قال فيمن صرف دراهم فقال الصيرفي : ليس هذا درهمي : يحلف الصيرفي بالله لقد وفيتك ويبرأ ، فإن رد بخيار فأنكرها البائع فحكى ابن المنذر عن أحمد أن القول قول المشتري وهو قول الثوري واسحق لأنهما اتفقا على استحقاق الفسخ ، وإن باع عبداً يلزمه عقوبة وعلم المشتري فلا شيء له ، وإن علم بعد البيع فله الرد أو الأرش ، فإن لم يعلم حتى قتل فله الأرش ، وقال الشافعي : يرجع بالثمن لأن تلفه لمعنى استحق عند البائع فجرى مجرى إتلافه ، وإن كانت الجناية موجبة للمال أو القود فعفى عنه إلى مال فعلى السيد ، وإن كان معسراً ففي رقبة الجاني مقدماً على المشتري وللمشتري الخيار إن لم يكن عالماً .
( السادس خيار يثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة ) ، ولابد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال ، ولا يثبت فيها الخيار إذا أخبره بزيادة في الثمن أو نحو ذلك . والتولية البيع برأس المال ، قالا أحمد : لا بأس بيع الرقم ، والرقم الثمن المكتوب عليه إذا كان معلوماً ، وكره طاوس بيع الرقم ، وإذا اشترى شيئاً فقال لغيره : اشكرتك انصرف إلى النصف ، فإن اشترى اثنان فقال لثالث أشركناك احتمل أن يكون له النصف ويحتمل أن يكون له الثلث لأن الاشتراك يفيد التساوي ، وإن أشركه كل واحد منهما منفرداً كان له النصف ولكل واحد منهما الربع ، وإن قال : أشركاني فأشركه أحدهما فعلى الوجه الاول له نصف حصة الذي أشركه ، وعلى الآخر له السدس لأن طلب الشركة بينهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل واحد منهما ، وإن قال أحدهما أشركناك ابتنى على تصرف الفضولي .
والمرابحة : أن يبيعه بربح فيقول : بعتك بربح عشرة ، وإن قال : على أن أربح في كل عشرة درهماً أوده يازده فرويت كراهته عن ابن عمر وابن عباس ، وقال اسحق : لا يجوز لان الثمن مجهول حال العقد فلم يجز ، ورخص فيه ابن المسيب وغيره ، ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولأن فيه نوعاً من الجهالة وهذا كراهة تنزيه والجهالة يمكن إزالتها بالحساب كبيع الصبرة كل قفيز بدرهم .
والمواضعة أن يقول : بعتك بها ووضيعة درهم من كل عشرة ، فإن باعه مرابحة مثل أن يخبر أن ثمنها مائة ويربح عشرة ثم علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون فالبيع صحيح ويرجع بما زاد على الثمن وهو عشرة وحظها من الربح وهو درهم وبهذا قال الثوري وأحد قولي الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يخير بين الأخذ بكل الثمن أو يترك قياساً على المبيع المعيب والفرق بينهما أن المعيب لم يرض به إلا بالثمن المذكور وهنا رضى برأس المال والربح المقرر ، والمنصوص عن أحمد أن المشتري يخير بين الأخذ برأس المال وحصته وبين الفسخ لأنه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن لكونه حالفاً أو وكيلا أو غير ذلك ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له وأما البائع فلا خيار له . وإن قال : رأس مالي مائة وأربح عشرة ثم قال غلطت رأس مالي مائة وعشرة لم يقبل إلا ببينة تشهد أن رأس ماله ما قاله ثانياً ذكره ابن المنذر عن أحمد وإسحق ، وروى أبو طالب عن أحمد إذا كان البائع معروفاً بالصدق قبل قوله ، فإن لم يكن صدوقاً جاز البيع ، وقال القاضي ظاهر كلام الخرقي أن القول قول البائع مع يمينه لأنه أمين ، والصحيح الأول وكونه مؤتمناً لا يوجب قبول دعواه في الغلط كالمضارب إذا أقر بربح ثم قال غلطت ، وعنه لا يقبل قوله ولو أقام بينه حتى يصدّقه المشتري وهو قول الشافعي لأنه أقر بالثمن ، وإن أقام بينة لإقراره بكذبها ، ولنا أنها بينة فتقبل كسائر البينات وإقراره حال الإخبار لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن إقراراً . ومتى اشتراه بثمن مؤجل أو ممن لا تقبل شهادته له أو بأكثر من ثمنه حيلة أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك للمشتري الخيار ، وحكي عن أحمد إن كان المبيع قائماً خير بين أخذه بالثمن مؤجلا وبين الفسخ وإن كان قد استهلك حبس الثمن بقدر الأجل وهو قول شريح ، وإن اشترى شيئين صفقة واحدة وأراد بيع أحدهما مرابحة أو اشترى اثنان شئياً فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة فإن كان من المتقومات التي لا ينقسم عليها الثمن بالأجزاء كالثياب لم يجز حتى يبين الحال وهذا مذهب الثوري وإسحق ، وقال الشافعي يجوز كما لو كان المبيع شقصاً وسيفاً فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته ، ولنا أن قسمة الثمن طريقه الظن والخطأ فيه كثير وبيع المرابحة أمانة فلم يجز فيه فهو كالخرص لا يباع به ما يجب التماثل فيه ، وأما الشفيع فلنا فيه منع ، وإن سلم فللحاجة لأنه يتخذ طريقاً إلى إسقاط الشفعة ، فإن باع فللمشتري الخيار ، وإن كان من المتماثلات كالبر المتساوي جاز ذلك لا نعلم فيه خلافاً
وإن أسلم في ثوبين بصفة واحدة فأخذهما على الصفة فله بيع أحدهما مرابحة بحصته ، وإن حصل في أحدهما زيادة على الصفة جرت مجرى الحادث بعد البيع على ما نذكره ، وإن حط عنه بعض الثمن أخبر به لا نعلم فيه خلافاً ، وإن تغير سعرها فإنغلت لم يلزمه الإخبار وإن رخصت فكذلك لأنه صادق نص عليه ، ويحتمل أن يلزمه الإخبار وما يؤخذ أرشاً لعيب فذكر القاضي أنه يخبر به ، وقال أبو الخطاب : يحط أرش العيب من الثمن ويخبر بالباقي . وإن اشترى ثوباً بعشرة وقصره بعشرة أخبر بذلك على وجهه ، فإن قال يحصل بعشرين فهل يجوز ؟ على وجهين . وإن أخذ النماء المنفصل أو استخدم الأمة أو وطىء الثيب أخبر برأس المال ، وروي عن أحمد أنه يبين ذلك كله ، وإن عمل فيها عملا أخبر به ولا يقول تحصل بكذا علي ، وبه قال الحسن وابن سيرين وابن المسيب وغيرهم ، وفيه وجه أنه يجوز أن يضم الأجرة إلى الثمن ويقول تحصلت عليه بكذا لأنه صادق وبه قال الشعبي والشافعي . وإن اشتراه بعشرة ثم باعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة أخبر به على وجه ، وإن قال : اشتريته بعشرة جاز ، وقال أصحابنا : يحط الربح من الثمن الثاني ويخبر أنه اشتراه بخمسة عشر ، وروي عن ابن سيرين ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا أن يبين أمره أو يخبر أن رأس ماله عليه بخمسة . وإن ابتاع اثنان ثوباً بعشرين ثم بذل لهما اثنان وعشرون فاششترى أحدهما نصيب صاحبه بذلك السعر فإنه يخبر بأحد وعشرين نص عليه وهذا قول النخعي ، وقال الشعبي : يبيعه على اثنين وعشرين لأن ذلك الدرهم الذي أعطيه قد أحرزه ، ثم رجع إلى قول النخعي بعد ذلك ولا نعلم أحداً خالفه ، قال أحمد : المساومة عندي أسهل من بيع المرابحة لأنه يعترية أمانة واسترسال من المشتري .
( السابع خيار يثبت لاختلاف المتبايعين ) فمتى اختلفا في قدر الثمن تحالفاً فيبدأ بيمين البائع فيحلف ما بعت بكذا وإنما بعته بكذا ، ثم يحلف المشتري ما اشتريت بكذا وإنما اشتريته بكذا ، وبه قال شريح والشافعي ورواية عن مالك ، وله رواية أخرى ، القول قول المشتري مع يمينه وبه قال أبو ثور لأن البائع يدعي ما ينكر المشتري ، وقال الشعبي القول قول البائع أويترادّان البيع وحكاه ابن المنذر عن أحمد لما روى ابن مسعود مرفوعاً " إذا اختلف البيّعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادّان البيع " رواه ابن ماجه ، والمشهور الأول ، ويحتمل أن معنى القولين واحد وأن القول قول البائع مع يمينه ، فإذاحلف فرضى المشترى أخذ به ، وإن أبي حلف أيضاً وفسخ البيع لأن في بعض ألفاظه " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا " ولأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه لأن المشتري يدعي عقداً بعشرة ينكره البائع وهذا الجواب عما ذكروه ، وقال أبو حنيفة : يبدأ بيمين المشتري لأنه منكر ولأنه يقضي بنكوله ، ولنا قوله " فالقول ما قال البائع أو يتردّان البيع " وفي لفظ " فالقول قول البائع والمشتري بالخيار " رواه أحمد ومعناه إن شاء أخذ وإن شاء حلف ولأن البائع أقوى جنبه لأنهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه كصاحب اليد ، والبائع إذاحلف فهو بمنزلة نكول المشتري فهما سواء ، وإذا تحالفا فرضي أحدهما بقول صاحبه أقرّ العقد وإلا فلكل واحد منهما الفسخ ، ويحتمل أن يقف الفسخ على الحاكم وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن أحدهما ظالم ويتعذر إمضاء العقد في الحكم كنكاح من زوجها وليان وجهل السابق ، ولنا قوله " أو يترادان البيع " وروي أن ابن مسعود باع الأشعث رقيقاً من رقيق الإمارة فقال بعتك بعشرين ألفاً وقال الأشعث : شريت منك بعشرة ، فقال عبد الله : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول قول البائع أو يترادان البيع" قال : فإني أرد البيع رواه سعيد ، وروي أيضاً عن عبد الملك بن عبدة مرفوعاً " إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم كان للمشترى الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك " وهذا ظاهر أنه يفسخ من غير حاكم ولا يشبه النكاح لأن لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق ، وإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها . وإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري مع يمينه ، وعنه لا يتحالفان إذا كانت تالفة والقول قول المشتري مع يمينه وهو قول أبي حنيفة لمفهوم قوله : " والسلعة قائمة " ولأنهما اتفقا في نقل السلعة إلى المشتري واستحقاق عشرة واختلفا في عشرة وتركنا هذا القياس حال قيامها للحديث ، ووجه الأولى عموم قوله : " إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار " قال أحمد : ولم يقل فيه : " والمبيع قائم " إلا يزيد بن هرون ، قال أبو عبد الله : وقد أخطأ رواه الخلف عن المسعودي ولم يقولوا هذه الكلمة ، وقولهم : تركناه للحديث قلنا : لم يثبت في الحديث " تحالفا " قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه ، وإذا خولف الأصل لمعنى وجب تعدية الحكم بتعدي المعنى بل يثبت الحكم بالبينة بأن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع انه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها فمع تعذره أولى . فإذا تحالفا فإن رضى أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ لعدم الحاجة ، وإلا فلكل واحد مهما فسخة ويرد المشتري قيمتها إلى البائع ، وينبغي أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ إذا كانت القيم متساوية الثمن ويكون القول قول المشتري مع يمينه لأنه لا فائدة فيه ، وإن كان القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ ، فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ ، ويحتمل أن يشرع لتحصيل الفائدة للمشتري ، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينة لأنه غارم ، وإن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض الثمن ثم اختلفا في قدره فقول بائع لانه منكر ، وإن اختلفا في صفة الثمن تحالفا إلا أن يكون للبلد نقد معلوم فيرجع إليه ، وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها نص عليه ، وعلى مدعى ذلك اليمين . وإن لم يكن في البلد إلا نقدان تحالفا كما لو اختلفا في قدره ، وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدمه ، والرواية الثانية يتحالفان وهو قول الشافعي . وإن اختلفا في ما يفسد العقد فقول مدعى الصحة مع يمينه . وإن قال : بعتك وأنا صبي فالقول قول المشتري نص عليه وهو قول الثوري وإسحق لأنهما اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده ، وإن قال بعتني هذين فقال أحدهما فقول بائع ، وإن قال البائع : بعتك هذا العبد بألف فقال بل هو والعبد الآخر بالف فقول بائع وهو قول أبو حنيفة ، وقال الشافعي : يتحالفان كما لو اختلفا في الثمن وهذا أقيس ، وإن قال : بعتني هذا فقال : بل هذا حلف كل واحد منهما على ما أنكره ولم يثبت بيع واحد منهما لأن كل واحد منهما يدعى عقداً على عين ينكرها المدعى عليه ، فإذا حلف ما بعتك هذه الجارية أقرت في يده ، وإن كان المدعى قبضها ردت ، وأما العبد فإن كان في يد البائع أقر في يده ولم يكن للمشتري طلبه لانه لا يدعيه وعلى البائع رد الثمن ، وإن كان في يد المشتري رده لأنه يعترف أنه لم يشتره ، وليس للبائع طلبه إذا بذلك ثمنه لاعترافه ببيعه وإلا فلع استرجاعه ، وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه ثبت العقدان لأنهما لا يتنافيان . وإن قال البائع : لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن وقال المشتري حتى أقبض المبيع وكان الثمن عيناً أو عرضاً جعلا بينهما عدلا يقبض ويسلم إليهما ، وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على التسليم ( أولا وقال أبو حنيفة ومالك : يجبر المشتري أولا على تسلم الثمن ) لأن للبائع حبس المبيع عليه. وإن كان ديناً أجبر البائع على التسليم ثم المشتري على تسليم الثمن ، وقال مالك وأبو حنيفة : يجبر المشتري أو لا ، ولا كالتي قبلها . وإذا سلمه البائع وكان المشتري موسراً أجبر على تسليم الثمن إن كان حاضراً وإن كان الثمن غائباً في مسافة القصر أو كان المشتري معسراً فللبائع الفسخ كالمفلس وإن كان غائباً قريباً فللبائع الفسخ في أحد الوجهين ، والثاني : لا . فإن هرب المشتري وهو معسر فللبائع الفسخ ، وإن كان موسراً أثبت البائع ذلك عند الحاكم ثم إن وجد له الحاكم مالا قضاه وإلا باع المبيع وقضى ثمنه منه ، وقال شيخنا : ويقوى عندي أن للبائع الفسخ بكل حال لأنا أبحنا له الفسخ مع حضوره إذا كان الثمن بعيداً . وليس للبائع الامتناع من التسليم بعد قبض الثمن لأجل الاستبراء وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ، وحكي عن مالك في القبيحة وقال في الجميلة : يضعها على يدي عدل حتى تستبرأ .
فصل : ومن اشترى مكيلا أو مووزناً لم يجز بيعه حتى يقبضه . وإن تلف قبله فمن مال بائع إلا أن يتلفه آدمي فيخير المشتري بين الفسخ ومطالبة المتلف ، وسواء كان متعيناً كالصبرة أو غير متعين كقفيز منها، وروى عن عثمان وابن المسيب وغيرهما أن ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه ، وما ليس بمكيل ولا موزون فيجوز بيعه قبل قبضه ، وقال القاضي وأصحابه : المراد بذلك ما ليس بمتعين ونقل عن أحمد نحو ذلك فإنه قال في رجل اشترى طعاماً وطلب من يحمله فرجع وقد احترق فمن مال المشتري . وذكر الجوزجاني فيمن اشترى ما في السفينة صبرة ولم يسم كيلا فلا بأس أن يشرك فيها ويبيع ما شاء إلا أن يكون بينهما كيلا ونحوه قال مالك وأبو حنيفة ووجه قول ابن عمر مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فهذا من مال المبتاع رواه البخاري . ونقل عن أحمد المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان مكيلا أو موزوناً أو لم يكن فعليها يختص ذلك بالمطعوم ، قال الترمذي : روي عنه أنه أرخص في بيع ما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه ، قال الأثرم : سألته عن قوله نهى عن ربح ما لم يضمن قال : هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول أو مشروب فلا يبيعه حتى يقبضه ، قال ابن عبد البر : الاصح عن أحمد أن الذي يمنع منه الطعام لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل قبضه ، فمفهومه إباحة بيع ما سواه ،وروى ابن عمر قال : رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يأووا إلى رحالهم ، وهذا نص في بيع المعين ، وعموم قولهم من ابتاع طعاماً ألخ متفق عليهما وهذا يدل على تعميم المنع في كل طعام مع نصه على البيع مجازفة بالمنع وهو خلاف قول القاضي ، وكل ما لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه لا يجوز بيعه حتى يقبضه لانعلم فيه خلافاً إلا ما حكى عن البتى أنه لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه ، قال ابن عبد البر : وهذا مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام وأظنه لم يبلغه الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه . والبيع بصفة أو رؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع .
وإن تعيب في يد البائع أو تلف بعضه بآفة سماوية خير المشتري بين أخذه ناقصاً وبين الفسخ . وما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه في أظهر الروايتين ، وقال الشافعي : لا يجوز بيع شيء قبل قبضه ، ولنا على جواز التصرف فيه قبل قبضه ما روى ابن عمر قال : كنا نبيع الإبل في البقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير وبالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء " وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه ، وقال صلى الله عليه وسلم في البكر : " هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت " . ولنا على أنه إذا تلف فمن ما المشتري قوله : " الخراج بالضمان " وهذا نماؤه له ، وأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها إلى حديث الطعام وهو حجه لنا بمفهومه ، وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه . والأجرة وبدل الصلح عن دم العمد إذا كان من المكيل والموزون أو المعدود وما لا ينفسخ بهلاكه يجوز التصرف فيه كعوض الخلع والعتق على مال لأن المقتضي للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر لانفساخه بهلاك المعقود عليه لم يجز لنا بناء عقد آخر عليه تحرزاً من الغرر ، وما لا يتوهم فيه ذلك جاز العقد عليه وهذا قول أبي حنيفة ، والمهر كذلك لأنه لا ينفسخ بهلاكه . وقال الشافعي : لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ، ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لانه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالرد قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو سبب من غير جهتها ، وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع ، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول ، فإن اشترى اثنان طعاماً فقبضاه ثم باع أحدهما الآخر نصيبه قبل أن يقسماه فكرهه الحسن وابن سيرين لأنه لم يقبض نصيبه مفرداً ، ويحتمل الجواز لأنه مقبوض لهما يجوز بيعه لأجنبي فجاز لشريكه ، فإن تقاسماه وتفرقا ثم باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل لم يجز كما لو اشترى من رجل طعاماً فاكتاله وتفرقا ثم باعه إياه بذلك الكيل ، وإن لم يتفرقا خرج على الروايتين .
وكل ما يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز الشركة فيه ولا التولية ولا الحوالة به ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه لأنه يختص بمثل الثمن الأول فجاز كالإقالة ، ولنا أن التولية والشركة من أنواع البيع فدخل في عموم النهي .
ويحصل القبض فيما بيع بكيل أو وزن بكيله أو وزنه ، وروي عن أحمد أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز ، ولنا ماروى عثمان مرفوعاً : " إذا بعت فكل ، وإذا ابتعت فاكتل " رواه البخاري ، وروى ابن ماجه أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري ، وهذا فيما بيع كيلا . وفي الصبرة وما ينقل بالنقل لحديث ابن عمر وهو يبين أن الكيل وجب فيما بيع بالكيل وقد دل على ذلك قوله : " إذا سميت الكيل فكل " . وأجرة الكيال والوزان على البائع كسقي الثمرة ، وأما نقل المنقولات وما أشبهه فعلى المشتري لأنه لا يتعلق به حق توفية .
والإقالة فسخ ، تجوز قبل القبض ، ولا يستحق بها شفعة ولا تجوز إلا بمثل الثمن ، وفيه وجه آخر أنها تجوز بمثل الثمن الأول وأقل منه .
ومن هنا إلى آخر الباب من ( الانصاف ) :
لو ألحقنا بالعقد خياراً بعد لزومه لم يلحق ، قال في الفائق يتخرج إلحاقه وهو المختار انتهى . وهو رواية في الرعاية وغيرها .
ولا يجوز الخيار مجهولاً ، وعنه يجوز وهما عليه إلا أن يقطعاه أو تنتهي مدته . ولو وليت الإجارة العقد لم يثبت فيها يعني خيار الشرط ، وقيل : يثبت قال في الفائق : اختاره شيخنا وهو المختار . وقال الشيخ : يثبت خيار الشرط في كل العقود ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ، ونقل أبو طالب له الفسخ برد الثمن وجزم به الشيخ كالشفيع ، وليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار ، وقال في القواعد : المنصوص عن أحمد أن للمشتري التصرف فيه بالاستغلال ، وظاهر قوله ليس لواحد منهما النصرف في المبيع في مدة الخيار أن للبائع التصرف في الثمن المعين وغيره إذا قبضه ، وهو ظاهر كلامه في الشرح والفروع وغيره لعدم ذكرهم للمسألة . وأما تصرف المشتري ووظؤه وتقبيله فهو إمضاء وإبطال لخياره ، وعنه لا يبطل به ، وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه وبطل خيارهما ، وعنه لا يبطل خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة يوم العتق .
قوله في التلقي : وعلموا أنهم قد غبنوا وعنه لهم الخيار وإن لم يغبنوا وثبت للمسترسل الخيار إذا غبن وهو من المفردات ، وعنه لا يثبت . ويحرم تغرير مشتر بأن يسومه كثيراً ليبذل قريباً منه ذكره الشيخ . وقال : وإن دلس مستأجر على مؤجر وغره حتى استأجره بدون القيمة فله أجرة المثل . ويرد مع المصراة صاعاً من تمر ، وقال الشيخ : يعتبر في كل بلد صاعاً من غالب قوته .
ولا يحل تدليس ولا كتمان عيب ، قال الشيخ : وكذا لو أعلمه ولم يعلما قدره ، وأنه يجوز عقابه بإتلافه والتصدق به إذا دلسه ، قال : والجار السوء عيب ، قال أحمد : من اشترى مصحفاً فوجده ينقص الآية والآيتين ليس هذا عيباً ، لأنه لا يخلو المصحف من هذا . وقوله فله الخيار ، وعنه ليس له أرش إلا إذا تعذر رده اختاره الشيخ ، وكذلك يقال في نظائره كالصفقة إذا تفرقت ، وعنه لا رد ولا أرش لمشتر ، وهبة بائع ثمناً أو براءة منه كمهر ، وفي وراية ولو أسقط المشتري الخيار بعوض بذل له جاز وليس من الأرش ، ونص أحمد على مثله في خيار المعتقة تحت عبد . والنماء المتصل للبائع ، وقال الشيرازي : للمشتري اختاره الشيخ ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور فعلى هذا يقوم على البائع ، ووطء الثيب لا يمنع الرد ، وعنه يمنع اختاره الشيخ ، وعنه عهدة الحيوان ثلاثة أيام ، والمذهب لا عهدة قال أحمد : لا يصح فيه حديث . وتقدم أن الشيخ قال : يجبر في خيار العيب على الرد أو الأرش إن تضرر البائع أي بالتأخير . وقوله لم يجز بيعه حتى يقبضه وعنه يجوز بيعه لبائعه اختاره الشيخ . وجوز التولية فيه والشركة وخرجه من بيع دين ، واختار أيضاً جواز التصرف فيه بغير بيع ، وذكر أبو الخطاب رواية أن المطعوم كالمكيل والموزون لا يجوز التصرف فيه مطلقاً ولو ضمنه اختاره الشيخ وقال : عليها تدل أصول أحمد كتصرف المشتري في الثمرة والمستأجر في العين مع أنه لا يضمنها ، وعكسه كالصبرة المعينة كما شرط قبضه لصحته كسلم وصرف . وما جاز له التصرف فيه فمن ضمانه إذا لم يمنعه البائع ، وقال الشيخ : لا يكون من ضمانه إلا إذا تمكن من قبضه ، وقال : ظاهر المذهب الفرق بين ما تمكن من قبضه وغيره ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره قال في الفروع : كذا قال ، ويحرم تعاطيهما عقداً فاسداً فلا يملك به قال الشيخ : يترجح أنه يملك بعقد فاسد .
المراجع :
كتاب البيع
الشيخ محمد بن عبدالوهاب
1115 هـ - 1206 هـ