأكثر من خمس سنوات، هاجمت ميليشيا الجنجويد القرى ودمرتها، وتابعت الأشخاص الذين نجوا إلى الصحارى، وأخضع من تمكن من الوصول إلى مخيمات المشردين داخليا للعيش في ظروف مدروسة؛ ليكون مصيرهم هو التدمير.
إن البشير يعرقل تقديم المعونة الدولية، والقوات التابعة له تحيط بالمخيمات؛ فقد قال أحد الشهود: "عندما نراهم نفر جريا، فينجو بعضنا، ويقبض على البعض الآخر، فيقاد ويغتصب اغتصابا جماعيا، فقد يغتصب حوالي عشرين رجلا امرأة واحدة، وهذا أمر عادي بالنسبة لنا نحن هنا في دارفور، وإنه أمر يحدث باستمرار، ولقد شهدت أنا أيضا عمليات اغتصاب، وليس مهما من يراهم وهم يغتصبون إحدى النساء، فهم يغتصبون الفتيات بحضور أمهاتهن وآبائهن"
لأزيد من خمس سنوات، شرد الملايين من المدنيين من أراضيهم التي شغلوها لقرون، ودمرت جميع وسائل عيشهم، واغتصبت أراضيهم، وسكنها مستوطنون جدد.
"في المخيمات، يجبر البشير على قتل الرجال، واغتصاب النساء، إنه يريد إلغاء تاريخ شعوب الفور، والمساليت، والزغاوة"، كما يقول المدعي العام، ثم يسترسل قائلا: "فأنا لا أحتمل غض الطرف، ولدي أدلة".
لأزيد من خمس سنوات، أنكر البشير وقوع هذه الجرائم؛ فهو يقول لا وجود للاغتصاب في السودان.. إن كل هذا مجرد ادعاءات.. "إن البشير قد جعل ارتكاب المزيد من الجرائم ممكنا بمنعه الكشف عن الحقيقة بشأن الجرائم، وإخفاء جرائمه تحت قناع "إستراتيجية مكافحة التمرد"، أو "الاصطدامات بين القبائل"، أو "أفعال ميليشيات غير قانونية ومستقلة".
ولقد شجع مرءوسيه ومكنهم من الإفلات من العقاب من أجل ضمان رغبتهم في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية"، يقول المدعي العام: "إن نية البشير في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية أصبحت واضحة إبان الهجمات المنسقة تنسيقا جيدا، "إن البشير قد نظم إفقار الأشخاص الناجين، إنه لم يكن في حاجة إلى الرصاص؛ فقد استخدم غير ذلك من الأسلحة، لقد استخدم الاغتصاب، والتجويع والخوف؛ وهي وسائل كلها في نفس الفعالية، لكنها أسلحة صامتة".
ويتابع: "تبين الأدلة اليوم أن البشير، بدلا من مساعدة أهل دارفور قد عبأ جهاز الدولة بأكمله، بما في ذلك القوات المسلحة، وجهاز الاستخبارات، والدوائر الدبلوماسية والإعلامية، والجهاز القضائي من أجل إجبار الأشخاص الذين يعيشون في مخيمات المشردين داخليا، ومعظمهم من المجموعة المستهدفة، على العيش في ظروف مدروسة لتدميرهم جسديا".
وأضاف السيد لويس مورينو أوكامبو قائلا: "إن البشير هو الرئيس، وهو القائد الأعلى، ولقد استعمل جهاز الدولة بأكمله، واستخدم الجيش، وجند ميليشيا الجنجويد، وإن هذه الأجهزة جميعا تحت مسئوليته، وهي كلها تطيعه، إنه يتمتع بسلطة مطلقة".
ستنظر الدائرة التمهيدية الأولى الآن في الأدلة، وإذا رأى القضاة أن هناك مبررات معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن الشخص المسمى قد ارتكب الجرائم المزعومة، فستقرر ما هي أنجع السبل لامتثاله أمام المحكمة، فقد طلب المدعي العام إصدار أمر بإلقاء القبض عليه 
هل يحاكم الرئيس البشير دوليا؟
محمد سليم العوا 
أصدر المدعي العام أمام المحكمة الجنائية الدولية، الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، تقريرًا سيقدمه إلى الدائرة التمهيدية المختصة بالمحكمة الجنائية الدولية (وفقًا لنص المادة 58 من نظامها) بطلب القبض على الرئيس السوداني عمر حسن البشير لمحاكمته بموجب النظام الأساسي للمحكمة الصادر في روما عام 1998. 
ويثير هذا الموقف من المدعي العام تساؤلات عديدة عن مدى جوازه من الناحية القانونية الدولية، وعن مدى صحته طبقًا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وعن مدى تعبيره عن حقائق واقعية تشكل جرائم ضد الإنسانية تقتضي تدخلاً دوليا، وعن الآثار التي قد تترتب على تنفيذ طلب المدعي العام -إذا تم تنفيذه- بالنسبة لدول العالم بوجه عام، وبالنسبة للدول العربية بوجه خاص.
وأحاول إيجاز ذلك كله في الملاحظات الآتية:
ولاية المحكمة
(1) المحكمة الجنائية الدولية أنشئت بموجب معاهدة دولية ملزمة للأطراف التي صدقت على الانضمام إليها دون غيرها، هذه المعاهدة هي المعروفة باسم نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وقد اعتمد هذا النظام في روما في 17/7/1998 أي منذ عشر سنوات كاملة.
والدول التي صدقت على هذه المعاهدة بلغ عددها حتى 1/6/2008 (106) دول، منها 30 دولة إفريقية، و13 دولة آسيوية، و16 دولة أوروبية شرقية، و22 دولة من أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، و25 دولة من أوروبا الغربية وغيرها، ويدخل تحت تعبير (وغيرها) الوارد في البيان الرسمي للدول الأعضاء في نظام روما، دولتان عربيتان هما: الأردن وجيبوتي، ولم تصدق أي دولة عربية -سوى هاتين الدولتين- على نظام المحكمة.
والمقرر في قواعد القانون الدولي -بغير خلاف- أن المعاهدات الدولية لا تسري إلا على الدول الأطراف فيها، وأنه لا يمكن إجبار دولة على الالتزام بأحكام معاهدة، أو الخضوع لها، دون أن تكون طرفًا فيها.
ولم يخرج النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عن قاعدة اقتصار آثار المعاهدات على أطرافها؛ فقد نص في مادته الثانية على أن (جمعية الدول الأطراف) هي التي تعتمد اتفاق تنظيم العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة، ونص في مادته الثالثة/ 2 على أن (جمعية الدول الأطراف) هي التي تعتمد اتفاق المقر الذي يبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة مع دولة المقر (هولندا).
ونص في مادته الرابعة/2 على أن للمحكمة أن تمارس وظائفها ومسئوليتها على النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي في إقليم أي دولة طرف، ونص في مادته الحادية عشرة/2 على أنه «إذا أصبحت أي دولة من الدول طرفًا في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه، فلا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة».
وقد أكدت هذا المبدأ نصوص المواد (12) و(13) و(14) والمادة (34 في فقرتها رقم أ، ب، ج، وفقرتها رقم 6/أ وفقرتها رقم 8/أ، ب) والمادة (42/4) والمادة (48/1) والمادة (51/2) والمادة (52/3) والمادة (59/1)، وغيرها من النصوص التي تشير إلى (الدولة الطرف) أو إلى (الدول الأطراف).
ونصوص النظام الأساسي للمحكمة عددها (128) مادة، ليس فيها مادة واحدة تخول المحكمة اختصاصًا على مكان أو شخص لا يحمل جنسية إحدى الدول الأعضاء في تلك المعاهدة الدولية المعروفة بـ«نظام روما 1998».
ونتيجة ذلك –قانونًا- أن السودان وأراضيه وأبناءه من المسئولين الحكوميين أو السياسيين أو من غيرهم لا يمكن بحال من الأحوال أن تنطبق عليهم نصوص نظام المحكمة الجنائية الدولية؛ لسبب بسيط هو أن السودان ليس عضوًا في هذه الاتفاقية التي لا تسري نصوصها إلا على الدول الأعضاء فيها.
معلومات مغلوطة
(2) تنظم المادتان (53) و(54) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وظيفة المدعي العام المعين أمامها، وهما توجبان عليه -ضمن واجبات عديدة- أن يتأكد من أن المعلومات التي أتيحت له توفر أساسًا معقولا للاعتقاد بأن جريمة تدخل في اختصاص المحكمة قد ارتكبت أو يجري ارتكابها.
ومن أن القضية مقبولة أو يمكن قبولها بموجب المادة (17)، وأن يوسع نطاق التحقيق ليشمل جميع الوقائع والأدلة المتصلة بتقدير ما إذا كانت هناك مسئولية جنائية بموجب هذا النظام الأساسي، وأن يحقق في ظروف التجريم والتبرئة على حد سواء.
وقراءة تقرير المدعي العام، الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، تبين أنه لم يزر السودان، وطبعًا لم يزر دارفور، ولم يزر أي من معاونيه الذين ذكرهم النظام الأساسي للمحكمة السودان أو دارفور، فكيف يتسنى له أن يتأكد من المعلومات بحسب نص المادة (53)، وأن يوسع نطاق التحقيق طلبًا للحقيقة عملا بنص المادة (54) من النظام الأساسي للمحكمة؟!
لقد اعتمد السيد أوكامبو على معلومات وصلته من معارضين سودانيين يقيمون في أوروبا -وربما في الولايات المتحدة- وعلى تقارير إعلامية، وسمى ذلك وثائق، وعدَّدها فجعلها سبعة آلاف وثيقة(!) وهي كلها لا توصف بأقل من أنها غير محايدة، وهي -بلا شك- قد وصفت الحال في دارفور بما أملاه هوى كاتبيها لا بحقيقة الحال؛ لأن الذي أورده المدعي العام في تقريره المأخوذ منها ليس صحيحًا جملة وتفصيلا.
ودارفور ليست في المريخ، وليس الوصول إليها مستحيلا، والسودان تَعَاون مع كل من اهتم بموضوعها في إتاحة فرصة الوصول إليها واللقاء بالمسئولين السودانيين وزعماء المعارضة، وبأهل دارفور في محافظاتها الثلاث، والوقوف على حقائق الواقع بنفسه.
ولم يقرر أحد من الأشخاص، ولا وفد رسمي من الوفود التي زارت دارفور في خضم الأحداث (2004 - 2006) صحة أي تهمة مما ردده السيد أوكامبو في تقريره.
لقد زارت وفود من الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، واتحاد الأطباء العرب، وعشرات المنظمات الأخرى العربية والإسلامية والدولية، دارفور في أثناء سنوات 2004 و2005 و2006، وقبلها وبعدها.

وكانت، ولا تزال فيها، معسكرات دائمة للبعثة الطبية العسكرية المصرية، وللهلال الأحمر السعودي، ولمنظمة الإغاثة الإسلامية، ولبضع وعشرين منظمة إغاثية أوروبية وأمريكية وغيرها، ولم يجد أحد أي دليل على صحة شيء من التهم التي يزعم المدعي العام أنها قائمة في حق حكومة السودان، أو في حق الرئيس البشير.
وأصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيانًا ضافيا في 7/9/2004 بعد زيارة وفد منه استمرت خمسة أيام للسودان ودارفور، ولم يبق فيها مسئول له شأن بقضية دارفور، أو معارض له قول فيها إلا وقابله وفد الاتحاد، بمن فيهم الدكتور حسن الترابي الذي كان رهن الإقامة الجبرية يومذاك.
وانتهي الوفد -الذي كان مكونًا من العلامة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد، والمستشار الشيخ فيصل مولوي، والأستاذ الدكتور علي القره داغي عضوي مجلس الأمناء، وكاتب هذه السطور أمينه العام- إلى أن الأخبار التي كان يتداولها الإعلام الغربي، وهي التي بنى عليها السيد أوكامبو تقريره عن التطهير العرقي والإبادة الجماعية والاغتصاب الجماعي، كلها لا أساس لها من الصحة، وأن الوضع في دارفور يرجع إلى جملة عوامل ليس من بينها -يقينا- رغبة الحكومة أو سعيها إلى (إبادة جماعية)، أو مساعدتها على ذلك لأي جماعة ضد أي جماعة عرقية في دارفور.
بل لقد زار دارفور وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول، وناقش عددًا كبيرًا من قياداتها السياسية والتنفيذية ومن أبناء قبائلها، وعندما عاد إلى الخرطوم صرح للتلفزيون السوداني، وغيره من أجهزة الإعلام، بأنه لم يشهد أي دليل على التطهير العرقي في دارفور، ثم عند وصوله إلى باريس صرح في المطار بخلاف ذلك (!) ويبدو أن السيد أوكامبو استمع إلى التصريح الثاني، ولم يلفت نظره تناقضه مع التصريح الأول.
وقد نشرتُ في مجلة «وجهات نظر» المصرية (عدد أكتوبر 2004)، في أعقاب عودتي من دارفور تفصيلا مطولا لحقائق الوضع هناك وأسبابه، واقتراحات السودانيين وغيرهم عن كيفية علاجه، وأثبت بشهادة قضاة، وأساتذة جامعات، وعلماء، ودعاة وممثلين لمختلف القبائل في دارفور أن الأمر فيها لا علاقة له من قريب أو بعيد بالجرائم التي يزعم تقرير المدعي العام أمام المحكمة الجنائية الدولية أن لديه أدلة على ارتكاب الرئيس السوداني إياها.
وأشرتُ إلى اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق التي شكلها الرئيس البشير طبقًا لقانون سوداني قديم (من زمن الإنجليز) برئاسة قاضي قضاة السودان السابق، العالم الجليل البروفيسور دفع اللّه الحاج يوسف، وقد ضمت أطباء وقضاة سابقين واختصاصيين نفسيين وخبراء في الشئون العسكرية والأمنية، وانتهت بعد عمل استمر نحو سنة كاملة إلى ذات النتائج التي انتهى إليها وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
وتقرير هذه اللجنة منشور في أكثر من مائة صفحة، ومحاضر أعمالها المثبتة لكيفية إنجازها مهمتها تقع في عدة مئات من الصفحات، وقد قدم السودان تقرير هذه اللجنة، مع غيره من التقارير، إلى مجلس الأمن، فكانت كلها متاحة للمدعي العام أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وهكذا، فإن المدعي العام الذي يطلب إلقاء القبض على الرئيس عمر حسن البشير لمحاكمته جنائيا، لم يقم بأداء واجباته التي يلزمه بها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فقدم معلومات مغلوطة عارية من الصحة، وتجاهل تقارير الوفود المحايدة التي زارت مواقع الأحداث التي استنكف هو عن زيارتها!
وتقرير من هذا النوع لا يصلح -قطعًا- دليلاً أمام أي محكمة تحترم نفسها لتوافق على إلقاء القبض على شخص متهم بجرائم ضد الإنسانية، هذا لو كانت المحكمة مختصة بمحاكمته أصلاً !.
ولعله يهم القارئ أن يعرف أن هذا المدعي العام نفسه كان يدرس أحيانًا في جامعة هارفارد الأمريكية، أستاذًا زائرًا، وكانت شهرته بين طلابه أنه يتميز بعنف ظاهر، واندفاع لا يخفيه، وشدة في معاملة طلابه غير مألوفةّ، والممارسون لمهنة القانون يعرفون كيف تنعكس مثل هذه الصفات الشخصية على صاحبها عندما يكون في موقع الادعاء!.
رأي مردود
(3) إن الواجب على الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية أن تقضي بعدم قبول الطلب المقدم من المدعي العام؛ لتعلقه بدولة ليست عضوة في معاهدة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ولكن أصواتا من الغرب، وبعض الأصوات في السودان نفسه، تقول: إن المدعي العام قدم تقريره إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة بناء على طلب من مجلس الأمن، ومن ثم يجوز للمحكمة أن تحاكم الشخص المعني بناء على نص المادة (13/ب) من النظام الأساسي للمحكمة.
وهذا النص يجيز للمحكمة أن تمارس اختصاصها «إذا أحال مجلس الأمن، متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت»، والجرائم المشار إليها هي الجرائم المبينة في النظام الأساسي للمحكمة.
ولكن هذا الرأي مردود، وغير سديد، فهو مردود لأن اختصاص المحكمة بجميع صوره يقتصر على الدول الأعضاء في معاهدة نظامها الأساسي، ونصوص هذا النظام، كنصوص أي معاهدة دولية أو قانون أو عقد، يجب أن تفسر متكاملة متجانسة يأخذ بعضها بعَضُدِ بعض، ولا يجوز أن يفسر كل نص منها "مبتورا من سياقه، مقطوعا عن سباقه ولحاقه"، بحيث تتضارب الأحكام، وتتنافر النتائج على نحو يأباه المنطق القانوني السليم.
وهو غير سديد؛ لأن اختصاص مجلس الأمن بمقتضى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة هو اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، ويجوز له بموجب المادة (42) وما بعدها من الميثاق أن يتخذ تدابير عسكرية بما فيها استخدام القوة «لحفظ السلم والأمن الدولي، أو إعادته إلى نصابه».
وليس في هذا الفصل، لا في ميثاق الأمم المتحدة، ولا في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ما يخول مجلس الأمن، ولا المدعي العام، إلزام دولة مستقلة ذات سيادة بأحكام وإجراءات تقررها معاهدة ليست هذه الدولة طرفًا فيها.
وعلى أساس هذا المنطق المسلّم في النظم القانونية كلها، يكون اختصاص مجلس الأمن بموجب المادة (13/ب) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مقصورًا على حالات وقوع الجرائم المشار إليها في نص تلك المادة في دولة، أو من دولة، عضو في اتفاقية النظام الأساسي للمحكمة.
وطلب مجلس الأمن الذي يوجهه إلى المدعي العام في شأن غير الدول الأطراف في ذلك النظام الأساسي لا قيمة له قانونا، ولو كان هذا المدعي العام يمارس عمله بالاستقلال المنصوص عليه في المادة (42/1) من النظام الأساسي لرد هذا الطلب إلى مجلس الأمن؛ لعدم تعلقه بدولة من الدول الأطراف في نظام المحكمة.
وهكذا يتبين أن المادة (13/ب) من نظام المحكمة لا توفر سندا قانونيا مقبولا لما قام به المدعي العام، كما لا يمكن أن توفر هذه المادة أي سند لقرار تصدره الدائرة التمهيدية بالمحكمة للقبض على الرئيس عمر البشير.
حصانة البشير
(4) يبقي أن نشير -في هذه الملاحظات العاجلة- إلى أن عمر حسن البشير رئيس دولة وهو -وفق العرف المستقر في القانون الدولي- يتمتع بحصانة قضائية وسياسية لا يمكن النيل منها إلا وفق دستور بلاده وقانونها، وفي النظام الأساسي للمحكمة نص المادة (27) الذي يقرر أن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيسًا لدولة أو حكومة أو عضوا في حكومة أو برلمان أو ممثلا منتخبًا أو موظفًا حكوميًّا، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي.
والنص ناطق صراحة بأنه يعمل في ظل (النظام الأساسي للمحكمة)، أي يعمل في نطاق واجبات الدول الأطراف فيه، وينطبق على المسئولين في تلك الدول، ومن ثم فلا أثر لنص المادة (27) من النظام الأساسي على حصانة الرئيس البشير المقررة بالدستور السوداني.
ويؤكد ذلك أن بعض الدول التي وافقت على الاتفاقية أبدت مجالسها الدستورية أو التشريعية تحفظات على هذا النص، مقررة أن القبول به يستلزم تعديلا لدستورها أو قوانينها المقررة لحصانة رئيس الدولة أو الوزراء أو أعضاء البرلمان.
وقع ذلك في فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورج (الرأي الدستوري الفرنسي صادر من المجلس الدستوري في 22/1/1999، والرأي الدستوري البلجيكي صادر من مجلس الدولة في 21/4/1999، والرأي الدستوري في لوكسمبورج صادر من مجلس الدولة بتاريخ 4/5/1999).
فلو افترضنا جدلا أن السودان -أو غيره من الدول العربية- انضم إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فإن ذلك سيقتضي تعديلات دستورية ضرورية قبل أن يصبح النظام نافذا في حق تلك الدول؛ حيث إن جميع الدول العربية تقرر حصانات لفئات مختلفة من ذوي النفوذ والسلطان فيها لا يمكن الإبقاء عليها مع الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة.
ومن العجيب أن أدبيات الموضوع المتاحة لا تشير إلى أي تعديل دستوري في الأردن أو جيبوتي (الدولتين العربيتين الوحيدتين المنضمتين إلى النظام الأساسي للمحكمة) مع وجود نصوص دستورية تقرر حصانة رئيس الدولة في كل منهما!.
ويؤكد ما ذكرناه آنفا من اقتصار العمل بنظام المحكمة على الدول الأطراف فيها ما أورده نص المادة (11/2) من أنه لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها، بالنسبة للدول التي تنضم إلى النظام بعد نفاذه، إلا بشأن الجرائم التي ترتكب بعد بدء سريانه في حقها.
سابقة خطيرة
(5) إن التقرير الذي قدمه المدعي العام إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية لو حظي بقبول هذه الدائرة وصدر أمر قضائي بالقبض على الرئيس البشير فسيكون سابقة خطيرة قد يصل مداها -ذات يوم- إلى الرئيس جورج بوش نفسه بسبب المجازر التي ترتكبها قواته في العراق وأفغانستان والصومال، وبسبب الدعم غير المحدود المقدم من إدارته لإسرائيل، لتستطيع تنفيذ مجازرها اليومية في فلسطين ولبنان وغيرهما.
وقد يصل مداها إلى مئات المسئولين الصهاينة الذين تثبت وثائق وأدلة لا يرقى إليها أي شك ارتكابهم مئات الجرائم ضد الإنسانية من دير ياسين إلى بحر البقر إلى صابرا وشاتيلا إلى قانا إلى الخليل وجنين وغزة وعشرات الأماكن الأخرى.
أما الرؤساء والملوك والأمراء العرب فإنهم إذا لم يقفوا وقفة رجل واحد لمنع صدور هذا القرار المطلوب من الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية، فإنني أخشى أن يأتي اليوم الذي يقول فيه قائلهم: «أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض».
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.sidiameur.info
Labza.Salem
Admin
Labza.Salem

عدد المساهمات : 43954
نقاط : 136533
تاريخ التسجيل : 12/09/2014
العمر : 29
الموقع : سيدي عامر

بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Empty
مُساهمةموضوع: رد: بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق   بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Emptyالخميس 20 أبريل - 9:49

القضية الأكبر من (المحكمة والبشير) 
التماسّ والتناقض بين الشرعية الدولية والقوة المهيمنة.. خلفيات وأبعاد ومخاطر 
معضلة التناقضات - أسئلة مبدئية - القانون والنظام - أين العدل؟.. - مخاطر انهزامية مقنّعة - الترويج لشرعة الغاب - طغيان ظاهرة التزييف - تحييد فوضى المصطلحات - ما هي المحكمة الجنائية الدولية؟.. - كيف تجاوز النائب العام هذه القاعدة الثابتة؟.. - ما هي الأرضية لارتكاب هذه المخالفة وأمثالها؟..- ما طبيعة الخلل بين الشرعية الدولية والنظام الدولي؟ - ماذا عن جرائم الحرب وما يشابهها؟.. - ما الطريق إلى تطوير أسس الشرعية الدولية؟.. - ما موقع "السوابق" في صناعة مشروعية دولية؟.- حصيلة موجزة. 
ملاحظة في البداية: لا يتعرض هذا الموضوع لقضية دارفور بحدّ ذاتها، وهي بالغة الأهمية، وإهمالُها عربيا وإسلاميا جريمة ذات عواقب خطيرة، ولا يدور حول نظام الحكم في السودان وسياساته، وهل هي قويمة أم خاطئة، فحصيلة هذا الحديث -الضروري والمفيد في الأصل- ليست هي العامل الحاسم في تحديد أركان التعامل الأصحّ مع حدث "المحكمة والبشير" تحديدا، كمثال على التعامل مع الأوضاع العالمية وما ينبثق عنها تجاه بلادنا وقضاياها. 
معضلة التناقضات 
في متابعة الساحة العربية لِما صدر عن النائب العام في المحكمة الجنائية الدولية في صيغة طلب إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، تناقضات عديدة مكثفة، تكشف عن وجود معضلة فكرية وإعلامية وسياسية واسعة النطاق في التعامل مع المعطيات القانونية والسياسية على المسرح الدولي مع أحداث من هذا القبيل، وليس التعامل مع هذا الجهاز سوى مثال نموذجي لها. 
للتوضيح يمكن ذكر مثال على التناقضات، أن توصف المحكمة بأنّها "جهاز مستقل عن الأمم المتحدة" ويدور الحديث في الوقت نفسه حول تحركه ضدّ السودان بالذات بمفعول قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، فهل استقلاله مزعوم موهوم، أم أن في الحديث عن ذلك خللا؟.. 
يتجنّب هذا الموضوع -قدر الإمكان- تكرار طرح ما نُشر حول الحدث، لا سيما ما يتعلق بالأرضية القانونية الدولية التي أشبعت "كلاما" وبحثا، وأحسب أنّ ما طرحه بصددها د. محمد سليم العوا -وهو صاحب التخصص والمشهود له بالمنهجية والتجرّد- (انظر مقاله في إسلام أون لاين) وافيا لمن يريد الخروج بهذا الموضوع من أساليب لا تنتهي لتأويل المعطيات القانونية على حسب المنطلق السياسي للكاتب أو الغرض الذي يريد الوصول إليه مسبقا. 
عناصرالموضوع 
- الخلفيات والأبعاد للعلاقة المتشابكة بين القانون الدولي والنظام الدولي.. 
- والصورة التي انتشرت عن ذلك في الوعي المعرفي الفردي والجماعي، في المنطقة العربية والإسلامية تحديدا.. 
- ثم كيف أصبحت هي الأرضية المؤثرة على نوعية مواجهة حدث من مثل حدث "المحكمة والبشير".. 
- وكيف بات يتيه البحث والتحليل بعيدا عن الموضوع، ويحوّل التعامل معه إلى معضلة فكرية وسياسية.. 
- هذا مع محاولة لا تنقطع لتلبيس "رأي" صاحب الرأي فيها تأييدا أو معارضة -وذاك حقه- لباس الاستناد إلى "الشرعية القانونية الدولية"، وليس هذا من حقه دون بحث منهجي ودليل قاطع!.. 
ولأن الموضوع يدور حول "معضلة"، تعتمد صياغته على تبويب الأفكار وتبسيطها، دون التهوين من شأن المضمون الذي تدور حوله، وستدور بمجموعها حول ثلاثة محاور أساسية: 
1- الخلط في المنطقة العربية والإسلامية بالذات بين ثوابت الشرعية في القانون الدولي، ومتغيّرات واقع النظام العالمي، حتى أصبح هذا الخلط مصدرا غير سليم لتحديد تعاملنا مع قضايانا الذاتية؟.. 
2- غلبة الواقعية الانهزامية على الواقعية التغييرية، مقابل غلبة منطق القوة في واقعنا العالمي المعاصر على مبادئ الحق والعدالة، مع توظيف عنوان "الشرعية الدولية" من جانبنا للتغطية على المنظور الانهزامي؟.. 
3- اعتماد حدث "المحكمة والبشير" مثالا لاستخراج بعض المعالم المساعدة على تفكيك قضية معقدة تطرحها الأحداث الجارية، والقصد أن يتمكن المواطن الفرد الذي لا يملك ما يكفي من معلومات تفصيلية وتخصصية عن الشرعية القانونية الدولية والنظام العالمي، من الوصول رغم ذلك إلى موقف أقرب إلى الصحة، دون الغرق في خضم ما يواجهه من متناقضات فيما يُكتب وينشر، وهو ما حوّل مهمة "التوعية" المطلوبة إلى صناعة معضلات تعقد القضايا المطروحة بدلا من توضيحها؟.. 
أسئلة مبدئية 
1- يوجد من يناقش مسألة "المحكمة والبشير" عبر السؤال: ماذا يقول ميثاق المحكمة الشرعية الدولية، فينظر فيه ويقول في الحصيلة: إنّ طلب الاعتقال بحدّ ذاته طلب مشروع دوليا (بغض النظر عن كونه إجراء ظالما أم لا)؟.. 
وكان من المفروض السؤال أولا: هل تكتسب إجراءات المحكمة المشروعية الدولية عبر نظامها فقط؟.. 
2- ويوجد من يناقش الموضوع من زاوية استناد موقف المحكمة إلى صدور طلب تعاملها مع قضية دارفور عن مجلس الأمن الدولي. 
هنا أيضا يجب السؤال أولا: هل يكفي ذلك ليكتسب الإجراء صفة المشروعية القانونية الدولية؟.. 
3- ويوجد من يناقش الموضوع اعتمادا على ما يتردّد عالميا حول ضرورة إعطاء قضايا حقوق الإنسان والأقليّات الأولوية على سيادة الدولة، رغم أنّها من أسس الشرعية القانونية الدولية. 
وإذا انطلقنا من سلامة الهدف، وجب التساؤل عن سلامة الوسيلة المتبعة، ويعني ذلك في المثال المطروح: هل يؤدي انتهاك المحكمة الجنائية الدولية لسيادة الدولة السودانية ولحصانة المسؤولين السياسيين فيها، إلى إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان والأقليات؟.. 
وتتفرّع عن هذا السؤال جملة أسئلة، منها: 
- السؤال عن مشروعية إجراء المحكمة بمقياس ثوابت الشرعية القانونية الدولية الحالية.. 
- السؤال عن توظيفه مدخلا إلى تطوير تلك الشرعية الدولية عبر انتهاك ثوابتها الحالية.. 
- السؤال عن سلامة هذه الكيفية في عملية التطوير المذكورة، أي سلامة اتباع أسلوب "صنع السوابق" لهذا الغرض. 
القانون والنظام 
محور الملاحظات الأولية السابقة مستمدّ من نوعية التناقضات التي يمكن رصدها في متابعة هذه القضية، ومن ذلك أنّ المواقف المؤيدة أو المعارضة لإجراء المحكمة، أو للسودان ورئيسه، لا تطرح السؤال: 
هل إجراء المحكمة مشروع، عادل، محقّ، أم لا؟.. ثم ما هو مقياس المشروعية والعدالة والحق فيه؟.. 
بل تُطرح الاسئلة على حسب منطلق صاحبها وفق التسلسل التالي: 
الإجراء صدر عن "الأسرة الدولية" أو "جهاز دولي".. فهو ابتداءً وبداهةً إجراء شرعي.. (لماذا؟) 
ومن ثَمّ نجد رأيين: 
- يجب في رأي فلان الانصياع للإجراء فهذا انصياع محتم للشرعية الدولية.. 
- أو يجب في رأي فلان رفضُه، فالعداء ضدّنا مهيمن على ما يسمّى الأسرة الدولية.. 
في الحالتين تكمن الإشكالية في الانطلاق أصلا (1) من واقع النظام العالمي فحسب، ثم على حسب الرؤية الذاتية لهذا الواقع، يأتي (2) الرفض أو التأييد، ثم في مرحلة تالية يمكن أن يأتي (3) توصيف الإجراء: منسجم مع الشرعية القانونية الدولية أو غير منسجم، وهنا يأخذ التأويل مكانه بدلا من البحث المنهجي. 
هذا أسلوب يقلب بدهيات علاقة القانون بالواقع رأسا على عقب. (كيف؟..) 
لا يصحّ ربط صفة المشروعية بأي واقع قائم.. ولا يصحّ تغيير ثوابت الشرعية الدولية عبر تغيير الواقع القائم قهرا، إنّما يُستفاد من التجربة والخبرة، لتحسين تلك الثوابت، دون الابتعاد عن جوهرها ومغزاها. 
الشاهد على ذلك: 
على مستوى دولةٍ ما لا تصدر صياغة القانون عن معطيات نظام قائم، بل يجب أن يقوم النظام وفق قانون سليم.. وإلا أصبح كل ما تصيغه الانقلابات العسكرية والأنظمة الاستبدادية وتسمّيه قوانين.. قوانين مشروعة!.. 
قياسا على ذلك (ولا يحتاج الأمر إلى قياس فهو ثابت في علم القانون الدولي): 
على مستوى العالم أيضا لا تنبثق صفة المشروعية القانونية الدولية عن نظام عالمي قائم في حقبة معينة، وما يفرضه عنصر القوة من متغيرات فيه، وإلا أصبح كلّ وضع يفرضه انتقال مفعول القوة من جهة إلى جهة، يمثّل "شرعية دولية" أو يعيد صياغتها بموازين أخرى حسب القوة المهيمنة آنيا!.. لو صحّ ذلك لوجب القبول مثلا بمشروعية ما فرضته النازية والفاشية لفترة من الزمن!.. 
أين العدل؟.. 
ولكن.. علام هذا التركيز على كلمة "الشرعية الدولية"، وعلام ينتشر استخدامها انتشارا واسعا عند من يسوّغون القبول بما تفرضه قوى مهيمنة بمنطق القوة على واقع عالمي معاصر؟.. 
إنّ كلمات شرعية ومشروعة في الوعي المعرفي في المنطقة الحضارية الإسلامية بالذات وفي الحسّ البشري عموما، كلمات مرتبطة لغويا واصطلاحيا، بانتشار الاقتناع الواعي والإحساس الفطري، أنّها ملازمة للحق والعدالة. 
ومن مؤشرات ذلك الحرص على وصف ما نؤيده بأنه شرعي ومشروع، وما نرفضه بأنه غير شرعي وغير مشروع. 
هذه الميزة تنصرف أيضا على كلمات "الشرعية الدولية" والمشروعية القانونية الدولية. 
لكننا نعيش في واقع عالمي نفتقد فيه سيادة الحق والعدالة ومفعولها.. فلا تسري عليه صفة المشروعية. 
نعايش نظاما عالميا يمسك مفعولُ القوة المهيمنة بزمامه، إذ تعمل على فرض سياساتٍ وقوانينَ وممارسات، حافلة بالجور، فهل نعتبره منسجما مع الشرعية القانونية الدولية أم غير منسجم، كيف نعطيه إذن عنوانها في التعامل معه، كتابة أو سياسة؟!. 
لا بد من العودة إلى الأصل، والأصل هو مفاهيم الحق والعدالة، وقد أثّرت في فترة معينة لأسباب عديدة -ليست موضع التفصيل هنا- في وضع صياغات سليمة عموما، لمبادئ التعامل الدولي، أصبحت في حكم ثوابت الشرعية الدولية، ومرجعها نصوص دقيقة الصياغة في ميثاق الأمم المتحدة ومواثيق أخرى. 
هذه الثوابت -وليس التركيبة الآنية لواقع النظام العالمي- هي مصدر الحكم بالمشروعية القانونية الدولية على الأجهزة والدول والقرارات والممارسات والاتفاقات وغيرها. 
إن كل موقف ينطوي على تحكيم واقعٍ تفرضه القوّة، في قضية كبيرة أو صغيرة، كقضية فلسطين كلّها وبكل تفاصيلها، أو قضية فرد من الأفراد في منصب رئيس أو دون منصب الرئاسة.. كل موقف يجعل واقع القوة مصدرا للحكم بمشروعية وضع من الأوضاع أو عمل من الأعمال، هو إسهام في صناعة شرعة الغاب وليس في تثبيت شرعية دولية عادلة قويمة. 
مخاطر انهزامية مقنّعة 
كل ما سبق لا يعني الامتناع عن التعامل مع واقع جائر يصنعه عنصر القوّة، ولكن يعني ضرورة الحرص على عدم وصفه زورا بأنه واقع مشروع. في هذا الوصف وتعميمه يكمن خطر مزدوج: 
- تشجيع الطرف القوي حاليا على فرض ما يريد من الجور.. 
- وتشجيع الضعيف حاليا على خرق "النظام" ساعيا لتغييره بالقوة لتحقيق ما يريد لاحقا.. 
في الحالتين يجري إذن تثبيت منطق القوة (شرعة الغاب) وتغييب معايير المشروعية (الشرعية الدولية) عن الهدف والوسائل معا. 
هذه الإشكالية تعني في مثال السودان ورئيسه: 
- نقول للطرف الظالم: باستطاعتك المتابعة في ممارسة ظلمك.. ربما تجاه غير السودان أيضا.. 
- ونقول للطرف المظلوم: لن تجد دعما لرفع الظلم عنك، فاستسلم أو تعرّض للضياع.. 
- ونقول لأنصار السودان (وسواه في مثل وضعه): لا جدوى من الحديث عن حق وباطل، وعدالة وظلم، وشرعية دولية وانتهاكها، فليس بين أيديكم سوى طريق القوة والعنف، وعندما تفرضون إرادتكم في واقع عالمي جديد، يمكن أن تصلوا إلى حقوقكم، وإلا فعليكم التسليم مقهورين!.. 
جميع ذلك يبين مدى خطورة زعم من يزعم إن الانصياع.. وسيلة لحفظ السلامة والاستقرار، ويبيّن مدى التناقض مع دعاوى حفظ السلام والأمن الدوليين!.. 
إنّ "الواقعية السياسية" بمفهومها الانهزامي المنتشر انتشارا واسعا، هي التي جعلت الأسئلة المطروحة حول التعامل مع إجراء المحكمة الجنائية الدولية، تنبثق (غالبا) في الساحة العربية بالذات، سياسة وفكرا وإعلاما، من منظور آنيّ للواقع العالمي، فتوصل إلى أجوبة تنبثق (غالبا) عن التسليم لهيمنة عنصر القوة في تقرير التعامل في إطاره، 
الترويج لشرعة الغاب 
الأخطر مما سبق وصف واقع جائر مفروض أنّه مشروع، أي ينطوي على الحق والعدالة!.. ويحدث ذلك في المثال المطروح (المحكمة والبشير) على النحو التالي: 
يوجد من "ينصح" بالانصياع لطلب المحكمة الجنائية، خشية من أن يواجه السودان "غضب" القوى الدولية المهيمنة. ولكنه يطرح "نصيحته" تلك في صيغة: 
- يجب الانصياع للشرعية الدولية.. 
وليس في صيغة: 
- يجب الانصياع للقوة المتجبرة المهيمنة دوليا.. 
الصيغة الثانية الأصدق مضمونا، تكشف عن "انهزامية" لا يريد القائل أن تنسب إليه (لهذا يستخدم تعبير الواقعية!). 
هذا العبث بالألفاظ أو حتى الخداع الذاتي يشمل تزييف المضمون (أولا)، وتزوير حقيقة الحدث (ثانيا) وتضليل الرأي العام على أوسع نطاق (ثالثا) حتى وإن لم يقصد القائل ذلك. 
بالمقابل يوجد من يؤيّد السودان في رفض الانصياع، ولكن: 
- يعلّل تأييده بأن "الشرعية الدولية" منحرفة عن مسارها.. 
فيسبّب من حيث لا يريد وصم نفسه بالتهوّر كما يسبّب تخويف الرأي العام من الأخذ بما يقول، فلا أحد يريد أن يُتهم بمعارضة الشرعية الدولية التي يُفترض قيامها على الحق والعدالة!.. 
والأصح هو: 
- تعليل تأييد موقف السودان، بأنّ خصومه انحرفوا عن "الشرعية الدولية"، فيجب رفض ما تحاول القوى المهيمنة فرضه ظلما، وليس في ذلك حرب على "شرعية دولية" قطعا، بل هو عين "التمسّك بالشرعية الدولية" التي تنتهكها تلك القوى الدولية باستمرار. 
قد يكون التراجع في قضية ما ضروريا في بعض الحالات، من باب التسليم بوضع باطل ما، حفاظا على ضرورة أكبر من ضرورة مواجهته. ولكن لا يوجد قطعا ما يستدعي "التبرّع" من جانب أصحاب المواقف السياسية والأقلام الفكرية والإعلامية، بإضفاء صفة المشروعية على عملية "التسليم" هذه!.. (وقد بات ذلك للأسف هو الظاهرة الواسعة الانتشار في التعامل مع قضايا محورية كفلسطين، ومصيرية كالتسلّح، ناهيك عن القضايا الأخرى). 
كلمة المشروعية مرتبطة بقيم "الحق" و"العدالة" كما سبقت الإشارة، ولهذا فمن يستخدمها دون تمحيص ولا تفكير ولا منهجية موضوعية، في أي قضية، إنّما يستخدم معولا يهدم به تلك القيم وينشر التيئيس منها. 
وليس في ذلك إطلاقا ما يخدم الشرعية الدولية، ولا النظام العالمي، ولا المحكمة الجنائية الدولية، ولا البشرية في حاضرها ومستقبلها، ناهيك أن يكون فيه مصلحة للسودان وأهله، في دارفور وخارج دارفور على السواء، وهو منطلق هذا الحديث والمثال على سواه.
ولكن السلوك المنحرف المذكور هو التربة الخصبة لدعم شرعة الغاب. 
طغيان ظاهرة التزييف 
في الوقت الحاضر لا ينتظر أن تجد الأسئلة المطروحة عبر متابعة قضية السودان مع المحكمة الجنائية الدولية أجوبة قاطعة ومقنعة، ليس بسبب صعوبتها، بل بسبب وقوعها تحت تأثير أساليب تنشر ضبابا كثيفا، حول أصول القضايا المطروحة، وأهم محاورها ومعالمها والسبل "المشروعة" والمجدية للتعامل معها. 
هذا "الضباب" الذي نساهم في نشره هو أخطر أنفاق تمرير ما تستهدف القوى المهيمنة عالميا تمريره، من التعامل مع السودان وأمثاله من الدول الأضعف على مسرح السياسة العالمية. 
والمقصود بهذا "الضباب المصنوع المكثف" ماي ينطلق منذ زمن لا بأس به عن ثلاثة مصادر أخطر من سواها، وهي: 
1- المصدر الأول: نشر الاعتياد على فوضى المصطلحات عبر العقود الماضية، في مختلف الميادين، ومن ذلك فيما يتعلق بالقضية المطروحة وما سبقت التوطئة له: 
الخلط الدائم المتكرر بين أسس الشرعية الدولية ومبادئها، وقرارات أجهزة تنفيذية تنحرف وتخطئ غالبا وتصيب وتستقيم نادرا، كمجلس الأمن الدولي. ويشمل ذلك: استخدام تعابير ذات مضامين قويمة في الأصل، ولكن وفق ما ينتج عن هذا الخلط من انحراف في مدلول الكلمات، وهذا ما نعرفه بما فيه الكفاية عن شعارات تتردّد باستمرار، من مثل "السلام العادل" و"الحقوق الوطنية" و"ثوابت القضية" وما شابه ذلك!.. 
إنّ التكرار، وليس صحة ما يقال، هو ما ينشر الاعتياد على طرح مضمون خاطئ معوّج، في صيغة "بدهية" مسلّم بها ولا تحتاج إلى نقاش أصلا!.. 
ولقد بلغ نشر الاعتياد على فوضى المصطلحات أقصى درجات الخطورة على البلدان العربية والإسلامية، بتسربه إلى المناهج العلمية الجامعية والكتب المرجعية فيها، وإلى كثير من الكتابات الفكرية القيمة في الأصل. 
2- المصدر الثاني: أغراض سياسية آنية، مثال ذلك: الأنظمة التي كانت تعادي العراق في عهد صدام مثلا، تبنّت بسبب هذا العداء مطالب القوى الدولية المهيمنة له (ولا علاقة لشيء من ذلك باستبداد صدام.. فهي مثله استبدادا أو أكثر أو أقل) والمطالب غير مشروعة دوليا، وسرعان ما واكبت الأقلام التابعة لأنظمة مواقفها تعليلا وتسويغا وترويجا ثم وضعت الحصيلة في سلّة "الانصياع للشرعية الدولية"، بينما الشرعية الدولية سجينة قفص هيمنة القوة عالميا!. 
ونعايش على النسق نفسه مدى خطورة هذا السلوك الصادر عن أغراض سياسية آنية، فيما جرى ويجري من تعامل دولي، يتبعه الإقليمي، مع السودان، وسورية، والمقاومة الفلسطينية، وكل جهة أخرى تواجه عداءً غير مشروع جملة وتفصيلا من جانب القوى الدولية. 
3- المصدر الثالث: بعض ردود الأفعال من جانب الأطراف المتمسكة بالحقوق الذاتية ومواجهة العدوان الخارجي، أو ما يوصف بثقافة المقاومة، فهنا أيضا تتسرب فوضى المصطلحات إلى المواقف والبيانات الرسمية والكتابات الفكرية والإعلامية، فتُطرح تلك القضايا طرحا "غوغائيا" أحيانا، ينشر الانطباع مثلا بأننا -كما سبق التنويه- عندما ندعو إلى مقاومة العدوان الصهيوأمريكي بمختلف أشكاله وميادينه، كأنما ندعو إلى مقاومة الشرعية الدولية "الظالمة"، والواقع –وهو ما يجب أن يظهر في المواقف وصياغتها- مقاومة مفروضة مشروعة لشرعة الغاب الظالمة الخانقة للشرعية الدولية القائمة على أسس عادلة على وجه التعميم!.. 
تحييد فوضى المصطلحات 
إن فوضى المصطلحات لا تؤدّي فقط إلى ضياع قيمة الكلمة، فلسنا نتحدّث هنا عن دراسة جامعية أو بحث من البحوث، بل نتحدث عمّا يترتّب على هذه الظاهرة من عواقب على صعيد حياة الشعوب، وواقع الدول، ومصائر القضايا الحيوية. 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.sidiameur.info
Labza.Salem
Admin
Labza.Salem

عدد المساهمات : 43954
نقاط : 136533
تاريخ التسجيل : 12/09/2014
العمر : 29
الموقع : سيدي عامر

بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Empty
مُساهمةموضوع: رد: بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق   بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Emptyالخميس 20 أبريل - 9:49

- قد نجد (بصعوبة) سبيلا ما إلى التغلب على مشكلة تناقض مفهوم الكلمة الواحدة، عندما يذكرها فلان بقصد معين، ويفهما فلان على نحو آخر.. 
- ولكن لن نجد بسهولة ولا بصعوبة سبيلا ما إلى التغلب على ضياع أرضية مشتركة لا غنى عنها من أجل تحقيق هدف ما، في التعامل مع قضية محورية مطروحة منذ عقود مثل قضية فلسطين أو قضايا الإصلاح والتغيير، ولا مع قضية نحسبها طارئة، وما أكثر القضايا المطروحة حسب مجرى الأحداث كما لو أنّها طارئة، كقضايا العراق، والصومال، وأفغانستان، والجهاد، والإرهاب، والسودان، وسورية، والتسلح، وغيرها. 
ليست المشكلة في تعدد المنطلقات السياسية عند من يخوض فيها، ولا حتى في تعدد المنطلقات القانونية، وتعدّد الرؤى حولها، فجميع ذلك موجود في بلادنا ومجتمعاتنا.. وسواها أيضا، ولكن "تفوّقنا" على سوانا في استخدام الكلمة الواحدة أو المصطلح الواحد، بمفاهيم أكثر عددا مما يسود لدينا من انتماءات ومنطلقات ورؤى، حتى بلغ الدفاع عن قضايانا الكبرى مستوى "الصراخ"، وبقي صراخا لا يجدي ولا يُفهم مغزاه! 
إنّ في مقدّمة شروط استرجاع القدرة على التعامل مع مختلف قضايانا، شرط استرجاع القدرة على تحويل الصراخ إلى حديث مفهوم وإن كان خلافيا، ولا يتحقق هذا الشرط دون تحييد فوضى المصطلحات في أي محاولة جادة للحوار حول السبل المجدية من أجل "إزالة" الفوضى أساسا. 
على ضوء ما سبق وفي محاولة تقويم التعامل مع مثال "المحكمة والبشير"، تورد الفقرات التالية محاولة لطرح أجوبة مبسطة قدر الإمكان على أسئلة معقدة، هي الأكثر تداولا من سواها، والقصد هو وضع نموذج لتفكيك قضية معقدة إلى عناصرها الأساسية، بصورة تساعد على رؤية خلفياتها، وأبعادها، وتحديد الموقف الأقوم إزاءها.
ما هي المحكمة الجنائية الدولية؟.. 
هي جهاز دولي، شكلته مجموعة من دول العالم، وليس جميع الدول، وتقضي القواعد المثبتة في المواثيق الدولية أنّ هذا الجهاز بعمله وإجراءاته وكافة النصوص الواردة في ميثاقه، يلزم الدول التي تصادق على الميثاق، ولا يلزم سواها.. مثل الولايات المتحدة الأمريكية والسودان والصين الشعبية!. 
كيف تجاوز النائب العام هذه القاعدة الثابتة؟.. 
اعتمد النائب العام على قرار صادر قبل فترة عن مجلس الأمن الدولي بإحالة ملف دارفور السوداني إلى المحكمة الجنائية الدولية، مع وجود بند في ميثاق المحكمة يسمح بأن تتحرّك في هذه الحالة. 
لكنّ هذا البند أيضا كسواه، يلزم الدول المصدّقة على الميثاق، أي التي ارتضت لنفسها أن تتحرك المحكمة الجنائية الدولية بقرار من مجلس الأمن الدولي، فهذا التحرك صحيح (وفق ميثاقها) عندما يكون ضدّ إحدى الدول التي صادقت على الميثاق، وليس صحيحا عندما يكون ضدّ دولة خارج إطارها. 
ما هي الأرضية لارتكاب هذه المخالفة وأمثالها؟.. 
لا توجد أرضية ما في أسس القانون الدولي العام (الشرعية الدولية) وهي مختلفة عن واقع معاملات جارية، باتت حصيلتها توصف مجازا بالقانون الدولي التطبيقي. 
القوى الدولية تعتمد عنصر القوة، لأنها تملكها حاليا، فتتجاوز الشرعية الدولية، ومن مصلحتها أن تصف زورا ما تصنعه القوة بأنه يتوافق مع القانون الدولي، وهي واعية لذلك!. 
أما في بلادنا فباتت كلمة الشرعية الدولية تُستخدم زورا بمعنى القانون الدولي التطبيقي، لتسويغ الانصياع لإرادة القوة الدولية. 
القبول انصياعا لمفعول الهيمنة بخرق سيادة السودان وحصانة رئيسه مثلا، هو قبول بانتهاك الشرعية الدولية بواقع صياغتها الحالية، ومن أجل تجنّب الإقرار العلني بهذا الانصياع "المخزي"، أصبحت قرارات الهيمنة توصف بقرارات الشرعية الدولية، ليس في مثال المحكمة والسودان فقط! 
ما طبيعة الخلل بين الشرعية الدولية والنظام الدولي؟ 
أولا: الخلل القائم حاليا قائم في ميدانين: 
1- خلل قديم نشأ مع تشكيلة المنظمات الدولية (بعد الحرب العالمية الثانية حسب موازين القوة الناشئة) وكان من وجوهه (أ) عدم وجود جهة مرجعية، مستقلة عن الدول والمنظمات والأفراد، عليا بصلاحياتها وبقراراتها، للحكم حكما ملزما بشأن مشروعية قرار أو إجراء أو اتفاق دولي ما، وفق أسس الشرعية الدولية المثبتة في الميثاق، وليس وفق موازين القوة وما تفرضه. كما كان من وجوه هذا الخلل القديم (ب) أن الأنظمة التي تقررت لعمل المنظمات الدولية خالفت تلك أسس الشرعية الدولية من البداية، مثل مبدأ المساواة بين الدول، كما هو معروف عن نظام ما يسمى النقض/ الفيتو في مجلس الأمن الدولي. 
لم يتبدل هذا الوضع بل تفاقم خلال ستين عاما مضت، ولن يتبدل (أي لن يتحقق التطوير الإيجابي للقنون الدولي العام وللنظام العالمي) ما لم تتبدّل موازين القوى الدولية نفسها، فلا يوجد لدى القوى الدولية المهيمنة ما يدفعها إلى التخلّي طوعا عن مواقعها القائمة على هذا الخلل. 
2- خلل جديد نسبيا، نشأ من طبيعة قصور النصوص التي يصيغها البشر، ومثال ذلك الانطلاق بصورة "مطلقة" من سيادة الدولة ووحدة أراضيها، إذ أدى إلى بقاء مظالم واسعة الانتشار على صعيد حقوق الأفراد والأقليات وحرياتهم، دون علاج، فظهرت الحاجة إلى تغيير هذه المعادلة. 
ثانيا: لم ينشأ هذا الخلل اعتباطا بل نتيجة مباشرة لمنطق القوة: 
1- في الحقبة الماضية كان عدم القبول بأولوية حقوق الإنسان تجاه سيادة الدولة في المعاملات الدولية، من أسباب: 
(أ) المعارضة الأمريكية الحاسمة لاستكمال أجهزة الأمم المتحدة بجهاز مرجعي: "محكمة عليا بصلاحيات عليا ملزمة".. 
و(ب) من أسباب عدم تصديق الولايات المتحدة الأمريكية على البيان العالمي لحقوق الإنسان من عام 1948م، وهذا منا بقي ساري المفعول.. 
حتى (ج) الامتناع الأمريكي أيضا عن التصديق على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية من عام 1998م. 
السبب: الدولة الأمريكية حريصة على "سيادتها" أي أن تكون قوانينها وتطبيقاتها الذاتية، هي المرجعية في قضايا حقوق الإنسان المتعلقة بمواطنيها وجنودها وحكامها، وأن تكون هي أيضا المرجعية في الأجهزة القضائية ومعاملاتها ذات العلاقة بمواطنيها وجنودها وحكامها. 
2- في المرحلة الحالية: انتهى الاستقطاب الثنائي وبدأ الوفاق بين (دول الشمال.. أو غالبيتها العظمى) فطُرح هدف إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان تجاه سيادة الدولة بقوة، ولكن لتطبيقه فقط في التعامل مع (دول الجنوب.. أو الدول المراد ضبطها عبر زعامة انفرادية أو توافقية في نظام عالمي جديد مقبل). 
وازداد حرص الولايات المتحدة الأمريكية على ألاّ يشملها ذلك، بسبب ترجيح تعرّضها للمحاسبة، في قضية مثل قضية جوانتانامو أو أبو غريب أو مختلف أشكال الجرائم الحربية الأمريكية في حملات الاحتلال والعدوان.. 
3- بالمقابل تمثل الولايات المتحدة الأمريكية زعامة القوى الدولية الساعية أن تعطى الأولوية لحقوق الإنسان تجاه سيادة الدولة. السبب تسويغ استخدام القوة أو الإكراه تحت طائلة التهديد باستخدام القوة ضد دول أخرى، ومثالها السودان، الذي لا يملك في النظام العالمي الراهن قوة ردع كافية. 
ثالثا: الحصيلة الراهنة عالميا: 
تسعى القوى المهيمنة لخرق سيادة الدولة بذريعة حقوق الإنسان. 
لا تجري هذه المساعي على أرضية أسس القانون الدولي العام (الشرعية الدولية)، بل على أرضية واقع النظام العالمي سواء اتفقت الحصيلة مع الشرعية الدولية أم خالفتها. 
هذا ما يعطى وصف "سوابق" وهي سوابق في خرق الشرعية الدولية وليست سوابق شرعية لتعديلها. 
عملية خرق سيادة الدولة مثلا، تخرق الشرعية الدولية بنصوصها الراهنة، وما يجري ليس (دعوة) إلى تعديل النصوص بصورة جماعية، بل التعويد على هذا الخرق الانتقائي، حتى تصبح الممارسات جزءا من الواقع العالمي، ولا يعني ذلك إطلاقا أنّه يصبح جزءا من القانون الدولي العام (الشرعية الدولية). 
شبيه ذلك تحكيم المحكمة الجنائية بقرار من مجلس الأمن الدولي على دولة معينة كالسودان لا يشملها ميثاق المحكمة، جنبا إلى جنب مع عدم تحكيمها بقرار مماثل على دولة معينة أخرى، كالصين الشعبية مثلا، لا يشملها ميثاق المحكمة أيضا، لعدم تصديقها عليه. 
ماذا عن جرائم الحرب وما يشابهها؟.. 
جميع ما يدخل تحت عنوان القانون الدولي الإنساني، يمكن (وينبغي) أن يعطى الأولوية على بعض أسس الشرعية الدولية، مثل سيادة الدولة، وحصانة الزعماء السياسيين، ولكن لا يمكن أن يتحقق ذلك بصورة مشروعة، وبالتالي عادلة، ما لم يتحقق على صعيد التعامل على قدم المساواة مع جميع الدول ومع جميع الأجهزة ومع جميع الأفراد. ولا نتعرقل ذلك دول أضعف من سواها، كالسودان، بل دول تملك القوة عالميا مثل الولايات المتحدة الأمريكية. لهذا يجب التأكيد أنّ الوصول إلى تغيير في أسس القانون الدولي العام (الشرعية الدولية)، يوجب إعطاء الأولوية لإيجاد جهة مرجعية عليا لمشروعية ما ينطبق عليه وما يخالفه، من أشكال التعامل الدولي. 
ما الطريق إلى تطوير أسس الشرعية الدولية؟.. 
ما يجري حاليا تحت عنوان تطوير النظام العالمي في ميدان الخلل بين الحقوق والسيادة، دون المساس بميدان الخلل الأول والأكبر بين المشروعية الدولية وواقع القوة، من شأنه أن يضاعف العواقب المرئية على أرض الواقع، بدءا بعدم محاسبة دولة قوية على العدوان ومحاسبة أخرى، انتهاء بزيادة الإبادة البطيئة لشعوب بأكملها نتيجة الهوة المصنوعة صنعا عبر الأنظمة الاقتصادية والمالية العالمية، ما بين النسبة الأعظم من البشرية فقرا وتخلفا ونسبة محدودة العدد تسيطر على الثروات البشرية. 
إن التطوير المشروع العادل لأسس الشرعية الدولية يتطلب -إضافة إلى مرجعية مستقلة عليا بقرارات ملزمة- تعديل أنظمة عمل الأجهزة الدولية لتتوافق مع أسس الشرعية الدولية، مثل المساواة بين الدول، وما دام هذا غير قابل للتحقيق "الآن" نتيجة هيمنة القوة على النظام العالمي، يبقى الحدّ الأدنى الضروري هو عدم إطلاق وصف المشروعية الدولية، على قرارات، وإجراءات، وأعمال، تخالف أسس الشرعية الدولية، جنبا إلى جنب مع السعي لإيجاد بدائل محلية في الدول، وإقليمية بين أطراف مجموعات دولية، إلى أن تتمكّن أجيال مقبلة من تحقيق عملية تطوير مشروع وعادل. 
ما موقع "السوابق" في صناعة مشروعية دولية؟. 
السوابق هي تمرير الخرق المتكرر للشرعية الدولية، ويعتمد على ما ابتدعته القوى الدولية (سياسة وفكرا) وأعطته عنوان القانون الدولي التطبيقي، لتفصل بين مبادئ الشرعية الدولية والتعامل معها، التزاما وخرقا. 
المنطق المطروح من وراء ذلك هو: 
- ما دامت توجد هيمنة واقعية بحكم موازين القوى، لا بد من التعامل الدولي حتى مع الاتفاقات والقرارات (القهرية) التي تخرق القانون الدولي، لهذا يجري التعامل الفعلي معها بحكم ضرورات الواقع، وليس بحكم أنها مشروعة بمفهوم القانون الدولي العام (الشرعية الدولية). 
- تسعى القوى المهيمنة إلى توسيع هذا الخرق لصالحها، أي تطوير المعاملات الدولية دون المساس بواقع سيطرتها المشتركة -رغم الخلافات فيما بينها- على النظام العالمي القائم. 
- مثال ذلك خرق سيادة الدولة لصالح حقوق الأفراد والأقليات وحرياتهم، فالمطلوب التمكين من ذلك تجاه دول مثل صربيا والعراق والسودان (والقائمة يمكن أن تزيد وتطول)، وليس تجاه دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية وألمانيا. 
إن ما يجري على الساحة العالمية واقعيا هو تراكم "سوابق انتهاكات" يمكن وصف بعضها بالعدوانية الإجرامية في التعامل مع الأحداث، ويوجد من يصفها بالقانونية الدولية بذريعة القانون الدولي التطبيقي أي تسويد شرعة الغاب في العلاقات عالميا، ويستحيل أن تُنسب بصورة قويمة إلى شرعية دولية أو عملية تطويرها. 
حصيلة موجزة 
يؤخذ الكثير مما سبق على صعيد ما يتعلق بالعلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية وقضية السودان والبشير، ومن ذلك على سبيل المثال دون الحصر ما يلي: 
1- الأجهزة الدولية، كمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية المستقلة عنها، أدوات تنفيذية تطبيقية في البنية الهيكلية للنظام العالمي، واستخدامُها لتطبيق صيغة "جديدة معدلة" بشأن سيادة الدولة وحقوق الإنسان، على دولة دون أخرى، هو استخدام يخرق الشرعية الدولية، بخرقه لعدد من أسسها، كسيادة الدولة، وحصانة المسؤولين السياسيين، مثلما يخرق القاعدة الشرعية لعدم سريان مفعول اتفاقية دولية انعقدت بالتراضي بين مجموعة من الدول إلا على الدول التي صادقت عليها. 
2- لا يكفي عند النظر في تعامل المحكمة مع البشير الرجوع إلى بنود ميثاقها، فالخلل فيه ليس مسألة قانونية قائمة بذاتها، بل هو خلل صادر عن إخضاعها للنظام العالمي القائم على موازين القوى وليس على الشرعية الدولية. 
إن التسليم بذلك بعيد الخطورة، إذ يعني التسليم بسريان مفعول ما تتفق عليه أي مجموعة من الدول -كحلف شمال الأطلسي مثلا.. وهذا ما يسعى إليه فعلا!- فيما يشبه الحكم الغيابي على دول لا تشاركها فيما تتفق عليه!.. 
2- لا يكفي في تسويغ قرار المحكمة القول إنها تصرّفت بموجب التزامها بما يحيله مجلس الأمن الدولي إليها، فقرارات المجلس نفسه تتوافق أحيانا وتتناقض غالبا مع أسس الشرعية الدولية، وتأكيد الرفض المستمر لهذا الخلل لا بد منه، فهو منطلق ضروري لأي تغيير مستقبلي، في اتجاه التوفيق بين الشرعية الدولية والواقع العالمي. 
3- لا ينبغي التسليم بما يصنعه جهاز دولي، كمجلس الأمن الدولي، أو المحكمة الجنائية الدولية، مع دولة صغيرة رغم امتناعه عن مثل ذلك مع دولة كبيرة، وهذا ما نجده في المثال المطروح، في التعامل مع السودان بشأن دارفور -بغض النظر عن حقيقة القضية- ولا نرصد مثيله فيما يتعلق بما صنعت وتصنع الولايات المتحدة الأمريكية مع أفغانستان والعراق وسواهما، أو صنعت وتصنع الصين الشعبية مع التيبت وإيجور، أو صنعت وتصنع دولة الاتحاد الروسي مع الشاشان وأخواتها.. والتسليم بهذا التناقض هو التسليم لمنطق شرعة الغاب الانتقائية، وليس للشرعية الدولية.

محكمة جنائية دولية 
بين الشرعية الدولية.. وشرعية الغاب 
أسئلة مفتوحة 
سيادة القوّة 
الهيمنة الأمريكية.. وتساقط هيبتها 
المحكمة المطلوبة.. أمريكيا 
دعم المحكمة.. دعم للشرعية الدولية 
في مثل هذه الأيام من شهر تموز/ يوليو، قبل عشرة أعوام، كان نشر ما يلي في جريدة الشرق القطرية في مقالتين، تناولتا تأسيس المحكمة الجنائية الدولية آنذاك، وكيف رافقت جهود التأسيس آمال محورها الأول أن يكتسب النظام العالمي مشروعية قانونية دولية حقيقية، ولو جزئيا، بعد أن سيطرت عليه شرعة الغاب منذ تأسيس المنظومة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وخلوّها من جهة مرجعية مستقلة تحكم على مشروعية إجراءاته واتفاقاته وقراراته الدولية، كما خلت من مرجعية قضائية مستقلة للحكم على انتهاكات دولية من جانب أصحاب السلطات التنفيذية محليا ودوليا. ولم يكن خلوّ النظام العالمي من هذا وذاك، وبالتالي الخلل الكبير الذي سيطر عليه عبر عشرات السنين التالية مجرّد "مصادفة"، بل كانت القوة المهيمنة بعد الحرب من وراء ذلك، ممّا أوصل واقعيا إلى أمركة النظام العالمي نفسه، وهذا هو المحور الثاني الذي رافق تأسيس المحكمة الجنائية الدولية أن تكون خطوة في الاتجاه الصحيح للخروج من نفق أمركة العلاقات الدولية. ويعود القلم بالذاكرة إلى هذين المقالين مع دمجهما في مقال واحد، مواكبة لعودة الحديث عن المحكمة الجنائية الدولية هذه الأيام إلى الصدارة، على ضوء طلب النائب العام فيها إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، فهذه هي المرة الأولى التي يراد فيها توجيه اتهام إلى رئيس دولة وهو في السلطة، مما يعني اتباع أسلوب فرض الأمر الواقع لتغيير جذري في ممارسة العلاقات الدولية، يلغي حصانة أي مسؤول سياسي، وهو أمر يمكن النظر فيه على ضوء القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، ولكن ليس في إطار الخلل الكبير القائم في واقعهما التطبيقي عبر عقود سبقت، ويمكن أن يزداد في اتجاه ترسيخ نظام عالمي استبدادي، من خلال مثل تلك الخطوات المقصودة من جانب العاملين على تمريرها، خطوة بعد أخرى.
عندما انعقدت محاكمات نورنبيرج وطوكيو الشهيرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية لمحاسبة مجرمي الحرب من ألمانيا واليابان، كانت الأمور واضحة، فقد مثّلت تلك المحاكمات إرادة الدول المنتصرة في الحرب، ولم يكن العالم يفهم سوى لغة القوّة كما توارثتها القوى الأوروبية جيلا عن جيل منذ أكثر من ألفي سنة، ولم يكن يوجد على المسرح السياسي من يستطيع معارضة القوى المنتصرة في الحرب كلاما على الأقل، فضلا عن اتخاذ إجراء مضادّ لها، وحتّى الآن لا يشكّك أحد بصورة جادّة في تلك المحاكمات وما أسفرت عنه، ولكن يوجد على الأقلّ من "يتجرّأ" فيشير إلى ارتكاب جرائم حربية أثناء الحرب العالمية الثانية لم تجد محاسبة مماثلة. على الأرض الألمانية نفسها يتردّد مثلا اسم مدينة "درسدن" كشاهد صارخ أكثر من سواه، إذ تعرّضت درسدن -كمدن ألمانية أخرى عديدة- إلى غارات جوية مكثّفة أسفرت عن تسويتها بالأرض، وقتل عشرات الألوف من سكانها المدنيين، دون أن يوجد فيها من المنشآت العسكرية أو الصناعية التعبيوية، ما قد يسوّغ القيام بهذه الخطوة ولو شكليّا، وهذا بعد أن تحوّلت كفّة الميزان في الحرب الطاحنة بصورة كاملة في صالح جبهة الحلفاء. ويسري عدم وجود تعليل عسكري مقنع أيضا بصورة أشدّ ظهورا للعيان، على قصف هيروشيما وناغازاكي في اليابان بالقنابل النووية، فقد ألقيت القنابل بعد أن استسلمت المانيا، وبعد أن عرضت اليابان استعدادها للتفاوض على الاستسلام، فلم يكن يوجد على الإطلاق ما يستدعي قتل مئات الألوف من المدنيين العزل من السلاح. أليس هذا من "جرائم الحرب الكبرى" في تاريخ البشرية التي لم تجد حسابا حتى الآن!.. 
أسئلة مفتوحة
ثمّ كانت حقبة الحرب الباردة ووقع أثناء العقود الأربعة في ظلّها ما يزيد عن مائة وخمسين حربا وصداما عسكريا في أنحاء الأرض، سقط خلالها من الضحايا وشُرّد من البشر أضعاف ما سجّلته ويلات الحرب العالمية الثانية، بل تعرّض بعض البلدان كفييتنام في الستينات والسبعينات والعراق في التسعينات من القرن الميلادي العشرين، إلى القصف بقنابل وقذائف تعادل بعددها وطاقة التفجير التدميري القاتل فيها أضعاف ما تعرّضت إليه سائر البلدان الأوروبية معا، أثناء السنوات الست التي استغرقتها الحرب العالمية الثانية، وأضعاف طاقة التدمير القاتل للقنابل النووية التي ألقيت على اليابان. 
ولم يقتصر الأمر على ذلك، إنّما تضمّنت الحروب والصدامات العسكرية في فترة الحرب الباردة كما هو معروف، استخدام كلّ ما هو محظور وفتّاك دوليا من الأسلحة الفتّاكة، بدءا بأنواع القنابل الحارقة والانشطارية وذات الشظايا، مرورا بالأسلحة الكيمياوية والحيوية، وانتهاء بالألغام المضادّة للأشخاص على شكل لعب أطفال، أي بما يستهدف قتلهم بصورة مباشرة، وهو ما لا خلاف على الإطلاق في اعتباره من جرائم الحرب الشنيعة، وجميع ذلك لم يصل إلى مستوى توجيه الاتهام فضلا عن المحاسبة على "جرائم حرب". 
لقد مضى خمسون عاما على النزاع القائم بين الشرق والغرب في حقبة الحرب الباردة، وهو يرسّخ ثلاثة معطيات رئيسية متكاملة في مفعولها، و "إجرامية" في مدلولها في نهاية المطاف، فمن جهة باتت قوّة الردع المتبادل أو الرعب النووي مانعا من وقوع صدام مباشر بين المعسكرين العدوّين اللدودين، وهذا ما أنقذ البشرية من مزيد من الجرائم الحربية، ولكن من جهة ثانية كان هذا النزاع تحت عنوان الحرب الباردة بالذات سببا في وقوع عدد كبير من "الحروب الساخنة" في الجنوب، فيما عُرف بالصراع على النفوذ وبالحروب بالنيابة وما شابه ذلك، وفوق ذلك كلّه كان التناقض السياسي بين القطبين الدوليين من جهة ثالثة، يحول دون محاسبة أيّ طرف ينتمي إليهما مباشرة على جرائمه، وكذلك دون محاسبة سواهما من "صغار مجرمي الحرب" من أتباعهما خارج نطاق المعسكرين. 
لا غرابة إذن في أنّ الأفكار الأولية التي درستها لجان الأمم المتحدة في أواخر الأربعينات من القرن الميلادي العشرين، بصدد "محكمة جنائية دولية" لم تخرج من أدراج المنظمة الدولية لمدّة خمسة عقود كاملة. بل قد يرى المؤرّخون في قادم الأيّام، أنّ التراخي عن وضع "مواثيق حقوق الإنسان" و"المبادئ الثابتة" للقانون الدولي، موضع التطبيق عبر "أجهزة قضائية دولية"، أثناء حقبة صراع الشرق والغرب وبسببه، كان سببا من الأسباب الرئيسية التي شجّعت على ارتكاب مزيد من جرائم الحرب دون الخشية من الملاحقة والمحاسبة، وذاك ما بلغ ذروته في البلقان ورواندا في التسعينات من القرن الميلادي العشرين، فكان سببا في تحوّل ولو جزئي في النظرة إلى قضية جرائم الحرب والمحاسبة عليها. 
لقد كانت حرب البلقان، ومأساة البوسنه والهرسك بصورة خاصة، ساحة للجرائم الحربية بصورة مكثّفة وبحجم ضخم وبنوعيات جديدة، تجاوزت كلّ ما عرفته البشرية من قبل، كالاغتصاب الجماعي المنظم للنساء وحرق الأطفال والشيوخ أحياء، ونتيجة تواصل هذه الممارسات فترة زمنية طويلة فرضها صمود المسلمين من البوشناق، بلغ مفعوله على الرأي العام العالمي مستوى لم يعد يمكن معه الإبقاء على قضية "جرائم الحرب" دون إجراء دولي مضاد، فولدت محكمة لاهاي لمجرمي حرب البلقان، بمهمّة مؤقتة زمنيا، محدودة موضوعيا. 
والواقع أنّها كانت ولادة "مشوّهة" على مختلف الأصعدة، فمن تابع بالتفصيل حدود صلاحياتها، وكم نُصب من العراقيل الإجرائية والمالية في وجهها، ثم تخلّف معظم القوى الدولية المعنية عن دعمها ماليا، أو دعمها بما لديها من وثائق ومعلومات.. من تابع ذلك كلّه ومزيدا عليه يدرك أسباب انقضاء سنوات عديدة على تشـكيل المحكمة، دون أن تصل "عدالتها الدولية" إلى كبار مجرمي الحرب من الدرجة الأولى والثانية، بل حتّى من وصلت إليهم من "صغار مجرمي الحرب" أيضا، بقي عددهم محدودا للغاية، وهذا رغم أنّ عدد الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ والرجال قد وصل إلى مئات الألوف، ورغم أن المنظمات غير الحكومية جمعت ونشرت من الأدلة والشواهد على الجرائم المرتكبة ومنفذيها والمسؤولين عنها، ما يدفع إلى الذهول عند النظر موضوعيا فيما يعنيه إهمالها أو عدم الأخذ بها أو عرقلة تبنّيها رسميا، ومقارنته بما نشهده منذ خمسين سنة، عاما بعد عام، من الأخذ بأدلة وقرائن أصبحت بمرور الزمن واهية، ولكن لا تُنسى ولا تُهمل، لأنّها في صالح "اليهود" من بين الملايين الآخرين من ضحايا النازية والفاشية والحرب العالمية الثانية، وبالتالي لمحاسبة البقية الباقية من النازيين، ممّن يحمّلون مسؤولية ارتكاب جرائم حرب، ومع إصرار لا مثيل له، على ملاحقتهم في أنحاء العالم حتى يلفظوا رمقهم الأخير، ويكونوا عبرة لمن يعتبر، ومواضيع لمختلف الأساليب الدعائية الحديثة والاستغلال السياسي المحنّك، وهذا فضلا عمّا أضـيف إلى الملاحقات القضـائية في الآونة الأخيرة، ممّا دار الحديث عنه تحت عنوان "مسروقات الذهب اليهودي من جانب النازيين" وما شابه ذلك. 
ما يسري على محاكمات لاهاي لمجرمي حرب البلقان المشار إليها، يسري بصورة مشابهة على محاكمات مجرمي حرب الإبادة في رواندا، فهناك أيضا بقيت مصالح صراع النفوذ الدولي في إفريقية فوق اعتبارات "العدالة الدولية"، ولا حاجة إلى التفصيل. 
أمام هذه المعطيات لا بدّ من التساؤل هل يمكن أن تسفر محادثات روما بين 15/6 و17/7/1998م عن تحقيق الهدف المعلن رسميا، وهو إنشاء "محكمة جنائية دولية" دائمة، ولها صلاحية ملاحقة الأفراد على جرائمهم من وراء الحدود السياسية القائمة، وليس مجرّد إصدار أحكام "غير ملزمة" لفض النزاعات بين الدول -بشروط- كما هو الحال مع محكمة العدل الدولية في لاهاي؟.. 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.sidiameur.info
Labza.Salem
Admin
Labza.Salem

عدد المساهمات : 43954
نقاط : 136533
تاريخ التسجيل : 12/09/2014
العمر : 29
الموقع : سيدي عامر

بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Empty
مُساهمةموضوع: رد: بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق   بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Emptyالخميس 20 أبريل - 9:49

سيادة القوّة 
السؤال المحوري المطروح هو: هل يتضمّن ميثاق المحكمة ما يحقق الغاية الأصلية من إنشائها، عن طريق ضمانات تضع اعتبارات العدالة فوق اعتبارات النفوذ الدولي، وتنطلق من مبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية وفق نصوص المواثيق الدولية ومفهومها الأصلي، وليس وفق موازين القوى العالمية وتفسيراتها الآنية للنصوص على هواها، ووفق تشويهها لمصطلح "الشرعية الدولية" وابتذاله في ممارساتها اليومية، ثمّ هل تتحقق الغاية الأصلية للمشروع وتحاسب المحكمة المرجوّة مجرمي الحرب الكبار، كما تحاسب مجرمي الحرب الصغار، وإذا تجاوزت -كما قد يتطلّب عملها- سيادة الدول، ألن تفّرق في ذلك بين دولة صغيرة وكبيرة، وهل ستمتنع عن اتخاذ دعوى ملاحقة الجرائم الحربية ذريعة لخرق تلك السيادة لصالح غايات قوى دولية مهيمنة أم لا؟.. 
هذه الأسئلة مفتوحة حتى الآن (ومثال التعامل مع السودان يؤكّد نوعية الخلل في الجواب الذي تقرّر عليها) رغم الاجتماعات التحضيرية على مدى عدة سنوات، ورغم وضع "مشروع" لنصّ الميثاق، هي أسئلة تمسّ صلب المهمّة المرجّوة من الهيئة الدولية الجديدة، وتلعب دورا حاسما في كيفية عملها وهل يكون فعّالا أم شكليا ضعيفا، وهل يكون مستقّلا أم موجّها، وبالتالي هل تكون المحكمة نفسها موضع ثقة واطمئنان شامل للبشرية، أم مدعاة لمزيد من افتقاد الثقة بالمنظمات الدولية والمتحكّمين في صناعة القرار فيها. 
من بين 185 دولة عضوا في الأمم المتحدة، شاركت وفود زهاء 120 دولة في مشاورات روما، ومنها 48 دولة فقط، تؤيّد قيام محكمة جنائية دولية مستقلّة وبصلاحيات كافية بمعنى الكلمة، ثمّ كانت الاعتراضات على كلّ صعيد، و بعضها صادر عن اعتبارات سياسية آنية -ولا ينقص ذلك من سلامة تلك المطالب ومشروعيتها- كمطالبة بعض الدول العربية المشاركة، لا سيّما مصر، بأن تشمل قائمة الجرائم الحربية التي تدخل في صلاحيات المحكمة، عمليات "الاستيطان الاستعماري" و"طرد السكان الأصليين"، وغير ذلك ممّا يرتبط مباشرة بواقع قضية فلسطين في الوقت الحاضر، وبعض الاعتراضات صادر عن مواقع سياسية أصبحت معروفة ومعتادة على الساحة السياسية الدولية، كاعتراضات الصين والهند استنادا إلى رفض التخلّي عن أولوية مبدأ "عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول". وهذه اعتراضات يمكن أن تتلاشى ويتراجع أصحابها تحت تأثير الضغوط كما كان في حالات مشابهة في مؤتمرات دولية طرحت قضايا حاسمة، مثل حظر انتشار السلاح النووي بصورة "مؤبّدة" دون التزام مالكيه بإتلافه. 
كذلك قد يمكن الاتفاق على نقاط خلافية أخرى مثل صلاحيات المدّعي العام، وحريّته في النظر في أدلّة الاتهام، وما شابه ذلك ممّا يرتبط بمجرى عمل المحكمة، ولكن لا يبدو من المعطيات الراهنة أثناء التأسيس احتمال الاتفاق على النقاط الحاسمة في اعتبار المحكمة الدولية الجديدة مستقلّة بمعنى الكلمة، فهذا ما يرتبط في الدرجة الأولى بموقف أربع دول من بين خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، تصرّ -كما هو متوقّع- على ربط عمل المحكمة بقرار من المجلس، وبتعبير آخر بإمكانية أن تعتمد أيّ دولة من هذه الدول على انفراد، على ما يسمّى حق "النقض/ الفيتو" لرفض عرض قضية من القضايا على المحكمة الدولية، إذا ما استهدفت تلك القضية فردا من سكانها، أو وجدت الدولة المعنية في الرفض مصلحة لها على ضوء علاقاتها الآنية الدولية. 
هذا علاوة على أنّ القوى الدولية الرئيسية لا تريد أن تصبح المحكمة الدولية عقبة في وجه ما تمارسه الآن ويمكن وصفه بتعبير "سيادة القوّة" وليس سيادة الشرعية الدولية، كقاعدة انطلقت وتنطلق منها في صنع ما تريد، فهذا ما يمكّنها من استخدام القوة العسكرية، بما يشمل الحرب العدوانية، وبالتالي ارتكاب جرائم حربية، وهي آمنة على نفسها من المحاسبة الدولية، كما كان في غزو الأمريكيين لجرانادا وفي عدوانهم على ليبيا ومن قبل فيما ارتكبوه في فييتنام، أو كما كان في غزو الروس لأفغانستان وفي جرائمهم الحربية في الشاشان (وهذا ما سرى لاحقا على الحروب الأمريكية الجديدة) هذا فضلا عن رغبة كلّ من تلك الدول في الاستمرار على حماية أتباعها من المحاسبة الدولية، كما هو معروف في السلوك الأمريكي المشين في مجلس الأمن الدولي مع كلّ ما يتّصل بجرائم الكيان الإسرائيلي الغاصب بفلسطين. 
إنّ قيام محكمة دولة جنائية -ولو بصلاحيات ناقصة وقيود عديدة- خطوة إلى الأمام في إطار مسيرة التطوّر التي شهدها القانون الدولي، ولكن يبقى ثابتا على ضوء ما يرافق الإعداد لتشكيلها، وكذلك على ضوء سائر ما عرفته البشرية من تجارب على امتداد العقود الماضية، أنّ المبادئ الثابتة للقانون الدولي، والقيم الإنسانية الراسخة في الضمير العالمي، لن تجد طريقها إلى عالم الواقع، إلاّ عندما تتبدّل موازين القوى الراهنة، ليس بمعنى تعدّد الأقطاب الدوليين فقط، فقد كان ذاك حال "الأسرة البشرية" في ظلّ الحرب الباردة أيضا، وإنّما بمعنى نهوض ما يزيد عن نصف البشرية على الأقلّ، لا سيّما الشعوب الإسلامية، من أوضاع التخلّف والنزاعات المحلية والإقليمية وأسباب الضعف الداخلية الراهنة، لتظهر قوى جديدة على الساحة، تنطلق في معاملاتها الدولية من الشرعية الدولية فعلا، وليس من سيادة القوّة، وما هي في واقع الأمر من حيث مضمونها ومن حيث نتائجها على السواء سوى شريعة الغاب. 
الهيمنة الأمريكية.. وتساقط هيبتها 
عندما وافقت 135 دولة على المشروع الأول لميثاق تأسيس محكمة الجزاء الدولية في مفاوضات استمرت خمسة أسابيع في روما، امتنع بعض الدول العربية، وهي قطر واليمن والجزائر وليبيا عن الموافقة، وليس من السهل العثور على أسباب منطقية مقنعة وراء ذلك، وقد وجدت المحكمة طريقها إلى الحياة بالموافقة ثم بالتصديق النهائي على الميثاق من جانب 74 دولة، وقد ينضم إليها المزيد رغم المحاولات "المستميتة" من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لمنع ظهور هذا الجهاز الدولي في شبكة المنظمات العالمية، فما هو السبب المنطقي المقنع من وراء الموقف الأمريكي، رغم أن واشنطون ما فتئت تردّد -ويوجد من يصدّقها- أنها تتحرّك عالميا باسم الشرعية الدولية وحقوق الإنسان وحرياته؟.. 
الصين ذات مواقف معروفة في كلّ ميدان من الميادين ذات العلاقة بالسيادة، فيمكن فهم دوافعها في رفض الميثاق الجديد أيضا، كذلك ليس عسيرا فهم الأسباب والدوافع من وراء الموقف الإسرائيلي الرافض، فالكيان القائم بفلسطين موجود في قفص الاتهام منذ زراعته في قلب المنطقة العربية والإسلامية، ويخشى من المحاكمة على جرائمه، ولا يحميه من تلك المحاكمة أحد مثل الأمريكيين، فكيف يوافق على محكمة دولية يريد مؤسسوها في الأصل ألاّ تكون خاضعة للإرادة السياسية الأمريكية، وأن تشمل صلاحيتها محاسبة مرتكبي جريمة "إبادة الشعوب" و"الجرائم الحربية" و"الجرائم في حق الإنسانية"، وهذا مع تثبيت جرائم معيّنة مثل "الحرب العدوانية" أو "التهجير الجماعي عن أرض محتلّة"؟.. 
ليس للموقف الإسرائيلي أهمية تستحق الذكر على صعيد هذه المحكمة الدولية، فلقضية فلسطين معطيات تحتاج إلى العمل والتحرّك على أصعدة أخرى، ولكن من العسير فهم مواقف في المنطقة العربية، تتحدّث عن الموقف الأمريكي بلسان الاستغراب، ثمّ تعزّز استغرابها بالإشارة إلى أنّ واشنطون هي التي كانت في مقدّمة الداعين إلى تأسيس محكمة جنائية دولية دائمة!.. 
هذا الاستغراب انطلق من تصوّر خاطئ من الأساس، فكما يصدّق فريق من الناس أنّ خيال الصناعة السينمائية في هوليوود هو حقيقة أمريكا على أرض الواقع، كذلك ما يزال يوجد فريق من الناس يصدّق على ما يبدو تصديق التسليم دون تفكير، ما تقول به التصريحات الأمريكية، وتعلنه البيانات الرسمية، ممّا يحفل بمزاعم الدفاع عن حقوق الإنسان، وما يقترن بتوزيع الاتهامات كما لو كانت إدانات قاطعة، وفرض العقوبات وكأنّها مشروعة صادرة عن محكمة نزيهة عادلة، ولا بأس بعد ذلك حتّى وإن وصل ما يصنعه الأمريكيون إلى مستوى "خنق الشعوب الأخرى حصارا" على حسب ما تقتضيه مصلحة "أمريكية" عليا، واستثناء آخرين على حسب ما تقتضيه تلك المصلحة ذاتها. 
الغريب هو أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية رغم ذلك كلّه هي في نظر "المتغرّبين المستغربين" بلد الحرية رقم واحد في العالم، ومنشأ صياغة "حقوق الإنسان وحرياته" كما قرّرها الدستور الأمريكي قبل نيف ومائتين من السنين، وهي زعيمة "العالم الحرّ" منذ الحرب العالمية الثانية، وعليها قبل سواها المعوّل الأكبر في المساعي الدولية، من أجل احترام حقوق الإنسان، هذا فضلا عن زعامتها الانفرادية العالمية، فلا فائدة من "صنع شيء" دون مشاركتها!.. بل ويصل الأمر ذروة الاستخفاف والاستهانة بالذات، عند قبول تلك التصوّرات بأمريكا، مدعيا عامّا، وقاضيا، وشرطيا دوليا، وجلاّدا، وكأنّ هذا أمر مفروغ منه، ما دامت هي القوّة "العظمى" دوليا!.. 
هذه تصوّرات تذكّر في إطار هذا الحديث عن محكمة الجزاء الدولية، بمشادّة نشبت بين الحليفين، الأمريكي والألماني، قبيل اختتام مفاوضات روما التأسيسية للمحكمة بأيام، عندما أعلنت مصادر بون، أنّ الرفض الأمريكي لاستقلالية المحكمة، جعل وزير الدفاع الأمريكي ويليام كوهين آنذاك، يتصل بالمسؤولين الألمان، فيهاجم موقفهم بشدّة، بسبب تبنّيهم الدعوة إلى استقلالية كاملة للمحكمة الجنائية الدولية، بل وتوعّد الوزير بسحب القوات الأمريكية المتبقيّة في أوروبا، إذا استقرّ أمر الميثاق الجديد على هذا النحو، فأعطى المحكمة تلك الاستقلالية الضرورية عن مجلس الأمن الدولي وقرارااته والخلل القائم في نظام تصويته منذ نشأته!. 
وقد نفت واشنطون في حينه صدور الوعيد والتهديد، ولكن لم يشمل النفي -عمدا- الهجوم الناقد الشديد!.. 
إنّ ألمانيا، رغم التحالف ورغم المصالح المشتركة، ورغم التلاقي على أرضية حضارية وغير حضارية راسخة مع الأمريكيين، حرصت بذلك الموقف -وبسواه- على الخروج من ظلّ هيمنة أمريكية متعاظمة تتطلّع إلى زعامة انفرادية دولية، وترفض بالتالي وجود محكمة خارج نطاق إرادتها السياسية، تتناقض مع طبيعة "الاستبداد الدولي" الذي تمارسه وتريد الحفاظ على معطياته عالميا. 
أما آن الأوان إذن -ولدينا من الأسباب ما يكفي على صعيد قضية فلسطين وأفغانستان وكشمير والصومال وسواها وعلى صعيد أساليب الحصار والمقاطعات ومسائل التسلّح والتقنية، وغيرها وغيرها- أن نخرج بأنفسنا على الأقلّ من إطار مثل تلك التصوّرات الساذجة عن المواقف الأمريكية، في قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان وقضايا العدالة وما شابهها؟.. 
ألا ينبغي الامتناع على الأقل عن توظيفها رغم شدّة سذاجتها أو غبائها، لتكون مدخلا إلى تعليل المواقف الأمريكية، سيّان ما وصلت به تجاه بلادنا، من استهتار بالقضايا المصيرية والمصالح الحيوية والصداقات التقليدية؟.. 
هل يمكن فعلا الاستناد إلى مثل تلك العناوين وقد ظهر زيفها بصورة "دامية" مرة بعد مرة، حتى أصبحت مدعاة إلى إظهار "الاستغراب" من موقف أمريكي عدائي تجاه المحكمة، بعد أن أسقط هذا الموقف إمكانات العثور على تعليل ما يمكن أن يرتدي رداء المنطق، أي منطق، وهذا رغم حديثهم هم أنفسهم عن الازدواجية والانتقائية في ممارسات السياسة الأمريكية، ربما للاستهلاك المحلي، أو لمحاولة كسب مصداقية ما!.. 
ونعلم بعد ذلك أن الأخطر من "الموقف" الشاذ بحد ذاته، أو الاستغراب الكلامي، أنّ أصحابه يريدون أن نستمر في التعامل مع صانعي القرار الأمريكي الأمريكيين على ذلك الأساس المعوجّ، سيّان هل رافقه أم لم يرافقه الحديث الساخط على ممارساتهم!.. 
المحكمة المطلوبة.. أمريكيا 
إن الموقف الأمريكي من المحكمة الجنائية الدولية منذ مناقشة ميثاقها قائم على مرتكزات قديمة وجديدة تمتدّ بتأثيرها إلى سائر المواقف الأخرى ذات العلاقة بالسياسية العالمية والقانون الدولي، ومنها على سبيل المثال دون الحصر: 
1- محاولة طمس المعالم الحقيقية للتاريخ الأمريكي القديم والحديث، الملطّخ بمختلف أشكال خرق حقوق الإنسان وامتهان حرياته، بدءا بسحق الهنود الحمر وهو ما تسمّيه القوانين الدولية "إبادة الشعوب" وتعتبره الجريمة رقم واحد التي يجب أن تنظر فيها المحكمة الجديدة، ومرورا باستخدام القنابل الذرية دون أي حاجة عسكرية إلى استخدامها في نهاية الحرب العالمية الثانية ضدّ المدنيين في اليابان، ومرورا أيضا بالتاريخ الإجرامي الحربي الطويل في فييتنام، وكان آخر من تحدّثت عنه تقارير وكالة (سي إن إن) التليفزيونية الأمريكية نفسها، وانتهاء بآخر حملات الغزو الأمريكية لجرانادا وباناما وليبيا وسوى ذلك مما كشفت عنه الوثائق الأمريكية التي يُلغى اعتبارها "سرية" بعد مرور فترات زمنية معيّنة عليها (ويضاف إلى ذلك المزيد ما بين أفغانستان وجوانتانامو والعراق وأبو غريب وما تلاهما..). 
2 – إنّ الاستشهاد بدور الولايات المتحدة الأمريكية في محاكمات نورنبيرج وطوكيو لمرتكبي الجرائم الحربية في فترة الحرب العالمية الثانية يغفل عن أنّ تلك المحاكمات -بغضّ النظر عن سلامتها وعدالتها من حيث الأصل- كانت محاكمات الطرف المنتصر للطرف المنهزم على جرائم ارتكبها فعلا، ولكن العدالة كانت تتطلّب إجراء محاكمات أخرى إلى جانبها، تتناول جرائم الحرب التي ارتكبها الطرف المنتصر، ولم يمنع منها سوى أنّه يكن يوجد في الساحة الدولية طرف قويّ قادر على المطالبة بالمحاسبة عنها، مثل قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية، أو "مسح مدينة درسدن الألمانية بالأرض، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. 
3 – إنّ تبنّي الولايات المتحدة الأمريكية لمشروع المحكمة الجنائية الدولية مرتين، عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، ثمّ عقب انهيار المعسكر الشيوعي الشرقي، كان مرتكزا في المرّتين إلى الاعتقاد الأمريكي الخاطئ، بأنّ الساحة الدولية قد خلت من منافس لواشنطون على الزعامة الانفرادية، وبالتالي الاعتقاد بأنّ قيام محكمة دولية من هذا القبيل، يعني إيجاد "أداة" إضافية لتنفيذ الإرادة السياسية الأمريكية، فبدلا من أن تقوم القوّات الأمريكية بعمل محظور دوليا، من قبيل خرق سيادة دولة صغيرة كبناما، واختطاف رئيسها، ومحاكمته أمام "القضاء الأمريكي"، يمكن إعطاء مثـل هذا الدور لمحكمة دولية (وهذا ما يعنيه التعامل الآني مع السودان) أمّا أن يصبح في ميثاق تلك المحكمة الدولية بنود قابلة لاستخدامها ضدّ "الأمريكيين"، ولو من قبيل جنود مرابطين في اليابان عند اعتدائهم الجنسي على فتاة مراهقة يابانية، فيكفي ذلك الاحتمال لينقلب الموقف الأمريكي إلى معارضة شديدة بل واستخدام أساليب الابتزاز الدولي للحيلولة دون تنفيذ مشروع دولي تلتقي عليه إرادة العدد الأكبر من دول العالم، وهي معارضة تأتي ولو كانت في الولايات المتحدة الأمريكية في موقع القوّة، إذ يعلم صانعو القرار أن الكشف العلني والمتكرر عن "الجرائم" يكفي مع مرور الزمن لسقوط مفعول القوّة في التغطية عليها ومنع المحاسبة عليها. 
4- إنّ من تابع المرحلة الأخيرة من المفاوضات التمهيدية لمشروع الميثاق، والمواقف الأمريكية أثناء ذلك ومن بعد، يمكن أن يستنتج بسهولة، أنّ المحكمة التي تريدها واشنطون، هي تلك التي تبقى من حيث عرض القضايا عليها، ومن حيث حريّة عمل المدّعي العام فيها، ومن حيث حجم صلاحياتها، في نطاق الحدود التي يصنعها ما يسمّى "حقّ" النقض/ الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الدولي (وهو ما اعتمد عليه في الاتهام ضدّ السودان) وليس هو في واقعه سوى جزء من أنظمة وضعتها مجموعة دول منتصرة في الحرب العالمية الثانية، وفق ما يمليه "منطق قوّة المنتصر" وليس وفق ما يتفق مع المبادئ والقيم والقواعد الأساسية، المقرّرة في ميثاق الأمم المتحدة نفسه، بدءا برفض اعتبار القوّة مشروعة لاغتصاب الحقوق وممارسة العدوان، وانتهاء بمساواة سائر دول العالم أمام القانون الدولي وأجهزته، بغضّ النظر عن حجم كلّ منها وحجم قوّته. وما دام ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الجديد يوافق إرادة الدول الأخرى، ولكن لا يتفق مع إرادة الدولة الأمريكية، فمن المنتظر سلفا -وليس من المستغرب– أن ترفضه وتعلن عزمها على الحيلولة دون أن يجد طريقه إلى الشرعية الدولية، أي عزمها على ممارسة الضغوط واتباع الوسائل "التقليدية" عند الأمريكيين، للحيلولة دون تصديق العدد الكافي من دول العالم عليه، ثم وضعه موضع التطبيق العملي، وهذا ما أخفقت واشنطون فيه أيضا (وإن تلت ذلك مرحلة جديدة لتطويع الوضع الدولي الجديد للخلل القائم على حسب موازين القوى وتقلب تحالفات المصالح بين القوى الدولية). 
دعم المحكمة.. دعم للشرعية الدولية 
إنّ "الشرعية الدولية" التي لا ينقطع ذكرها حتى فقدت معناها وفقد الاستناد إليها مغزاه، تحتاج إلى الدعم، لتستعيد الكلمة مضمونها الأصلي، وهو الذي يستند إلى الأسس المتمثّلة في قيم ومبادئ وقواعد، ولا يستند إلى قرارات واتفاقيات تكون مشروعة بقدر توافقها مع تلك الأسس وباطلة إذا خالفتها، وهي أسس تعارفت على صلاحيتها غالبية البشر نتيجة تراكم الخبرات التاريخية العملية ونتيجة غلبة الفطرة على ما سواها. كذلك لا يستند المفهوم الأصلي للشرعية الدولية إلى "منطق القوّة المهيمنة" كما يراد له الآن، وحتى في الحقبة التاريخية التي تشهد هيمنة قوة دولية معيّنة على صناعة القرار العالمي، تبقى للحفاظ على المفهوم الأصلي للشرعية الدولية أهمية كبيرة، فهذا في خاتمة المطاف هو المنطلق للتصحيح، عندما تتبدّل موازين القوى وفق السنن التاريخية والاجتماعية الثابتة. 
والمحكمة الجنائية الدولية، المستقلة عن إرادة الدول السياسية، والمستقلّة عن الأجهزة الدولية الأخرى، استقلاليا حقيقيا لا كلاما، وفق مبدأ "الفصل بين السلطات" الذي تزعم الديمقراطيات الغربية محليّاً ودوليا أنّها وحدها التي تنادي به وتطبّقه، وكذلك وفق أصل الفكرة المطروحة لتشكيل هذه المحكمة منذ الأربعينات من القرن الميلادي العشرين.. هذه المحكمة بهذه المواصفات ركن أساسي من أركان تطبيق الشرعية الدولية، وكان المرجو لها في البداية -أي قبل تجميد الفكرة مع بداية الحرب الباردة- أن تقوم إلى جانب مجلس الأمن والجمعية العامّة للأمم المتحدة والأمانة العامة، كركن رابع في تشكيلة المنظمات الدولية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، ومن هنا كانت قضية استقلالية "المدعي العام" نقطة جوهرية في المناقشات، وكانت بالمقابل هي النقطة الرئيسية التي عارضها الأمريكيون (وهذا ما أدّى إلى إضافة مجلس الأمن الدولي مصدرا لتحريكه فأفرغ كلمة الاستقلالية من محتواها). 
ولا جدال في أنّ بقاء دول من حجم الولايات المتحدة الأمريكية والصين، خارج نطاق صلاحيات المحكمة، سيجعلها دون المستوى المطلوب منها، لا سيّما إذا نجحت الضغوط الأمريكية في تحقيق هدفها جزئيا، وبقي بعض الدول يتخوّف من الانضمام إلى عملية التصديق النهائي. 
رغم ذلك يبقى أنّ النتيجة المتحققة حتى الآن تمثل خطوة دولية رئيسية جديدة إلى جانب خطوات سابقة، مثل إقرار معاهدة حظر الألغام الأرضية دون مشاركة أمريكية، ومثل مشاركة الدول الأوروبية في إخراج الولايات المتحدة الأمريكية من عضوية المفوضية العامة لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، وغير ذلك.. تبقى النتيجة تمثل بشكل استعراضي واضح ازدياد حجم "التمرّد الدولي" على الهيمنة الأمريكية، ممّا صار يشمل بوضوح دولا حليفة لواشنطون في الأصل، ودولا "اعتادت" على عدم مخالفتها، طوعا وكرها. وفي هذا التمرّد ما يعزّز المسيرة الدولية نحو استرجاع "هيبة" الشرعية الدولية بمفهومها الأصلي، ويؤكّد أن منطق القوّة وحده لا يكفي لصناعة نظام دولي جديد ومستقرّ. 
لا يعني ما سبق أنّ هذه المعاهدات هي الميدان الوحيد الذي ينبغي التحرّك فيه نحو هدف تحرير الإنسان من نظام قائم على استبداد أمريكي دولي، بل يجب أن يقترن ذلك بالتحرّك في ميادين أخرى يسعى الأمريكيون من خلالها لتعزيز أسباب سيطرتهم العالمية، وفي مقدّمتها ما تنطوي عليه ظاهرة العولمة بأبعادها المتعدّدة، وقد بدأ بعض القوى الدولية بالتمرّد هنا أيضا، وهو ما شهدنا ويمكن أن نشهد المزيد من آثاره مثلا في الوحدة النقدية الأوروبية، وفي التميز الأمني والسياسي الأوروبي المتزايد. 
المهمّ هنا هو تثبيت حقيقة بسيطة: على قدر ما تتحرّك مناطق أخرى، كالمنطقة العربية والإسلامية، في اتجاه واضح المعالم، من جوانبه الأخذ بلغة المصالح المتبادلة في الميادين الاقتصادية والسياسية والأمنية والمالية وسواها، بدلا من الاستمرار على ما يسمّى للأسف "العلاقات الودية" وقد باتت أشبه بشارع ذي اتجاه واحد.. بقدر ما تتحرّك مناطق أخرى في هذا الاتجاه، يمكن أن نشهد كيف تهترئ تدريجيا دعائم الهيمنة الأمريكية العالمية، القائمة على منطق القوّة المتعدّدة الأشكال، وهي على أيّ حال قوّة تعتمد في الدرجة الأولى على ما يوفّره الآخرون لها من أسباب البقاء والنماء عبر الانصياع بدلا من الرفض، أكثر ممّا توفّره لنفسها اعتمادا على الإمكانات الذاتية أضعافا مضاعفة. 
لماذايساءل أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ 
ثمة شبه إجماع بين كافة المراقبين السياسيين، العرب منهم على الأقل، أن الدوافع السياسية هي الأساس الذي يستتر خلفه طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية "لويس مورينو أوكامبو" إلى دائرة ما قبل المحاكمة -إحدى أجهزة المحكمة الجنائية الدولية- إصدار أمر بالقبض على الرئيس السوداني عمر البشير واتهامه بالمسئولية عن جرائم حرب ارتكبت في دارفور.
لكن ذلك الإجماع على وجود دوافع سياسية لم يقابله إجماع مماثل على العديد من الجوانب القانونية المرتبطة بعمل المحكمة الجنائية، ولاسيما ما يتعلق منها بتحديد ولاية المحكمة، أو على من تمارس اختصاصاتها، وهل ثمة أشخاص يتمتعون بحصانة قانونية ضد المساءلة أمام المحكمة أو توقيع عقوبة عليهم؛ لذا فإنه من المفيد إلقاء الضوء على بعض النصوص القانونية التي تحدد طبيعة عمل المحكمة في هاتين النقطتين تحديدا.
قبل الشروع في ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية أنشئت وفقا لأحكام نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تعود تسميته إلى اعتماده في روما في 17 يوليو 1998، من قبل مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية، ونظام روما هو معاهدة دولية ملزمة للدول التي أعربت عن موافقتها على الالتزام بأحكام هذه المعاهدة.
وبالتالي أصبحت هذه الدول "أطرافا" في نظام روما الذي بموجب أحكامه دخل حيز التنفيذ في الأول من يوليو 2002 بعد أن انضمت إليه 60 دولة، وقد أصبح اليوم عدد الدول الأطراف في نظام روما 104 دول.
ووفقا لما ورد في ديباجة هذا النظام الأساسي، لا تدعي المحكمة التدخل في الشئون الداخلية للدول؛ حيث تشير الديباجة إلى أنه "لا يوجد في هذا النظام ما يمكن اعتباره إذنا لأي دولة طرف بالتدخل في نزاع مسلح أو في الشئون الداخلية لأية دولة"، كما تؤكد أن "المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية".
ولاية المحكمة
وبعد أن تناول الباب الأول نشأة المحكمة في المواد من 1 إلى 4، جاء الباب الثاني تحت عنوان: «الاختصاص والمقبولية والقانون الواجب التطبيق»، حيث تعدد المادة 5 الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، وتنص في الفقرة 1 على الآتي: "يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية:
(أ) جريمة الإبادة الجماعية. (ب) الجرائم ضد الإنسانية. (ج) جرائم الحرب. (د) جريمة العدوان"، وتفصل المواد من 6 إلى 8 أنواع الجرائم الثلاث الأولى.
أما جريمة العدوان فقد أشارت الفقرة 2 من نفس المادة إلى أن المحكمة تمارس الاختصاص على جريمة العدوان متى اعتمد بهذا الشأن ما يعرفها، ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصاتها فيما يتعلق بهذه الجريمة، ويجب أن يكون هذا الحكم متسقا مع الأحكام ذات الصلة من ميثاق الأمم المتحدة.
ومغزى ذلك أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية لم يضع كسائر الجرائم الأخرى تحديدا دقيقا لها، وتركه للتشاور بين الأعضاء وفقا للمادتين 121 و123 من هذا النظام الأساسي، والمتعلقين بالتعديلات التي قد تدخل على بعض نصوص النظام الأساسي، وبقيام الأمين العام للأمم المتحدة بعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذ هذا النظام بعقد مؤتمر استعراضي للدول الأطراف للنظر في أية تعديلات عليه.
وبرغم أن المادة 4 فقرة 2 (المركز القانوني للمحكمة وسلطاتها) تنص على أن "للمحكمة أن تمارس وظائفها وسلطاتها في إقليم أي دولة طرف، ولها بموجب اتفاق خاص مع أي دولة أخرى أن تمارسها في إقليم تلك الدولة"، فإن نصوصًا أخرى في المعاهدة تؤكد أن دولا غير أطراف قد تدخل في نطاق اختصاصات عمل المحكمة.
ففي الباب الثاني (الاختصاص والمقبولية والقانون الواجب التطبيق) تنص المادة 13 (ممارسة الاختصاص) على أن "للمحكمة أن تمارس اختصاصاتها فيما يتعلق بجريمة من الجرائم المشار إليها في الفقرة 5، في الأحوال التالية:
أ) إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقا للمادة 14 حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت، وهنا تقول المادة 14/1 بأنه يجوز لدولة طرف أن تحيل للمدعي العام أي حالة يبدو فيها أن جريمة من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم.
ومغزى هذين النصين أنه يجوز لدولة طرف أن تطلب من المدعي العام البت في حالة ما، دون اشتراط أن تكون هذه الحالة حادثة في دولة طرف بالمعاهدة أو ليست طرفا فيها.
ب) إذا أحال مجلس الأمن، متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت (وهو ما حدث في قضية دارفور التي أحالها مجلس الأمن إلى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار رقم 1593 لعام 2005).
ج) إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق في جريمة من هذه الجرائم وفقا للمادة 15.
وتنص هذه المادة (15) فقرة 1، على أن "للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة".
وتنص الفقرة 3 من هذه المادة على الآتي: "إذا استنتج المدعي العام أن هناك أساسا معقولا للشروع في إجراء تحقيق، يقدم إلى دائرة ما قبل المحكمة طلبا للإذن بإجراء تحقيق، مشفوعا بأي مواد مؤيدة يجمعها، ويجوز للمجني عليهم إجراء مرافعات لدى دائرة ما قبل المحاكمة وفقا للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.sidiameur.info
Labza.Salem
Admin
Labza.Salem

عدد المساهمات : 43954
نقاط : 136533
تاريخ التسجيل : 12/09/2014
العمر : 29
الموقع : سيدي عامر

بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Empty
مُساهمةموضوع: رد: بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق   بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق Emptyالخميس 20 أبريل - 9:49

وتتحدث المادة 12 عن الشروط المسبقة لممارسة الاختصاص؛ حيث توضح حالات ثلاثة لدول يقع عليها ممارسة الاختصاص، وهي:
1 - الدولة التي تصبح طرفا في هذا النظام الأساسي.
2 - حالتا الفقرة أ وج من المادة 13، أي إحالة دولة طرف حالة إلى المدعي العام، أو أن يكون هو بدأ مباشرة في التحقيق، ففي هاتين الحالتين تمارس المحكمة اختصاصاتها على الدولة الطرف أو الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة، وهنا يقع اختصاص المحكمة في الدولة التي وقع في إقليمها السلوك قيد البحث أو دولة تسجيل السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن أحدهما، وعلى الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها.
3 - حالة القبول الإلزامي، وهنا تنص المادة 12/3 على الآتي: "إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازما بموجب الفقرة 2 من المادة 13 (الإحالة من مجلس الأمن)، جاز لتلك الدولة -بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة- أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصاتها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون تأخير أو استثناء".
ويفهم من نص هذه الفقرة أن ثمة حالة يتم فيها القبول الإلزامي بممارسة المحكمة لاختصاصاتها، لكن يجوز للدولة أن تقبل بذاتها ذلك الاختصاص بإيداع إعلان لدى سجل المحكمة بقولها ذلك، ولا يعني ذلك أن تستثنى الدولة التي لا تقبل إيداع مثل هذا الإعلان من أن تقع تحت اختصاصات المحكمة، والتي تم تكليفها من مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع.
ويؤكد ذلك المادة 2، والتي تنص على الآتي: "تنظم العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها".
هل من حصانة لأحد؟
تحدث الباب الثالث من النظام الأساسي عن المبادئ العامة للقانون الجنائي؛ وذلك في المواد من 22 إلى 33، وتشير المواد 22 و23 و24 إلى أنه: لا جريمة إلا بنص، ولا عقوبة إلا بنص، وإلى عدم رجعية الأثر على الأشخاص، أي لا يسأل الشخص بموجب هذا النظام الأساسي عن سلوك سابق لبدء نفاذ النظام.
وتفصل المادة 25 المسئولية الجنائية الفردية، أي وقوع اختصاص المحكمة على الأشخاص الطبيعيين، والحالات المختلفة التي يكون فيها الشخص مسئولا عنها بصفته الفردية وعرضة للعقاب.
وتشير المادة 26 إلى أنه لا اختصاص للمحكمة على الأشخاص الذين كان عمرهم أقل من 18 عاما وقت ارتكاب الجريمة.
أما المادة 27 فجاءت تحت عنوان: (عدم الاعتداد بالصفة الرسمية)، وتنص على الآتي:
1 - يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية وبوجه خاص؛ فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة، أو عضوا في حكومة أو برلمان، أو ممثلا منتخبا، أو موظفا حكوميا، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها سببا لتخفيف العقوبة.
2 - لا تَحُول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القوانين الوطنية أو القانون الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصاتها على هذا الشخص.
ويفهم من ذلك أن النظام الأساسي للمحكمة واجب التطبيق على ما سواه في سائر المواثيق الدولية فيما يتعلق بالحصانة الخاصة بالرؤساء والمسئولين وسفراء الدول.
وهذا ما سعت المادة 10 إلى توضيحه بداية حين نصت على الآتي: "ليس في هذا الباب (الباب الثاني حول اختصاصات المحكمة) ما يفسر على أنه يقيد أو يمس شكلا من أشكال قواعد القانون الدولي القائمة أو المتطورة المتعلقة بأغراض أخرى غير هذا النظام الأساسي".
وتأتي المادة 26 من الباب الثالث تحت عنوان (مسئولية القادة والرؤساء الآخرين) حيث تتحدث الفقرة (أ) منها على مسئولية القائد العسكري أو الشخص القائم بأعمال القائد العسكري الجنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب قوات تخضع لإمرته وسيطرته الفعليتين، نتيجة عدم ممارسة هذا القائد العسكري أو الشخص سيطرته على هذه القوات ممارسة سليمة، وتقدم حالتين لهذه الممارسة غير السليمة، هما: أن يكون قد علم، أو يفترض أنه قد علم، بسبب الظروف السائدة في ذلك الحين، بأن القوات ترتكب أو تكون على وشك ارتكاب هذه الجرائم، وإذا لم يتخذ جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع ارتكاب هذه الجرائم.
أما الفقرة (ب) من هذه المادة فتتحدث عن علاقة الرئيس والمرءوس غير الوارد وصفها في الفقرة السابقة، وتنص على الآتي: "يسأل الرئيس جنائيا عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرءوسين يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين؛ نتيجة لعدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرءوسين ممارسة سليمة".
وتعدد الفقرة حالات هذه الممارسة غير السليمة في حالات محددة هي:
1 - إذا كان الرئيس قد علم أو تجاهل عن وعي أي معلومات تبين بوضوح أن مرءوسيه يرتكبون أو على وشك أن يرتكبوا هذه الجرائم.
2 - إذا تعلقت الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسئولية والسيطرة الفعليتين للرئيس.
3 - إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم، أو لعرض المسألة على السلطات المتخصصة للتحقيق والمقاضاة. 
أزمة السودان والأمن القومي المصري
- مفهوم الأمن القومي
- خطورة الأزمة على الأمن القومي المصري
- الرؤية المصرية لتسوية الأزمة السودانية
- آليات التحرك
إن أحداث السودان الأخيرة المتعلقة بتعرض العاصمة السودانية لمحاولة "انقلابية فاشلة" أشبه بالمغامرة "سواء أكانت محسوبة أو غير محسوبة" أمر له تداعياته الداخلية وأيضا الخارجية خاصة فيما يتعلق بالأمن القومي المصري. 
وهو أمر يضع تحديات أمام القيادة المصرية تماما كما يضع تحديات أمام القيادة السودانية لمواجهة هذا التصعيد الأخير. فالأمر جد ليس بالهزل، وإن ما حدث –حتى وإن كان مغامرة- قد يفتح الباب لإمكانية حدوثه مجددا ما دام أصل المشكلة ما زال قائما ولم يتم حله إلى الآن.
وإذا كانت التحليلات خلال الفترة القليلة الماضية قد ركزت على الأبعاد والتداعيات الداخلية للأزمة، فإن التركيز على الدور المصري أو انعكاسات الأزمة على مصر لم ينل حظه الوافر من الرصد والتحليل، خاصة أن بعض الأخبار الواردة من موقع الأحداث -بفرض صحتها- أشارت إلى دعم عسكري مصري واضح لحكومة الخرطوم من أجل احتواءها.
فوفق ما ذكره بعض شهود العيان السودانيين فإن هناك ثلاث طائرات مصرية مقاتلة وطائرة شحن عسكرية هبطت في مطار الخرطوم لدعم النظام السوداني.
وهنا ينبغي ملاحظة أمرين: الأول أن الحكومة المصرية لم تنف ولم تؤكد صحة هذه الأخبار، والثاني أن الدعم هنا تمثل في الدعم العسكري المباشر وليس الدعم المعنوي. وهو ما يطرح التساؤل البديهي، لماذا؟
ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال قد يكون من المفيد أولا التعريف بمفهوم الأمن القومي على اعتبار أنه يشكل المحدد الرئيسي للسياسة الخارجية لأي بلد تجاه الأوضاع الداخلية والخارجية على حد سواء، ثم معرفة الرؤية المصرية في التعامل مع الأزمة السودانية بصفة عامة، وصولا إلى الإجابة عن السؤال الأهم. ما العمل أو بمعنى آخر ما هي آليات التحرك المصري في التعاطي مع تلك الأزمة؟
مفهوم الأمن القومي
يعني مفهوم الأمن القومي -ببساطة ودون الدخول في جدل نظري لا طائل من ورائه في هذا المقام- الحفاظ على مقدرات وإمكانات البلاد من الأخطار.
وهذه المقدرات تشمل أولا كيان الدولة والرموز الدالة على وجودها كالدستور والعلم والشعار الوطني والعملة الوطنية، ويضم كذلك الإقليم بحدوده المعروفة, والهوية الوطنية واستقرار النظام السياسي, ثم السيادة الوطنية في الداخل وتعني السيطرة التامة للدولة على كامل ترابها وعلى من يعيشون على هذا التراب.
وفي الخارج تشير إلى وقوف الدولة على قدم المساواة مع الدول الأخرى في المجتمع الدولي, وحصولها على جميع حقوقها ووفائها بكامل التزاماتها.
يضاف إلى ذلك استقلالية الدولة سواء في مواجهة القوى الخارجية أو الداخلية, وتتضمن المقدرات أيضا كينونة المجتمع (أرواح المواطنين, والنسيج الوطني والتجانس العام)، وتتضمن ثالثا: الموارد المادية (الطبيعية والاقتصادية), والموارد البشرية (نوعية البشر وصحتهم وتعليمهم وثقافتهم ونظام القيم).
خطورة الأزمة على الأمن القومي المصري
ووفق هذا التعريف لا يمكن اعتبار ما يحدث في السودان شأنا داخليا لا يخص الأمن القومي المصري لعدة أسباب:
1- إن عدم الاستقرار السياسي في السودان قد تكون له آثار اقتصادية وسياسية سيئة على مصر، ففي حالة حدوث قلاقل في الخرطوم مثلا كتلك التي حدثت مؤخرا، فإنه سيترتب على ذلك حدوث نزوح جماعي للاجئين الفارين من الحرب تجاه دول الجوار، ومن بينها مصر.
ونحن نعلم أن هؤلاء اللاجئين قد يشكلون عبئا على مصر سواء في النواحي الاقتصادية، أو حتى الأمنية، لأن هؤلاء اللاجئين قد يهربون ومعهم السلاح، وقد يفكرون في استخدام الأراضي المصرية في شن هجوم مضاد داخل الأراضي السودانية، كما أن بعضهم قد يفكر في التغلغل داخل الأراضي المصرية لحساب دول أخرى تهتم بزعزعة الأمن القومي المصري.
ونقصد بذلك تحديدا إسرائيل، خاصة بعدما أثبتت أحداث أزمة جنوب السودان، وأزمة دارفور وجود علاقات إسرائيلية مشبوهة سواء مع الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجنوب، أو بعض حركات التمرد في دارفور مثل حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد نور الذي افتتح قبل شهرين تقريبا مكتبا لحركته في تل أبيب.
ولعل هذه المخاوف تزداد مع كثرة محاولات تغلغل لاجئي دارفور في إسرائيل عبر الحدود المصرية، حيث قامت السلطات المصرية بالقبض على العديد منهم، لكن يبدو أن محاولات التغلغل لن تنتهي.
ولعله من المفيد في هذا الشأن تذكر الانعكاسات الاجتماعية والأمنية السيئة لمشكلة اللاجئين السودانيين في ميدان المهندسين قبل ثلاثة أعوام تقريبا واعتصام هؤلاء في هذا الميدان بسبب رفض مفوضية اللاجئين منحهم حق صفة لاجئ، مما اضطر السلطات الأمنية المصرية إلى تفريق هذا التجمع بالقوة. وهو ما أثر بالسلب على العلاقة بين البلدين.
2- إن شمال السودان الذي يعد نقطة التماس المباشر مع الحدود المصرية بدأت تظهر فيه بعض الحركات التي يمكن أن تشكل تهديدا للأمن القومي المصري مثل حركة كوش، وهي حركة تسعى لإقامة دولة النوبة القديمة في مصر والسودان.
وهذا يعني أنها تطالب باستقلال النوبيين عن مصر والسودان وتشكيل دولة النوبة، وهو بالطبع أمر يمس الأمن القومي في الصميم، خاصة أنه يرغب في اقتطاع جزء من الأراضي المصرية.
وهناك مخاوف فعلية من أن تلعب الولايات المتحدة على سبيل المثال بورقة النوبة، كما لعبت -ولا تزال– بورقة أقباط المهجر من أجل الضغط على النظام المصري للانصياع للتعليمات الأميركية.
ومما يزيد من هذه المخاوف أن المجتمع النوبي غير مختلط ولا منصهر بصورة كبيرة في المجتمع المصري، خاصة فيما يتعلق بعادات الزواج والمصاهرة، إذ من الصعب أن يتزوج النوبي من غير نوبية.
ومن ثم فإن الأحداث الأخيرة كان يمكن أن تنشط هذه "الخلايا النائمة" وتدفع في اتجاه تعزيز مطالبها بشأن السودان "الممزق" في هذه الحالة.
3- إن حدوث قلاقل في السودان قد يؤثر على إمكانية زيادة حصة مصر من مياه النيل مستقبلا، فمصر تشهد حاليا حالة من الندرة المائية أدى إليها تزايد عدد السكان مع ثبات كمية المياه الواردة إلى مصر منذ اتفاقية 1959 (تقدر بـ55 مليار متر مكعب سنويا).
وتعيش مصر الآن تحت خط الفقر المائي (مقدار هذا الخط ألف متر مكعب للفرد سنويا، في حين يبلغ متوسط دخل الفرد المصري من المياه 985 مترا مكعبا عام 2000، ويتوقع أن يصل إلى خمسمائة متر مكعب فقط عام 2020).
ومعنى ذلك أن مصر مطالبة بتوطيد علاقاتها مع دول حوض النيل خلال الفترة القادمة، ومحاولة التوصل إلى اتفاقيات جديدة تسمح بزيادة كميات المياه الواردة إليها.
ومعروف أن مياه النيل هي شريان الحياة لدى كل المصريين، ومن ثم فإن المساس بها يعد قضية أمن قومي بدون أدني شك وفق التعريف السابق.
لذا فإن حدوث قلاقل في السودان أو تفتيه إلى أربع دول (دولة في الشمال حيث العاصمة الخرطوم، وأخرى في الغرب حيث دارفور، وثالثة في الجنوب حيث قوات الجيش الشعبي، ورابعة في الشرق حيث قوات البجا) قد يجعل هناك صعوبة مصرية في التفاوض المستقبلي حول زيادة حصتها من المياه.
ومعروف أن حصة مصر من المياه تأتي بالكامل عبر الأراضي السودانية من خلال النيلين الأبيض والأزرق، كما أن من الأمور التي ينبغي تذكرها في هذا الشأن هو كيف أن مشروع قناة جونجلي توقف بسبب أزمة الجنوب.
4- إن السودان يعد بوابة العبور المصري تجاه القارة الأفريقية، خاصة دول حوض النيل الثماني غير مصر والسودان.
وقد ازداد الاهتمام بهذه الدول بعد انضمام مصر للكوميسا عام 1998، وسعيها لتدعيم وجودها في هذه المنظمة الفرعية الخاصة بدول الشرق والجنوب لمواجهة التنافس مع الدول القوية في شرق أفريقيا من ناحية "مثل كينيا وإثيوبيا" أو الدول الأخرى في باقي الأقاليم الفرعية "مثل نيجيريا في الغرب حيث منظمة الإيكواس وجنوب أفريقيا في الجنوب حيث تجمع السادك".
ولعل الأسباب السابقة تكشف لنا أن أي مساس بالاستقرار في السودان هو مساس بالأمن القومي المصري، ومن ثم فإن مصر ترغب دائما في البقاء على استقرار السودان ومنع تفتيته وتجزئته إلى أقاليم فرعية، أو حتى إضعافه، كما ترغب في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل.
الرؤية المصرية لتسوية الأزمة السودانية
ومن هنا يمكن فهم الرؤية المصرية للتعامل مع كل أزمات السودان سواء تلك المتعلقة بأزمة الجنوب أو الغرب، أو حتى الشرق.
هذه الرؤية تقوم على إبقاء السودان موحدا، مع إعادة توزيع السلطة والثروة بشكل متساو على أساس مبدأ المواطنة.
هذه الرؤية هي التي تمت بلورتها في إطار المبادرة المشتركة مع ليبيا عام 1999، وتركيزها على قضيتي وحدة السودان، وتضمين جميع الأطراف الشمالية والجنوبية في عملية التسوية.
ولعل ذلك كان أحد أسباب اصطدامها بمبادرة الإيغاد المدعومة من خلال شركاء الإيغاد المتمثلين في الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي، إذ كان التركيز في المبادرة الثانية على الخيار بين أمرين هما إما علمانية السودان الموحد، أو حق تقرير المصير للجنوب، مع استبعادها لكافة الأطراف غير الجنوبية في عملية التسوية.
ومن ثم تم تهميش تلك المبادرة المصرية لصالح مبادرة الإيغاد، أما فيما يتعلق بأزمة دارفور فقد ارتكز الدور المصري على محاولة حلها سلميا والسعي للتوفيق بين أطراف النزاع مما يساهم في حقن الدماء وإنقاذ السودان من التدخل الأجنبي والحفاظ على وحدة السودان، فضلا عن موقفها الرافض لنشر قوات دولية في الإقليم دون موافقة حكومة الخرطوم.
كما اعترضت مصر على وصف الصراع بأنه صراع عربي أفريقي، وأنه وصل إلى درجة المذابح الجماعية التي تستدعي التدخل الدولي، ومن هنا عملت مصر على التهدئة بين الحكومة السودانية والمجتمع الدولي.
وقامت مصر بالتحذير من خطورة الضغط على حكومة الخرطوم، وفي المقابل طالبت الأخيرة بإبداء قدر من المرونة تجاه مطالب حركات التمرد.
وعندما بات التدخل الدولي أمرا لا مفر منه حرصت مصر على المشاركة في قوات حفظ السلام في دارفور، تماما كما شاركت من قبل في قوات حفظ السلام الدولية في إطار الترتيبات الخاصة بتنفيذ اتفاقيات نيفاشا.
آليات التحرك
لعل الأحداث الأخيرة التي شهدتها السودان تستدعي ضرورة التحرك المصري وبقوة لتسوية الأزمات المختلفة في البلاد خاصة أزمة دارفور.
هذا التحرك المصري يرتكز على منطلقين أساسيين يشكلان زخما له:
الأول: هو أن مصر طرف محايد ليست له أجندة خفية لدعم هذا الطرف أو ذاك، وإن كان وقوفها في بعض الأحيان لجانب الشرعية الدستورية متمثلة في النظام الحاكم قد يكون مثار اعتراض بعض قوى التمرد خاصة في أزمة دارفور.
لكن هذا اللبس يمكن أن يزول من خلال التواصل المصري مع هذه القوى بصورة ترتكز على مقولة أن دعم الشرعية الدستورية لا يعني غض الطرف عن مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة والتوزيع العادل للسلطة.
الثاني: هو أن مصر قد تكون الوسيط المقبول، خاصة بعدما أثبتت التسوية الإقليمية للأزمة من خلال الإيغاد أو شركائها عن تهميش واضح لبعض القوى خاصة قوى الشمال أو حتى الغرب.
ومن ثم فإن إعادة تفعيل المبادرة المصرية الليبية –تحت أي مسمي- قد يكون أحد الحلول الناجعة في هذا الصدد.
ومن هنا فقد تكون الأحداث الأخيرة نقطة انطلاق قوية لمصر لجمع الفرقاء السودانيين، بشتى طوائفهم الفكرية وانتماءاتهم الإقليمية، على مائدة حوار وطني واحد لإيجاد تسوية شاملة للأزمة، حتى لا يتحول السودان إلى لبنان أو حتى عراق آخر لا تستعر بنيرانه قوى الداخل فحسب، وإنما دول الجوار أيضا.
وقد تكون تصريحات الرئيس البشير الأخيرة بشأن تقديم مزيد من التنازلات لقوى التمرد في دارفور نقطة الانطلاق لهذا التحرك المصري من أجل مساعدة السودان الشقيق على الخروج من هذه الحلقة المفرغة.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.sidiameur.info
 
بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» بحث عن السودان وخطر التقسيم - بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق
» بحث عن السودان وخطر التقسيم - بحث مفصل عن السودان وخطر التقسيم كامل ومنسق
»  بحث مفصل عن الإلياذة كامل ومنسق
» بحث مفصل عن الشهيد كامل ومنسق للطباعة
» بحث عن الشهيد - بحث مفصل عن الشهيد كامل ومنسق للطباعة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
سيدي عامر إنفو :: القسم الدراسي والتعليمي :: التوظيف والمسابقات دروس و البحوث :: البحـوث والكتب الجـامعية والمـدرسيـة الشـاملة-
انتقل الى: